يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُحدِث تغييرات هائلة في الرعاية الصحية، بما فيها التجارب السريرية. فما هي تطبيقات الذكاء الاصطناعي في هذا المجال؟
يتمّ تطبيق الذكاء الاصطناعي اليوم في العديد من مجالات الطبّ، بينها التجارب السريرية، بدءًا من تحليل البيانات والمعلومات العلمية، وصولًا إلى توفير التقسيم المحسّن للمرضى والنتائج التنبؤية، والمساعدة في جوانب أخرى مختلفة. أمّا عن طبيعة هذا المفهوم، فهو دراسات الأبحاث التي تُجرى على متطوّعين، لبحث أمان وفاعليّة أيّ علاجٍ جديد. ومن خلال هذه المقالة العلمية سنطرح تطبيق الذكاء الاصطناعي في التجارب السريرية، مع تحديد كيفية ملاءمة هذه التقنية في هذا المجال، ومناقشة تأثيرها على تصاميم التجارب المستقبلية.
تنوّع حلول الذكاء الاصطناعي
من حيث المبدأ، توفّر التجارب السريرية إمكانات تحسينية كبيرة، لكن وفقاً لدراسة علمية سابقة أعدّها مركز "تافتس" لدراسة تطوير الأدوية هناك 12% فقط من برامج تطوير العقاقير انتهت بنجاحٍ خلال 15 عامًا. ويعود انخفاض معدّلات نسب النجاح لأسباب مردّها التوظيف غير الناجح، وغياب القدرة على إثبات فاعليّة أو سلامة العلاجات، فضلاً عن غياب الجودة والنوعية في الدراسات. لذلك، تلجأ شركات الأدوية للاستعانة ببرمجيات الذكاء الاصطناعي في ثلاثة مجالات رئيسية مرتبطة وهي: محرّكات المعلومات، وتقسيم المرضى، وعمليات التجارب.
محركات المعلومات
تعمل شركات الأدوية على استخدام تقنية معالجة اللغات الطبيعية، التي تساعد على تصميم برمجيات تتمكّن من تحليل ومحاكاة فهم اللغات في محرّكات المعلومات، وذلك من أجل تعزيز عمليات التحليل واتخاذ القرار من البيانات المنظّمة وغير المهيكلة من السجلّات الطبية، والمبادئ التوجيهية ذات الصلة ومصادر أخرى. ويكمن الهدف من تجميع هذه البيانات في تعزيز معدّلات النجاح للتجارب السريرية.
ولهذه الغاية، تبرز بعض الجهات الفاعلة مثل "آي بي أم" التي تستخدم الذكاء الاصطناعي من خلال نظام "واتسون" في العمل على برنامج إدارة التجارب الخاص بها وتحسين مطابقتها، خاصّةً في تجارب الأورام. وتسعى شركات أميركية أخرى مثل "Concerto Health AI" إلى استخلاص رؤى من تجارب مرضى الأورام مع العقاقير، بهدف إنشاء أدلّة على الأساليب العلاجية الجديدة، فيما تستعين "GNS Healthcare" بتقنيات الذكاء الاصطناعي لتحديد فئات المرضى ذات الاحتياجات الخاصة وقياس احتمالية مدى الاستجابة للدواء.
وغالبًا ما تعمل محرّكات المعلومات على البحث في الأدوية والتجارب السريرية التي توفّر معلومات ذات قيمة لعمليات تطوير العقاقير. وتتكامل محرّكات المعلومات أيضًا مع عمليات التجارب الأوسع، بالإضافة إلى توجيه القرارات نحو تقسيمٍ للمرضى بشكلٍ أفضل.
التقسيم المحسّن للمرضى
يهدف تصميم التجربة السريرية وتعزيزها إلى تحسين تطابق المرضى، والتأكّد من أنها تركّز على الأفراد المناسبين، وأنّ الإستجابة الدوائية يتمّ تتبّعها بشكلٍ كافٍ حتى يتمّ استخلاص استنتاجات دقيقة. وتدعم العديد من تقنيات الذكاء الاصطناعي هذه الجهود. وتستخدم شركات مثل "nQ Medical" و" Winter Light Labs" الكندية النماذج الحيوية الحاسوبية عبر قياس تفاعلات المرضى مع الأجهزة الإلكترونية وشاشات اللمس للكشف عن تقدّم الاضطرابات العصبية وتتبّعها. وهذا يتيح تصنيفًا للمرضى من خلال تحديد المكوّنات والخصائص الفردية المرتبطة بخطورة المرض. كما تعمل "VIDA" و "Perspectum" على الاستعانة بالتعلّم الآلي لتحليل صور الأشعة وتحديد المرض ورصد الفاعلية أثناء التجربة.
وتعتمد بعض شركات الأدوية على تقنية الذكاء الاصطناعي لتحديد المرضى الذين يعانون من حالات مرضية متقدّمة، وتصنيفهم بشكلٍ أكثر دقة، وقياس مدى الاستجابة للعلاج أثناء التجربة كما هو الحال مع "Tempus Lab" الأميركية، ويتم ذلك من خلال دراسة تسلسل الحمض النووي والمؤشرات الحيوية للجينات.
عمليات التجارب السريرية
يتمّ تطبيق الذكاء الاصطناعي أيضًا على الجانب التشغيلي والعملي لهذه العمليات. إذ تستخدم شركات مثل "Ai Cure" و "Brite Health" هذه التقنية لمراقبة كيفية استجابة المرضى للعلاج أثناء التجارب السريرية، وذلك باستخدام البيانات المرئية والصوتية لتحديد ما إذا كان العلاج فاعلًا، ولزيادة الالتزام بالإجراءات.
وتسعى الشركة الأميركية "Unlearn" إلى تقليل متطلّبات التشغيل، وذلك باستخدام التوائم الرقمية وهي نسخة إلكترونية طبق الأصل لكائنٍ حي، ويتم ربط الكائن الحقيقي مع نسخته الإلكترونية الافتراضية، بطريقةٍ تسمح بنقل البيانات بين الجزئين، ما يسمح بتقليل عدد المشاركين اللازمين لإكمال التجارب.
الذكاء الاصطناعي في نظم التجارب السريرية
إنّ ظهور الذكاء الاصطناعي يغيّر بشكلٍ كبير في نظم وآليات عمل التجارب. وبدافع الحاجة إلى خفض التكاليف، وتحسين الكفاءة ومعدّلات النجاح، دخل لاعبون جدد من مزودي هذه التقنية في هذا الحقل الطبي، بعدما كان ذلك حكرًا على شركات الأدوية ومنظمات البحوث التعاقدية (CRO) المتخصصة بتقديم خدمة التجارب.
ويتعاون مزودو الذكاء الاصطناعي مع شركات الأدوية ومنظمات البحوث التعاقدية، على تحسين التجربة السريرية باستخدام بيانات غير محدَّدة الهوية، تمّ جمعها مباشرةً من المستشفيات والمراكز الأكاديمية. وتدخل شركات إدارة البيانات المتخصصة كحلقة وصلٍ بين شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة ومصادر البيانات. ومن بين هذه الشركات نذكر "Inter Systems"، و "Life Image"، و"Medexprim" الفرنسية، المتخصّصة في التشغيل البيني والتي تقدّم طريقةً أسرع وأسهل للحصول على مجموعات بيانات التدريب والاتصال بشركات الأدوية.
كما تعدّ كبرى شركات التكنولوجيا جزءًا مهمًّا من نظام التجارب السريرية. وتقدّم "أمازون" خدمات الاستضافة السحابية للعديد من الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، فيما تعمل شركات مثل "مايكروسوفت" و"غوغل" بشكلٍ مباشر مع شركات الأدوية لبناء قدرات الذكاء الاصطناعي من خلال الكميات الضخمة لبيانات المؤسسات المخزَّنة لديها.
ومع تزايد التنوّع في التكنولوجيا، وتعقيد الآليات المتّبعة في مجال التجربة السريرية، تبرز أسئلة حول كيفية توحيد الجهود المبذولة، وما إذا كان مزودو التكنولوجيا سيعملون بشكلٍ مباشِر مع الجهة الراعية، أم أنّ منظمات البحوث التعاقدية هي من ستتولى تنظيم سير العمل، خصوصًا أنّ معظمها لا تزال متردّدة في التعامل مع شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة.
ولكن مع ذلك، بدأنا نشهد تعاونًا بين منظمات البحوث التعاقدية وشركات الذكاء الاصطناعي ولو بشكلٍ خجول في الوقت الراهن. وسيؤدي هذا التعاون إلى تعزيز حضور هذه الشركات، لا سيّما وأنّ إجمالي الاستثمار في الذكاء الاصطناعي لتطوير الأدوية في العالم تجاوز 5 مليار دولار العام الماضي وفق دراسة بحثية لشركة "Signify"، على أن يتجاوز 22 مليار دولار مع حلول عام 2025. كما جرى إنشاء العديد من الشراكات بين مزوّدي تقنية الذكاء الاصطناعي وشركات الأدوية ما يُحتّم على منظمات البحوث التعاقدية الاستفادة من هذه التقنية لضمان بقائها لاعبًا مؤثّرًا في مجال التجارب السريرية.
البريد الإلكتروني للكاتب: mohamadmaaz1991@gmail.com