مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

NULL

الحياة بين العـزف والعصـف الجِـيني

الكاتب

الكاتب : أ.د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة

الوقت

08:02 مساءً

تاريخ النشر

16, يونيو 2016

"لو علمْتم الغيب لاخترتُم الواقع" مقولة مشهورة نرددُها عندما نحتاج أن نواسِيَ أنفسَنا عندما نعجز عن الحصول على شيء، أو يَفوتُنا أمر مُعيَّن، وهذه المقولة صحيحة تماماً إذا ما وظّفناها في مجال البيولوجيا، إذْ نستطيع القول "إذا عَلمتُم الغيب في العصف الجيني، لاخترتم الواقع ". إننا نحن البشر نحمل في دواخِلنا وعياً بالواقع ونحمل كذلك إحساساً وشعوراً وانفعالات، كما نحمل في دواخلنا قدرات إبداعية خارقة وكل هذه العوامل موجودة ومخزونة في شبكة ضخمة ومنظمة من الجينات (المورثات)، إن الجينات هي الإنسان والإنسان هو الجينات.

البروتينات أساسُ الحياة، والدهون والسكريات عواملُ مساعدة للبروتينات.

تأتي البروتينات من الجينات، أما الدهون والسكريات فتأتي من مصادر أخرى، ولذلك فنحن نأكل ونشرب ونتنفس ونتحرك ونُفكر ونغضب ونحب ونكره ونتمنى بالجينات. إننا أشبهُ بالروبوت، إذ كل صفاتِنا محفوظة ومشَفَّرة في جيناتِنا، ولأنَّ جيناتِنا مختلفة فإننا كذلك مختلفون في المِزاج القُدرات واللون والوزن والطول وغيرها من مقوِّمات الكائن البشري. إن هذه الجينات هي المسؤولة عن وظائف الجسم ونظامه، فنحن لا نسأل المعدة أن تهضم، ولا الرئة أن تتنفس ولا القلب أن يخفِق، ولا الدم أن يجري ولا البنكرياس أن يحرق السكر ولا … وغيرِها من وظائف الجسم التي تسير بشكل طبيعي دون أن ننتبه إليها. قد يبدو الأمر عادياً إلى حدود هذه النقطة، ولكن الأمر ليس كذلك، فالجينات هي المسؤولة عن القدرات الهائلة للإنسان خصوصا العقلية والإدراكية، إن الجينات هي من جعل الإنسان يهيمن على باقي الكائنات بل ويسيطر عليها ويوظفها كيف يشاء، إن الجينات هي المسؤولة عن هذا الطموح البشري الجارف الذي بسببه سيطر على كوكب الأرض وهو في طريقه نحو السيطرة على آفاق جديدة بدأ يكتشفها في الفضاء المجهول، إن هذه الجينات هي نفسُها المسؤولة عن لا شعورنا وعن عقلنا الباطن، إنها المسؤولة كذلك عن مشاعرنا وأحاسيسنا من حزن وفرح وغضب وإحباط و..، إن هذه الأمور جميعُها هي من يجعل من هذا الكائن إنسانا، وهذا الإنسان ما هو في النهاية إلا نسقٌ كبير من الجينات.

يظل الإنسان مشدوداً إلى ماضيه، ومتعلِّقا بتاريخه ومرتبطاً بذكرياته.

هذه الحالة النفسية يحددُها نوع هذا الماضي وظروفه فإن كان هذا الماضي إيجابيا وسلِسا ومريحا كان أجدى أن يُبنى عليه للتخطيطِ لمستقبل أفضل في ظروف صحية ونفسية إيجابية، والعكس صحيح، وهذا الأمر مرتبط بعينة من الناس الذين يتأثرون بظروفهم كثيرا، وهناك عينة أخرى لها قدرات إيجابية وتفاؤلية عظيمة جدا، فالماضي البئيس والحزين والصعب بالنسبة لهم ما هو إلا تجربة لأخذ الدروس والعبر والاستعداد لمواجهة المستقبل وتحدي مزيد من الصعاب والحواجز والعراقيل. وهنا نعيد إدراج مقولة "لو علمتم الغيب لقبلتم بالواقع".

ويقع نظام التحكم داخل أنوية  الخلايا التي تسمى بـ"الكروموسومات".

تحتوي هذه الخلايا على مادة الحمض النووي، الذي يحتوي بدورِه على الجينات، هذه الجينات هي من يتحكم في بعض وظائف الخلِيَّة. ومع أن كل الخلايا معبأةٌ بنفس العدد من الجينات، إلا أن كل خلية تستخدم جيناتٍ بعينها بخلاف الخلايا الأخرى. وهذا ما يضمن الحفاظ على بنية الجسم كما هي، إنها المسؤولة عن رسم ملامح وأعضاء الجسم أثناء العلاج في حالات الإصابة، إنها تقوم بعمل دقيق للغاية، وتضبط نسق وبنية الجسم كما خلقها الله تعالى، وتحافظ عليها في مرحلة العلاج. فعندما يكون هناك مُصابٌ فإن هذه الجينات تعمل على إعادة الأعضاء والأطراف المصابة إلى حالتها الأولى بحسب الذاكرة الحمضية لكل جينة. وهذا ما يَحُولُ دون أن يتشوّه الجسم أثناء العلاج، مثلا: بأنْ تظهر أطراف في غير مكانها، فسبحان الله الخلاَّق الأعظم، المبدعِ في خلقِه. وصدق الله تعالى إذ قال " إنَّا كل شيء خلقناهُ بقَدَر" ، إذ كل جينة تتكفَّل بمهمتها الخاصة ولا تتدخل في مهام الجينات الأخرى.

تحمل الجيناتُ معلومات وراثية ويعتقد أنها المسؤولة عن مشاعر الحزن والفرح والتفاؤل والتشاؤم.

في شريط صغير جداً يسمي الـدانا “DNA” الذي يتكون من جزيئات صغيرة جداً، مؤلفةٍ من جزيئات النيتروجين والكاربون والأوكسجين والفوسفات، والتي تصطف لتكون جزيئات أكبر تسمى بالنيوكليوتيدات. وتتجمع النيوكليوتيدات لتكون مقاطعَ أكبر تسمي بالمورثات أو الجينات (Genes) والمنوط بها حمل صفات معينة تمثل التعليمات الموجهة للخلايا، والتي تنتقل مع الأجيال. ويشكل شريط الدانا كله مع البروتينات المحيطة به، ما يعرف بالكروموسوم. وتختلف أطوال شرائط الـدانا من ناحية عدد النيوكليوتيدات التي تحتويها، فقد تكون مؤلفة من 100 ألف إلى 3 مليار نيوكليوتيد، كما يختلف عدد الجينات في الشريط الواحد باختلاف الكائنات الحية.

الجينات هي الوحدة الأساسية للمعلومات الوراثية.

في كل الكائنات الحية، توجد جينات تحمل المعلومات اللازمة لبناء الخلايا والحفاظ عليها، والقيام بكافة الوظائف الحيوية، ومن ثم بناء أجسام الكائنات وإعطائها صفاتها المميزة. يعتبر الجين وحدة بناء الأحماض النووية (DNA)، ويتكون من وحدات بنائية صغيرة تسمى النيوكلوتيدات، وتحمل كل مورثة صفة معينة ترتبط بسلوك معين في الكائن الحي الذي يحملها، وللجينات موضع معين ثابت على شريط الـدنا مكون من عدد من النيوكليوتيدات.

إن التشبيه المناسب لعمل الجينات في تشكيل السلوك، هو أنها تعمل كإطار أو سقالة.

تسمح هذه الهياكل بتشييد الإدراك والتفكير والذاكرة، ومن ثم ينشأ السلوك بأنواعه المختلفة. تلك السقالة أو البنية الأولية للمخ التي تتكفل الجينات بتشكيلها، ليست سليمة على الدوام فقد تتسبب طفرة جينية واحدة إلى خلل في الشفرة الوراثية، مما يؤدي إلى خلل في البنية الأولية للمخ، مما يتسبب في مشكلات إدراكية وسلوكية كبيرة. إذِ العمل البيئي هنا يكمنُ في أهمية الجينات نفسِها، فالبيئة التي يعيش فيها الإنسان، مؤكدٌ أنها تؤثر في جيناته، وبالتالي في صحتِه. هناك أنواعٌ من السلوكات تسمي بالسلوكات الغرائزية أو البدائية، فكما أن الجينات هي المسؤولة بشكل شبه كلي عن تشكيل الصفات الشكلية للكائن الحي، كلون البشرة وعدد الأصابع و..، فهي أيضاً قادرة على تشكيل أدمغتنا على نحوٍ يسمح لنا بالتفكير بطريقة معينة وفق محددات هذه الجينات، مما ينعكس حتمًا على تصرفاتِنا. فعندما تتغير حالة الإنسان سواءً على مستوى الزمان أو المكان أو المادة أو المستوي الاجتماعي أو..، يجعله يقع تحت ظروف جديدة قد تؤثر علي جيناته، وبالتالي على صفاته الشكلية  والسلوكية.

إذا كان الأمر هكذا، فلماذا توجد في كل الخلايا نفس العدد والنوع من الجينات؟

لا تبقى فقط إلا الجينات الضرورية، وبالتالي توفر على الجسم مسؤولية الحفاظ على هذه الجينات، وجعلِها في حالة صامته، الأمر الذي قد يصعب تحقيقه ولو نادرا. والسبب الرئيسي وراء ذلك هو أن عمل جين معين في غالب الأحيان يحتاج إلى جين آخر. والسبب الآخر هو أن التهجين بين الجينات أثناء الانقسام الخلوي للخلايا الجنسية، وهي العملية المطلوبة لتقوية الجينات، يحتاج كل الجينات لكي يحدث عملية تبادل وتوافق بين الجينات لتوريث صفات هجين للجنين من الأب والأم.

ومن أشهر الجينات التي تتحكم في وظائف الخلية هي مجموعة تسمى بجينات التَّحَكٌّم.

يمكن أن نطلق عليها جينات "الفرامل" لأن وظيفتها الأساسية هي منع جينات أخرى عن العمل نهائيا حتى لا يحدث سرطان، وعلى العكس، توجد مجموعة أخرى من الجينات والتي من الممكن تسميتها بجينات "السرعة"، لأنها عكس الفرامل. فعندما تعمل هذه الجينات تؤدي إلى حدوث سرطان، ولذلك فوجود كلا النوعين من الجينات بكل خلية يحفظ لها التوازن وعدم تحول الخلايا إلى سرطان، وبالتالي هناك نوعان، نوع  صامت لا يعمل، وعملُهُ خطر، ونوع يعمل بكل همة وصمته خطر.

قد تعمل جينات السرعة وتتوقف جينات الفرامل عن العمل.

يحدث هذا إذا تعرض الإنسان لظروف بيئية معينة تعكس حالة التوازن هذه بحيث، تتحول الخلية في هذه الحالة من خلية سليمة عادية إلى خلية ورمية، ومع الوقت تتحول إلى ورم كبدي أو رئوي أو قولون أو أي عضو آخر حسب موقع الخلية التي حدث بها هذا الخلل الجيني. والظروف البيئية قد تكون شرب مياه ملوثة، أو تناول غذاء ملوث أو تنفس هواء ملوث على فترات طويلة. و كذلك التعرض للإشعاع والموجات الكهربائية والميكروويف والكهرومغناطيسية، وبعض الأدوية والإصابة بالميكروبات سواء بكتيريا أو فيروسات أو الديدان أو الالتهابات المزمنة، أو تناول أغذية صناعية ذات مواد حافظة لمدة طويلة، والإدمان على المعلّبات، أو الوقوع تحت ضغوط نفسية لفترات طويلة. كل هذه العوامل مفردة أو مجتمعة، قد تؤدي إلى خلل في منظومة التوازن بين جينات الفرامل وجينات السرعة، وفي النهاية تحول الخلية عن مسارها الطبيعي وتحولُها إلى ورم.

إذا لو حدث وتغير مسار حياة إنسان.

من مكان إلى مكان أو من حالة مادية أو اجتماعية أو وظيفية، إلى حالة أخرى قد يتعرض الإنسان  إلى ظروف جديدة قد تهدد توازن جينات التحكم بخلاياه بصورة قد تؤدي إلى توقف جينات الفرامل وزيادة جينات السرعة، مما يؤدي إلي خلل وظيفي وحدوث الورم في النهاية. ومع أن الورم هو أقصى السوء الذي قد يحدث بيولوجيا إلا أن التعرض لهذه العوامل قد يؤدي أيضا إلى أمراض خطيرة حتى وإن لم تكن سرطانا. ولن أقول هنا أن التعرض لعوامل بيئية بعينها قد يؤدي أيضا إلى مفاجآت غير سارة، قد تكون مميتة أحيانا. ولذلك من يدري فقد يكون القرار الذي ظننا أننا أخطأنا في اختياره في الماضي قد أبعدنا عن خلل جيني لا نرضاه، حتى ولو أبعدنا هذا القرار كسب أو عن منفعة مادية، أو اجتماعية أو علمية. فمن منا لا يريد الصحة قبل المال والبنون والجاه والسلطان.

المقولات النفسية لها دلائل بيولوجية تدعمها و تثبتها

إذا بحثنا في موروثنا الثقافي قد نكتشف ما يزيد إيماننا بالمقولات الدينية والنفسية خاصة تلك التي تشكل مزاجنا اليومي، فعندما نتحدث عن المحطات الرئيسية في حياة كل منا والأحداث التي تعرضنا إليها، والقرارات المصيرية التي اتخذناها، وخاصة التي أثرتْ علي حياتنا سلبا فيما بعد، يجب أن نتذكر المقولة البيولوجية التي تقول "إذا علمتم الغيب في العصف الجيني، لاخترتم الواقع في العزف الجيني" تماما كما نتذكر المقولة الشعبية التي تقول "لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع".

سحر الحياة يكمُنُ في الجينات

دعواتي للجميع بجينات سليمة، تعزف بسعادة وهدوء بعيداً عن الجنون. فإذا كانت سعادتُنا وهمومُنا محمولة في جيناتنا فلنتركها تعمل وبهدوء.

 

بريد الكاتب الالكتروني: Mohamed.labib@science.tanta.edu

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x