الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم هي المسؤولة عن اختيار الفائزين بجائزة نوبل وبالتالي لها مكانة عالمية مرموقة، ولكن نظراً أنّ جائزة نوبل كانت تقتصر على تخصصات الفيزياء والكيمياء، لهذا اهتمت تلك الأكاديمية بطرح جوائز علمية إضافية في الرياضيات والفلك وعلم الأحياء والبيئة. أحد الفائزين بهذه الجائزة الجديدة وهي "جائزة كارفورد" كان عالم الأحياء الأمريكي "إدوارد ويلسون" والذي حصل عليها عن أبحاثه حول السلوك الاجتماعي للنمل، وقد استمتعتُ بمشاهدة محاضرته العلمية الشيقة عن النمل التي ألقاها في جامعة الملك سعود قبل عدة سنوات، وإن كان قد تم التعريف به بشكلٍ خاطئ بأنه حصل على جائزة نوبل عن دراساته العلمية عن النمل.
السنة الدولية للإبليات 2024
وبالإضافة لكون حشرة النمل جذبت بشدة اهتمام العلماء، فهي كذلك كانت مصدر إلهامٍ فني للأدباء، بدليل أنّ الروائي الفرنسي المعاصر "ولج فيربير" أصدر "ثُلاثية النمل" وهي ثلاث روايات أدبية مطوَّلة محورها الأساسي ذلك المخلوق العجيب: النملة. وما أود الوصول له أنه بالرغم من جدارة العديد من الكائنات مثل النحل، والخيل، والكلب، والنخيل، والزيتون بأن تحظى باهتمام العلماء والأدباء على حدٍّ سواء إلا أنه من وجهة نظري كان من المفترض ألا تغيب الإبل عن هذا الشرف والشغف. فعلماء الأحياء والطب من أهل الإسلام كان يجب عليهم أن يضاعفوا الجهود العلمية والأنشطة البحثية المتعلقة بالإبل، لا لشيءٍ إلا للمزيد من فهم واتباع قوله سبحانه وتعالى: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، علماً بأن التوجيه بالتفكر في خلق الإبل في سورة الغاشية اقترن مع المخلوقات الكبرى: السماء والأرض والجبال. وكذلك ممّا يحفّز على تضافر وتنامي الأبحاث العلمية عن الإبل كمحاولة لفهم وسبر أغوار المقصود من الحديث النبوي الشريف الذي يقول بأن: "الإبل خلقت من الشياطين"، وهذه نقطة بحثية مثيرة جداً من الناحية العلمية والناحية الدينية بغض النظر هل المقصود "بالشياطين" الكائنات النارية أو هو مجرد "توصيف لتميّز حال الإبل وشيطنة طباعها الحادة".
قبل حوالي سبع سنوات وفي أثناء صخب أحد مهرجانات مزايين الإبل، نشرتُ مقالاً حمل عنوان "رمزية الجمل في الثقافات الأخرى" حاولت فيه أن أكشف عن أبعاد حضارية وثقافية للجمل ودوره في ثقافة الشعوب الأخرى، وأنه بذلك كائن ذي ثقل وإرث تاريخي ليس للشعوب العربية فقط ولكن للإنسانية جمعاء. واليوم السبت ونحن في مطلع العالم الميلادي الجديد 2024 ومع إطلاق الأمم المتحدة ومنظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) لفعاليات "السنة الدولية للإبليات 2024"، وكذلك بعد إعلان وزارة الثقافة السعودية بأن هذا العام هو "عام الإبل". لهذا، وكمساهمة لتوسيع ربط هذا الكائن العجيب بالإرث الإنساني وخروجاً من الموروث المحلي المحدود، رغبتُ أن يكون المقال الحالي امتداداً لمحور السرد السابق عن اهتمام الشعوب الأخرى بالإبل، ولكن من المنظور العلمي ومن الجانب البحثي هذه المرة.
يُنقل عن أفلاطون قوله: "العلم ليس سوى الإدراك"، وبشهادة أغلب العلماء في تاريخ البشرية يمكن تحوير العبارة لتصبح "العلم ليس سوى الفضول" ولهذا كان الفضول العلمي وحب الاستطلاع من أقوى وأهم الدوافع والمحفزات للكشف عن الحقائق العلمية والتوصل للقوانين والمخترعات التقنية. وعليه كان من المفترض للعلماء العرب والمسلمين عندما يقرؤون قوله الله سبحانه وتعالى "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت" أو يمر عليهم قول الرسول الكريم بأن الإبل خُلقت من الشياطين أو أن لحم الأبل ربما ينقض الوضوء كما إنه لا تجوز الصلاة في مرابض الإبل أو أن أبوال الجمال هي نوع من العلاج، كان ينبغي أن تكون مثل هذه الأشارات والأخبار العديدة في التراث الإسلامي من أقوى المحفزات، وحب الاستطلاع، لإجراء التجارب العلمية لكشف أسبار هذه الجوانب العجيبة في خلق الإبل.
في الثقافة الصينية ينتشر بين القبائل التي تعيش في صحراء جوبي الشاسعة في شمال الصين، بأن الجمل ذا السنامين يستطيع أن يشم بخار الماء ولو على بعد خمسين كيلومتر ولهذا يستخدم الرحالة الصينيون الجمل ليدلهم على مواقع الآبار النائية. ومتسلحون بهذا الموروث الشعبي عن الجمال قام مجموعة من الباحثين في جامعة شانغهاي الصينية بدراسة تشريح أنف الجمل ومحاولة تفسير كيف يستطيع تحسّس واستشعار الكميات الضئيلة من الرطوبة. وبعد ذلك قام ذلك الفريق العلمي بتطوير واختراع "أنف إلكتروني" عبارة عن جهاز تحسس للرطوبة (humidity sensor) له استخدامات واعدة في التطبيقات البيئية والصناعية.
وفي علم تصنيف الحيوانات يُعتبر الجمل مع حيوان اللاما وكأنهما أولاد عم فهما ينتميان إلى عائلة الجمل وفصيلة الإبليات، والبعض يسميها فصيلة الجمليات (Camelidate) ونظراً للتقارب النسبي في الشكل العام بين الجمل واللاما (يمكن إنتاج كائن هجين بالتزاوج بينهما يدعى كاما) فلا بد من أن تكون مواقع نشوء وظهور هذه الحيوانات متقاربة بل متطابقة. ولعقودٍ طويلة من الزمن شكّل وجود حيوان اللاما في مكان جغرافي منعزل في أمريكا الجنوبية لغزاً لعلماء الحيوان فكيف ومتى هاجر هذا الحيوان من العالم القديم إلى العالم الجديد. ومع الزمن بدأ يكتشف العلماء أن قصة موطن الجمل الأول والقديم هي "قصة معكوسة" فالإبل لم تظهر لأول مرة في صحاري وسط آسيا ثم انتقلت إلى الجزيرة العربية وكذلك لاحقاً إلى الأمريكيتين، ولكن وفق علم الأحافير وعلم الجينات يظهر أن الجمال ظهرت قبل حوالي 44 مليون سنة في أمريكا الشمالية، واليوم علماء الأحياء والأحافير في الولايات المتحدة بالذات لهم نشاط محمول لاكتشاف المزيد من عظام وأحافير وأثار كائن (الكاملبوس Camelops) وهو نوع من الجمال البدائية الذي كان سائداً في أمريكا الشمالية لملايين من السنين حتى انقرض بشكلٍ تامٍ مع بداية العصور الجليدية الأخيرة قبل أكثر من إحدى عشرة ألف سنة. في الواقع علماء الحيوان في الجامعات الأمريكية في ولاية يوتاه أو ولاية كالفورنيا أو ولاية نيومكسيكو هم من يمكن أن يفتخروا بأنّ لديهم في متاحفهم العلمية عينات الأحافير والهياكل العظمية لأقدم الأبل في التاريخ.
عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات .. دم وبول الإبل
فيما يتعلّق بالإبل، تُثار دائماً أسئلة وتنشب نقاشات فقهية وفكرية وعلمية: هل لحم الإبل ينقض الوضوء؟ وهل حليب الخلفات بالفعل منشط جنسي؟ وماذا عن بول الإبل هل ثبت أن له فوائد طبية؟ الغريب أن دماء الجمال ومنذ القدم كانت كذلك تثير الحيرة، فحسب الأساطير القديمة أن "الأرض لا تشرب الدم" لأنهم زعموا أنه بعدما قتل قابيل أخاه هابيل وسفح دمه على التراب أصبح محرماً على الأرض أن تشرب الدم. وفي الواقع كما هو معلوم الدم المسفوح يتخثر ويتجلط ولهذا لا تتشربه التربة ولكن العرب قديماً كانوا يزعمون أن الأرض لا تشرب الدم إلا يسيراً من دماء الإبل خاصة وهذا ما ذكره الجاحظ في كتاب الحيوان. وبالفعل لزوجة دماء الإبل تختلف عن بقية دماء الماشية والحيوانات الأخرى فمنذ نهاية القرن التاسع عشر عندما قام العالم الإنجليزي جورج جاليفر بدراسة شكل كريات الدم الحمراء تحت المجهر لحوالي 80 حيواناً مختلفاً وجد أن دماء الجمال تتميز بأن كريات الدم الحمراء شكلها ليس دائرياً كما هو سائد في أغلب الحيوانات، وإنما شكل بيضاوي صغير الحجم. وفي الواقع هذا الشكل البيضاوي بالإضافة لصغر حجم كريات الدم الحمراء يساعد على لزوجة دم الإبل ولهذا يتسرب الدم بشكل أسرع سلاسة بين حبيبات التراب لهذا قيل "إن الأرض تشرب دماء الإبل"، وكذلك ينساب الدم بسهولة أكثر في الأوعية الدموية لأنسجة الجمل أثناء الجفاف والعطش الشديد.
ومن الأخطاء الشائعة الاعتقاد بأن الجمل "يخزّن الماء في سنامه الشحمي" بينما في الحقيقة أن الجمل يأكل من سنامه فلا يجوع، ولكن لكي يقاوم البعير العطش فمن عجائب الخلق أنه يستطيع شرب كميةٍ هائلة من الماء في فترةٍ قصيرة وهذه المياه الفائضة يتم تخزينها في دم الجمل وليس في سنامه. ويقول علماء الفسيولوجيا إنّ غشاء كريات الدم الحمراء للإبل ذو تركيبة خاصة من الدهون الفوسفاتية تجعلها أقلّ عرضة لمشكلة انحلال الدم الأسموزي (osmotic hemolysis)، ومعنى هذا الكلام بأن كريات الدم الحمراء للجمل يمكن أن تسمح بدخول الماء إليها ومن ثمّ تنتفخ إلى حوالي ثلاثة أضعاف حجمها الأصلي دون أن تنفجر وبمثل هذه الآلية والميكانيكية تستطيع الإبل ليس فقط تخزين المياه في دمائها، ولكن كذلك شرب المياه المالحة وهي خاصية نادرة الوجود في الكائنات الحية الأخرى.
في موقعٍ إلكتروني متخصص في طرح الأسئلة المتنوعة والإجابة عليها، أرسل أحدهم قبل فترة سؤال من باب الدعابة كان نصه "هل تعلم أسماك القرش بوجود حيوان الجمل؟" والغريب في الأمر أنه بالفعل توجد علاقة على الأقل بين دماء الإبل ودم أسماك القرش. سبق أن ذكرنا بأن كريات الدم الحمراء للإبل شكلها بيضاوي وهذا هو بالضبط شكل كريات الدم لأسماك القرش وبحكم أن هذه الكائنات البحرية مشهورة أنها لا تصاب بأمراض السرطان نتيجة لكفاءة جهازها المناعي لهذا اهتم بعض العلماء بدراسة وتحليل مكونات دماء هذين الكائنين بالذات: الجمل وسمك القرش. وهذا بالضبط ما تقوم به عالمة المناعة الأميركية "هيلين دولي" الباحثة في كلية الطب بجامعة ماريلاند الأمريكية والتي اكتشفت في دماء الإبل وأسماك القرش نوعا من المضادات الحيوية عبارة عن مركبات بروتينية صغيرة الحجم ولهذا يطلق عليها المضادات الحيوية المصغرة mini أو الأجسام النانوية nanobodies وهي مركبات قد تكون علاجاً فعّالاً للسرطان، ووسيلة كذلك للحصول على جائزة نوبل في الطب.
الشكل البيضاوي لكريات الدم الحمراء تسببت في مزيد لزوجة دم الإبل، وبالتالي تغلغله بين حبيبات التراب وكذلك المضادات الحيوية المصغرة يسهل تغلغلها في داخل الخلايا فضلاً عن الأنسجة. وبالتالي، تزداد قدرتها المناعية ويمكن أن تحدّ من ظهور أمراض السرطان وأمراض الفيروسات الخطيرة مثل الإيدز وفيروس الكبد. المثير للانتباه أن مجاميع بحثية متنوعة من غير الدول العربية التي قد تُتهم بالتحيز والمبالغة في الأهمية الطبية لدماء الإبل، أثبتت استخدامات طبية إضافية للمركبات البروتينية الموجودة في دماء الإبل كاستخدامها لعلاج مرض السكري (دراسة من جامعة شمال تكساس) وأمراض الدماغ مثل الزهايمر وباركينسون (نتائج أبحاث جامعة لييج البلجيكية) ومرض التهاب المفاصل (حسب تقارير المعهد الفرنسي للصحة والبحوث الطبية).
وما أود الوصول إليه أن الإبل في ضوء هذه الفوائد الطبية لدمائها هي بالفعل من أعظم عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات كما ذكر أبو يحي زكريا القزويني في كتابه المشهور، وقد فصّل في ذلك الكتاب الاستخدامات الطبية لأجزاء الإبل الأخرى لدرجة أنه ذكر أن ابن سينا يقول بأن "بعر الجمل يمنع الجدري أن يبقى أثره". وإن كنت قد لا أوافق القزويني في وصفته الغريبة بأن شرب بول الجمل يقوي على الجماع (بمعنى أنه منشط جنسي)، وهذا يقودنا إلى اللغط المستمر في السنوات الأخيرة والمتعلّق باستخدام أبوال الإبل كعلاج لبعض الأمراض. أولا الجميع يعلم بالحديث النبوي الشريف والمتعلق بإرشاد الرسول عليه الصلاة والسلام لبعض الأعراب بأن يستخدموا ألبان الإبل وأبوالها كدواء. وفي الواقع استخدام بول الحيوانات كعلاجٍ أمر شائع جداً في حضارات الشعوب القديمة مثل استخدام بول البقر في آسيا، وبول الفيلة في إفريقيا. ومع أن هذه الدراسات الطبية الحديثة تشير بأن "شرب كميات قليلة من بول الإبل المخلوط مع حليب الإبل" بالفعل له "صفات علاجية لمرض القرحة" وفق البحث العلمي المنشور من قبل مجموعة طبية في الصين.
في الختام أود أن أقول بأنه في الزمن المعاصر أهم وأبرز الأبحاث العلمية المتعلقة بالإبل، وإن تمت في الوطن العربي مثل استنساخ الناقة "إنجاز" في مركز تكاثر الإبل في مدينة دبي، أو الكشف عن تسلسل الخارطة الجينية (جينوم الإبل) في مختبرات مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية وما شابها من الأبحاث الطبية المرتبطة بالتطبيقات الطبية للخلايا الجذعية للإبل أو من خلال تقنيات الهندسة الوراثية (الإبل المعدلة جينياً). وكل هذه الأبحاث العلمية المتقدمة وغيرها في الغالب تتمّ عن طريق شراكات علمية مع مراكز بحثية دولية ومع نخبة العلماء من الدول المتقدمة. في الواقع "مهرجان مزايين الإبل" هو حدث محلي خاص قد لا يعكس أهمية الإبل لبقية المجتمع البشري في حين أن "السنة الدولية للإبليات 2024" تعطي انطباعاً أكبر وأوضح عن أهمية الدور الغذائي والطبي والثقافي لهذه الكائنات العجيبة. ولهذا أنا أتفق مع الهدف المعلن للإمام المتحدة من فعالية السنة الدولية هذه بأنها تسعى إلى استثارة الوعي بالإمكانات التي تتمتع بها الإبليات وإلى توجيه دعوة لزيادة الاستثمارات في قطاع الإبليات من خلال الدعوة إلى إجراء المزيد من البحث واستخدام التقنيات المبتكرة. ولو تحقق هذا الهدف فبالفعل سوف نجد الإبل أو على الأقل السوائل الحيوية للإبل (الدم والحليب والبول) موجودة في العديد من مختبرات شعوب العالم كما هو عنوان هذا المقال.
تواصل مع الكاتب: ahalgamdy@gmail.com
مواضيع ذات صلة
– السنة الدولية للإبليات 2024
– دراسة الجمل العربي
– خلايا الجمل العربي ومقاومة الحرارة المميتة
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة