في مطلع شهر رمضان المبارك العام قبل عامين نشر رائد الفضاء الأمريكي سكوت كيلي تغريدة تويتر تحتوي على صورة فوتوغرافية التقطها من الفضاء لمكة المكرمة وذلك بهدف تهنئة المسلمين بحلول شهر رمضان المبارك. الاحتفال بالشهر الفضيل من الفضاء حدث غير عادي ولكنه ليس نادر الحدوث تماماً فقبل حوالي عشر سنوات احتفل رائد فضاء آخر بشهر رمضان بمناسك رمضانية مختلفة حيث حاول الصوم في الفضاء رائد الفضاء الماليزي مظفر شكور المشارك في رحلة فلكية إلى محطة الفضاء الدولية في أواخر شهر رمضان من عام 2007م. لقد حرص مظفر شكور على حسن أداء العبادات الشرعية في الفضاء ولهذا استعان بفتاوى خاصة من مجلس الفتوى الوطني في ماليزيا لإرشاده لكيفية ضبط تحديد مواقيت الصلاة والصيام وقيام الليل (فضلاً عن تحديد القبلة) في محطة الفضاء الدولية التي يتوالى الليل والنهار فيها كل 90 دقيقة !!.
الجدير بالذكر أنه قبل الفتوى الفضائية الماليزية بحوالي عشرين سنة حرص الأمير الشاب سلطان بن سلمان أن يستفتي سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز عن عين تلك الأمور الشرعية المستحدثة حيث كان من المتوقع أن تنطلق رحلته الفضائية عبر ماكوك الفضاء ديسكفري في يوم 26 رمضان من عام 1405هـ، إلا أن الرحلة تأجلت قليلاً، ولهذا انطلق الأمير للفضاء في آخر يوم من رمضان. وإذا كان الأمير سلطان بن سلمان هو أول رجل مسلم يصعد إلى الفضاء، فإن أول امرأة مسلمة تغزو الفضاء هي رائدة الفضاء الإيرانية أنوشة أنصاري
ذات الجنسية الأمريكية والتي تعتبر كذلك أول (سائحة فضاء) في التاريخ، حيث أنها دفعت حوالي عشرين مليون دولار لكي تقوم بهذه المغامرة الفلكية المذهلة. بقي أن نقول إن الرحلة (السياحية) لهذه السيدة الفضائية المسلمة بدأت في يوم 26 رمضان من عام 1427هـ وبالرغم من أنها اخترقت أجواء السماء في ليله القدر إلا أنه للأسف لا توجد أي أخبار صحفية عنها تشير هل مارست أي من الشعائر الدينية في الفضاء، بل لا نعلم إن كانت على الأقل قد احتفلت بعيد الفطر المبارك في محطة الفضاء الدولية.
رمضان في أرض غريبة
لا شك أن الأجواء الرمضانية في ماكوك الفضاء أو محطة الفضاء الدولية بالقطع لها طابعها الخاص ولهذا صرح رائد الفضاء الأمير سلطان أن (صيام شهر رمضان في الفضاء تجربة لا تُنسى) لكن الحصول على تجربة فريدة ومغامرة شيقة في رمضان قد يمكن تحقيقها دون التحليق مع النجوم. من ذلك مثلاً، أن تذهب في مغامرة لصعود قمة جبل إيفرست كما فعل مجموعة من الشباب الخليجي الذين تسلقوا أعلى قمة في سلسلة جبال الهيملايا في أواخر شهر رمضان من عام 1433هـ وقد عاشوا مشاعر إيمانية عالية عندما قام أحدهم برفع صوت الأذان في نهار شهر رمضان ومن فوق أعلى قمة على سطح الأرض، وبهذا قد يكون هذا هو أقرب صوت للآذان إلى أبواب السماء. في حِسنا الجمعي ارتبط شهر رمضان بالصيف والحر والعطش ولهذا كان من (خارج المألوف) ارتداء الملابس الثقيلة وحمل اسطوانات التنفس بين ثلوج قمم الجبال في شهر رمضان ومع تزايد شعبية تسلق الجبال الشاهقة بين جموع الشباب العربي والمسلم من المحتمل تكرار مثل هذه المشاهد في شهر رمضان المبارك لأن تسلق هذا الجبال أسهل في الغالب في شهور الصيف.
وعلى نفس النسق في الخروج عن المألوف في تجربة الأجواء الرمضانية بين الثلوج والزمهرير بدأت كذلك تنتشر ظاهرة توجه أفراد من الرحالة العرب لزيارة القطب المتجمد الشمالي بل وحتى القطب المتجمد الجنوبي الأكثر بعداً والأكثر خطورة والأشد برودة. وبحكم توافق شهر رمضان في هذه السنوات مع فترة الصيف تزداد احتمالية رغبة بعض الرحالة والسياح العرب تجربة الصيام في أرض الجليد. في واقعنا المحلي كان أول من وصل إلى القطب المتجمد الجنوبي، هما الدكتور مصطفى معمر من جامعة الملك عبدالعزيز والدكتور إبراهيم عالم من جامعة الملك فهد واللذان شاركا في 1989م في رحلة علمية دولية استكشافية للقطب المتجمد الجنوبي استمرت لثلاثة أشهر انتهت في مطلع شهر رمضان المبارك من تلك السنة. الجدير بالذكر أن الرحلات الاستكشافية العلمية العربية للمناطق المتجمدة محدودة ومتقطعة منذ أن بدأها العالم المصري الدكتور سيد زكريا السيد بزيارة القطب المتجمد الجنوبي وحتى نهايتها بمشاركة الدكتور عبدالعزيز اللعبون من قسم الجيولوجيا بجامعة الملك سعود في رحلة استكشافيه دولية للقطب المتجمد الجنوبي عام 2014م. ومع ذلك تبقى التجربة المتميزة في هذا الشأن في العالم الإسلامي من نصيب تركيا، حيث تخطط جامعة إسطنبول التقنية بافتتاح محطة أبحاث علمية دائمة لها في القطب المتجمد الجنوبي بدلاً من التعاون العلمي المؤقت مع الدول الأخرى. وبحكم أن تشغيل هذه المحطة الدائمة غالباً سوف يتم في شهور الصيف وبهذا سوف تكون الفرصة شبه مؤكدة لوجود مسلمين في قلب القارة المتجمدة قد يرغبون بصيام شهر رمضان في هذه الأرض الغريبة.
من جانب آخر ومنذ عقود طويلة تنشط بعض الشركات السياحية الغربية في تنظيم رحلات سياحية للوصول للدائرة القطبية أو حتى لأطراف القارات المتجمدة الشمالية بالذات، وكذلك الجنوبية. وبهذه المناسبة تجدر الإشارة إلى إن المغامر السعودي وليد زاهد قد وصل في عام 2010 هو وولديه هيثم ومحمد إلى مركز القطب في القارة المتجمدة الجنوبية.
لكن يبقى مع ذلك لأي سائح أو مغامر الاستعداد لحالة الإرباك الحتمية فيما يتعلق بأداء الشعائر التعبدية في منطقة القطبين المتجمدة، ففي فصل الصيف من المحتمل في بعض المناطق أن لا تغيب الشمس على الإطلاق أو في أحسن الأحوال يكون الليل لمدة أقل من ساعة، علماً أنه لن يوجد ظلام الليل المعتاد وإنما ظِلال الغسق الداكنة. وعليه في مثل هذه البيئة الغرائبية البعيدة عن المألوف يصعب تحديد أوقات الصلوات أو تحديد زمن الصيام وبدء لحظة الإفطار أو الإمساك. وتجدر الإشارة بهذه المناسبة أن الجالية الإسلامية في مدينة أولو بشمال فنلندا أو في منطقة نونوفت بأقصى شمال كندا طلبوا فتاوى شرعية خاصة لمشكلة أن النهار في رمضان لديهم قد يصل لمدة 23 ساعة في حين أن بعض المسلمين بمدينة نوريلسك في سيبيريا الروسية قد يصومون لمدة 21 ساعة باليوم !!.
رمضان في الغربة كربة
إذا كان صيام رمضان في الفضاء تجربة لا تنسى فبدرجة أقل تجربة الصيام في أرض الصقيع وفي بلاد غريبة تجربة تستحق الذكر والتوثيق. ومن أقدم ما نقل لنا في هذا السياق تجربة الرحالة العربي القديم أحمد بن فضلان إلى بلاد البلغار والروس، وما يهمنا هنا أنه في عام 309 هجري داهم فصل الشتاء ابن فضلان ورفاقه وهم في مدينة جرجانية غرب أوزباكستان، وهنا يصف ابن فضلان كيف أن نهر جيحون جمد من شدة البرد والصقيع لدرجة أن الخيل والبغال أصبح بإمكانها المشي فوقه. ويصف ابن فضلان أنه من شدة البرد (.. كنت أخرج من الحمام فإذا دخلت البيت نظرت إلى لحيتي وهي قطعة واحدة من الثلج حتى كنت أدنيها من النار) وفي موضوع آخر يصف الملابس الثقيلة التي كانوا يحتاجونها لاتقاء الزمهرير (.. كان كل رجل منا عليه قرطق وفوقه خفتان وفوقه بوستين وفوقه لبادة وبرنس ولا تبدو منه إلا عيناه، وسراويل طاق وآخر مبطن وران وخف كيمخت وفوق الخف خف آخر فكان الواحد منا إذا ركب الجمل لم يقدر أن يتحرك لما عليه من الثياب). وبسبب أن البرد والصقيع منع ابن فضلان ورفاقه من إكمال سفرهم إلى بلاد الصقالبة لذا أدرك شهر رمضان ابن فضلان وهو في هذه الأجواء الرمضانية الشاتيه.
أخبار وقصص رواد الرحالة العرب زاخرة بالعديد من التشويق ومع ذلك قد لا يعتبر وصف ابن بطوطة مشاهداته للمدن التي توافق مروره بها أثناء شهر رمضان (في سنوات مختلفة) مثل مكة المكرمة ودمشق والقاهرة، لا يعتبر من الأمور (خارج سياق المألوف) بحكم أنها بلاد عربية أصيلة ومعروفة بشكل كامل. لكن في المقابل نجد أن وصف الرحالة ابن جبير الأندلسي لزيارته غير المتوقعة لجزيرة صقلية في شهر رمضان ينطبق وصفها على حديثنا هنا عن (رمضان خارج النسق). في عام 578 هجري سافر ابن جبير الأندلسي لأداء فريضة الحج وفي طريق العودة إلى الأندلس كان قراره (خارج المألوف) أن يسافر على سفينة إيطالية من ميناء مدينة عكا (في حينها ما زالت تحت حكم الصليبيين) بدل أن يبحر مثلاً من الإسكندرية وباستخدام سفينة عربية. وعلى كل حال ونظراً لهبوب عاصفة بحرية هوجاء كاد القارب أن يغرق بهم قرب ساحل جزيرة صقلية لولا إغاثة ملك الجزيرة (العاشق للعرب) لهم حيث أشرف بنفسه على عمليات الإنقاذ واستقبل جميع الركاب من العرب والفرنجة استقبالاً حسناً. وكان نزولهم للسواحل الصقلية في مطلع شهر رمضان من ذلك العام حيث نزلوا بمدينة مسينه والتي وصفها بأنها (وليس فيها من المسلمين إلا نفر يسير من ذوي المهن ولذلك يستوحش بها المسلم الغريب) وهي بهذا على النقيض من عاصمة البلاد مدينة باليرمو التي بها جالية إسلامية كبيرة لدرجة أن لهم فيها أسواق خاصة فضلاً عن مساجدهم الكثيرة. ويذكر ابن جبير أن ملك صقلية المدعو غليام يكثر من استعمال المسلمين (وهو كثير الثقة بالمسلمين وساكن إليهم في أحواله والمهم من أشغاله) ليس هذا فحسب فهذا الملك (أما جواريه وحظاياه في قصره فمسلمات كلهن) ويبدو أن تلك الجواري على ديانة حسنة لدرجة (أن الإفرنجية من النصرانيات تقع في قصره فتعود مسلمه) من تأثير الجاريات المسلمات. ومن أغرب ما ذكر ابن جبير عن هذا الملك المتسامح مع دين الإسلام أنه حصل مره زلزال بالجزيرة وعندما خاف الجميع تفاجأ الملك أنه عندما (كان يتطلع في قصره فلا يسمع إلا ذاكراً لله ولرسوله من نسائه وفتيانه).
بهذه الأجواء المرحبة والمتسامحة مع الوجود الإسلامي نفهم أن وجود الجاليات المسلمة في ديار الغرب ظاهرة قديمة جداً، ونفهم في نفس السياق لماذا أقام الجغرافي والرحالة العربي الكبير الإدريسي لسنوات طويلة في جزيرة صقلية في كنف ملكها روجر الثاني. وللأسف، نكشف معلومة (معروفة للبعض) أنه لهذا الملك المسيحي قام الإدريسي بتأليف كتاب المشهور نزهة المشتاق في اختراق الآفاق والذي يعرف كذلك