.
في جنوب تونس حيث تمتد الصحراء القاحلة على مساحات شاسعة، تبدو الواحات الظليلة في توزر ونفطة من منطقة الجريد مثل نقاط خضراء تعج بالحياة وسط بساط أصفر من رمال الصحراء. هناك، تمتد قنوات الري التي يعود تاريخها إلى مئات السنين بين أشجار النخيل ليصل ماءها إلى كل شجرة من الواحة وتهبها الحياة. ولئن أثبتت الدراسات التاريخية أن هذه القنوات تعود إلى زمن قديم، فإن نظام توزيع المياه في الواحتين، الذي يتميز بدقة عالية، ينسب إلى أحد علماء منطقة الجريد التونسي هو ابن الشباط التوزري.
كان ابن الشباط، الذي عاش في القرن الثالث عشر، أديبا ومؤرخا وقاضيا ومدرسا، لكنه برز أيضا في مجال هندسة الري وتوزيع المياه، حيث ترك بصمة واضحة في واحات توزر ونفطة لا تزال آثارها باقية إلى اليوم.
من هو ابن الشباط؟
يتردد كثيرا على ألسنة السكان في منطقة الجريد اسم ابن الشباط المهندس الذي تنسب إليه أنظمة الري في واحتي توزر ونفطة وكأنه منحوت في ذاكرة هذه الواحات. ويطلق اسمه على الواحات الحديثة والشوارع والساحات وقنوات الري، وحتى في أسماء المدارس والمعاهد، مما يشير إلى ارتباطه بتاريخ المكان وباستمرار الحياة فيه.
هو أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن علي بن عمر، المصري التوزري، المعروف بابن الشباط، الشخصية الفذة التي جمعت بين الأدب والتاريخ والرياضيات والهندسة، والقضاء كما يقول المؤرخ محمد محفوظ في كتابه تراجم المؤلفين التونسيين. كانت ولادته، كما يذكر تلميذه محمد بن أحمد بن حيان الشاطبي، في توزر (من بلاد قسطيلية قديما) سنة 616 هـ (1221 م) وتذهب بعض المصادر الأخرى إلى أن أباه رحل من توزر فأقام بمدينة قسنطينة حيث ولد ابن الشباط، ثم رجع به إلى توزر وهو ابن أربع سنين. وقد ترجم لنفسه في أحد كتبه، فقال: “إن أصله من روم توزر الذين أسلموا ومنّ الله عليهم بهذا الدين القويم”. ويعرف بالمصري لأن أحد أجداده استوطن القاهرة لمدة من الزمن قبل أن يعود لبلاد الجريد.
تعلم ابن الشباط بتوزر، وتبحر في جميع العلوم بها، ولم يأخذ العلم إلا من عـلــمــائــهـا مما يدل على أنها كانت مركزا علميا هاما في عصره، كما يقول الباحث محمد الشابي. ولما اشتد عوده في العلم وبانت براعته فيه، تولى ابن الشباط التدريس والقضاء بتوزر. ويتفق المؤرخون على أنه لم يبرح موطنه إلا نادرا، من ذلك أنّه مكث بمدينة تونس سنتين مدرّسا بجامع الزيتونة، وكانت إقامته بمكان يعرف اليوم باسم “زنقة ابن شبّاط”. ثم عاد بعد ذلك نهائيّا إلى بلدته حيث ظلّ القاضي والمدرّس، فتخرّج على يده عدد كبير من مشاهير رجالات الفكر والأدب. ومن الآخذين عنه تلميذه محمد بن حيان الشاطبي نزيل تونس، ومحمد ابن عبد المعطي المغزاوي المعروف بابن هريرة، والطولقي. غير أن شهرة ابن الشباط تعود بالأساس لوضعه نظاما دقيقا لتقسيم مياه الري بين مختلف أجزاء واحتي توزر ونفطة. وكانت وفاته بها يوم السبت الحادي عشر من شهر ربيع الآخر 681 ه (1282م)، ودفن في بلد الحضر من توزر إلى جانب الشقراطيسي (إمام الحديث والفقيه والشاعر).
ألف ابن الشباط العديد من الكتب في أغراض مختلفة منها كتاب “صلة السِّمط وسمة المُرْط” في أربعة أجزاء كبيرة في الأدب والتاريخ، جعله شرحا لتخميس (القصيدة الشقراطيسية) في السيرة النبوية، وكتاب “العقد الفريد في تاريخ علماء الجريد” وهو مخطوط عند بعض الخواص في توزر. كما ألف أيضا كتب أخرى من بينها “أنيس الفريد في حلية أهل الجريد” و” تحف المسائل بمنتخب الرسائل”. ويذكر بعض الذين ترجموا له أنه ألف كتابا في الهندسة، دون تعيين الموضوع الهندسي الذي ألف فيه.
نظام ري قديم قدم الواحات
توجد بلاد الجريد، حيث ولد وعاش ابن الشباط، كما وصفتها المصادر التاريخية القديمة، على طرف الصحراء، وتحيط بها السباخ والرمال مما يجعل الوصول إليها رحلة من العناء والمكابدة، لذلك، تبرز الواحة في عيون ناظريها بحدائقها ونخلها وفاكهتها وأنهارها بمثابة الجنّة على الأرض، وفق الباحث ذاكر سيلة، وهو الوصف الذي استعمله أحد الشعراء في القرن 13م (نسبته بعض المصادر لابن الشباط)، من خلال قصيدة نظمها في وصف غابة توزر حيث قال في مطلعها:
زر توزر إن شئت رؤية جنة تجري بها من تحتك الأنهار
يعتبر الماء مكوّنا رئيسيا في المشهد الواحة في بلاد الجريد، إذ مثلت كثرة العيون وكثافة الجداول والسواقي في الماضي، إحدى أهم الخصائص المميزة لهذه المنطقة. ونظرا لوجودها في وسط طبيعي قاحل ولحاجة النخيل الكبيرة للمياه، فقد كان التصرّف في الماء محور اهتمام المجتمع الواحي، حيث تم منذ القديم استنباط طرق مختلفة لضمان توزيع يحقق رضاء المستفيدين ويضمن تحقيق السلم الاجتماعي بينهم. وتشترك واحات الجريد في اعتماد توزيع الماء داخل غاباتها على مستويين؛ كمي وزمني، ويتم تجميع مياه العيون في ساقية رئيسية واحدة مثلما هو الأمر في توزر ونفطة.
بحسب الدكتور حبيب عطية فإن أحد أقدم الأوصاف لواحات الجريد الصحراوية تعود إلى المؤرخ الروماني بلينيوس الأكبر (24-79 بعد الميلاد) حين كتب: «ينبع هناك نبع غزير المياه، يتم توزيع مياهه على السكان خلال عدد محدد من الساعات… تحت ظل النخلة الفاخرة تنمو شجرة الزيتون، ثم الرمان والكرمة. الكرمة بدورها تحمي القمح والخضراوات، وكل هذا ينتج في عام واحد، وكل هذا ينمو تحت الظل المتبادل…».
ويعود الفضل للرحالة أبو عبيد البكري في وصف نظام توزيع المياه في واحة توزر بدقة بالغة، في القرن الحادي عشر أي قبل ابن الشباط بحوالي قرنين، بقوله ” …وأما توزر فإن نهرها يخرج من رمال كالدرمك رقة وبياضا، ينقسم إلى ثلاثة أنهار كبار ينقسم كل نهر منها على ستة جداول، بعد اجتماع مياه تلك الرمال بموضع يسمى وادي الجمال، يكون قعر النهر هناك نحو مائتي ذراع “. “… تتشعب من تلك الجداول سواقي لا تحصى كثرة في قنوات مبنية بالحجر على قسمة عدل لا يزيد بعضها على بعض شيئا، كل ساقية سعة شبر ..”. و” يلزم كل من يسقي منها أربعة أقداس مثقال في العام. وهو أن يعمد الذي تكون له دولة السقي إلى قدس (قادوس) في أسفله ثقبة بمقدار ما يسدها وتر النداف فيملؤه بالماء، ويعلقه، ويسقي حائطه أو بستانه حتى ينفذ ماء القدس. ثم يملأه ثانيا. وهم قد علموا أن سقي اليوم الكامل هو مائة واثنان وتسعون قدسا”.
ويصف الدكتور عطية نظام الري في واحة توزر فيقول إن مياه كل الينابيع (الجافة حاليا) كانت تتجمع لتشكل الوادي الرئيسي في توزر. ينقسم الوادي في نهايته عند الموزع الرئيسي إلى ثلاثة فروع ذات تدفق متساو، كل منها يروي جزءًا من الواحة: وهي من المنبع إلى المصب وادي عباس، ووادي الوسط، ووادي الرباط. ثم ينقسم كل فرع من الفروع الثلاثة بدوره ليس إلى ستة قنوات (كما ذكر البكري) ولكن إلى سبعة قنوات رئيسية؛ يوجد مخرج يقع أعلى كل موزع من الموزعات الثلاثة، يزود أحد القنوات السبعة التي تروي الحدائق المرتفعة في كل واحة. ومن المرجح أن هذه المنافذ العلوية التي تم إنشاؤها بعد وصف البكري كان لا بد من تجهيزها للتعويض عن انخفاض طفيف في الوادي بعد انخفاض الينابيع.
أما في واحة نفطة فإن عيونها تنبع من جهتها الشمالية وتجتمع مياهها في وادي نفطة أو « الوادي الكبير » الذي يمثل المجرى المائي الرئيسي وتأخذ مسارا انحداريا في اتجاه الواحة جنوبا إلى أن ينقسم عند « سد الرحى » إلى قسمي الواحة الكبيرين.
أي دور لابن الشباط في نظام ري الواحات في الجريد؟
بحسب الباحث الدكتور ذاكر سيلة من جامعة منوبة بتونس، تنقسم الوديان الثلاثة الكبرى إلى ستة جداول حسب أول وصف لنظام توزيع الماء بواحة توزر في القرن 11م وإلى سبعة حسب آخر استعمال لهذا النظام في بداية القرن العشرين. وتنسب الذاكرة الجماعية هذا التحول إلى ابن شباط، وهو رأي شائع بكثرة في مدينة توزر أين يرتبط نظام توزيع المياه بواحتها دائما بهذه الشخصية التاريخية.
يمثل ابن شباط وفق الدكتور الحبيب عطية الأستاذ بجامعة تونس سابقا، هذه الشخصية من علماء العصور الوسطى الموسوعيين، القادرين على تطبيق المعرفة النظرية على تحديات عملية ملموسة. وقد تزامنت حياة ابن الشباط مع بداية العصر الحفصي في تونس (1229-1574)، وهو عصر مزدهر نسبيًا تميز بتطور اقتصادي وثقافي كبير. وفي هذا السياق الملائم، تمكن من تطوير نظام الري داخل الواحات استجابة لتحدي وجودي واجهته مجتمعات الواحات: كيف يمكن تقاسم مورد نادر وحيوي بشكل عادل في بيئة صحراوية؟
ويبدو أن عمل ابن الشباط، بحسب بعض الباحثين، تمثل في توسيع شبكة المجاري والسواقي، خاصة إذا علمنا أنه يتحتم تـعـهـدهـا بالجهر والتوسعة والزيادة كلما اتسعت مساحة المزروعات مع ضمان عدالة توزيع هذا المورد الحيوي من خلال تطوير إطار تنظيمي للمياه يعتمد على قواعد حسابية دقيقة. ويتمثل هذا الإطار التنظيمي في مجموعة من القواعد الدقيقة تحدد حصص كل مالك من المياه وحقوقه وواجباته، وآليات حل النزاعات. ورغم أن حقوق المياه ترتبط بملكية الأراضي، فإنه يمكن تداولها بالبيع والشراء والكراء أو ورثها بشكل مستقل، مما خلق نظاما متطورا لإدارة موارد المياه.
وعلى أساس التقسيم القديم للوادي إلى ثلاثة فروع رئيسية، قام الإمام ابن الشباط بتحسين توزيع المياه وإعادة تنظيمها بشكل مستدام. ويتمثل الجانب المبتكر في هذا النظام، في العدالة الموجودة في توزيع المياه في أجزاء مختلفة من الواحة. ومن الجداول الواحدة والعشرين الرئيسية، والتي يكون تدفقها بالضرورة متساويًا بغض النظر عن التقلبات السنوية في التدفق الإجمالي للوادي، يتم توزيع المياه حسب جزء من الوقت بين الحدائق المختلفة.

صورة أحدى القنوات القديمة في توزر (المصدر: الدكتور ذاكر سيلة)
كيف كان يعمل نظام الري في واحة توزر؟
في أوائل القرن العشرين قام الفرنسي بول بيني (الذي كان يشغل منصب المراقب المدني للسلطات الفرنسية) بدراسة قواعد نظام الري في واحة توزر بشكل مفصل مما مكنه من وضع معلقة تلخص نظام ابن الشباط في توزيع المياه تعرض إلى اليوم في متحف “دار شريط” في مدينة توزر. ويعد ما قام به مرجعا رئيسيا للباحثين من بعده الذين تناولوا بالدرس نظام الري في كل من توزر ونفطة ودور ابن الشباط في تطويره.
يقول بيني إن الوادي الرئيسي (كما لاحظه هو) ينقسم إلى ثلاثة فروع متساوية في الحجم، وكل فرع من هذه الفروع الثلاثة ينقسم بدوره إلى سبع قنوات متساوية أيضا. واعتبر أن القناة هي الوحدة النهائية للتقسيم وهي غير قابلة للتجزئة، فهي تمثل 1/21 من إجمالي مياه الوادي. بعد هذه الوحدة، يتم التقسيم حسب الوقت. وبين أن الوحدة الأساسية هي اليوم، والفترة المعتادة للدوران هي الأسبوع. ويمتد اليوم من الشروق إلى شروق اليوم التالي، وينقسم إلى أجزاء تحددها إما أوقات الصلاة وهي العصر (بين ساعتين إلى أربع ساعات حسب الموسم)، والمغرب (غروب الشمس)، والعشاء (وقت العشاء)، أو عن طريق طول الظل البشري المقاس بعدد الأقدام (وهو ظل الشخص الذي يقوم بالقياس نفسه لضمان عدم تأثر القياس بطول الفرد). لكن في معظم الأحيان، تكون أوقات الصلوات هي النقاط المرجعية.
وبما أن أوقات هذه الصلوات تتغير حسب الموسم، فإن كل مزارعين اثنين يحصلان على حصتيهما من الماء من نفس القناة الصغيرة، يتناوبان على نفس اليوم من كل أسبوع، حيث يأخذ أحدهما الماء نهارا والآخر ليلا، ليحصل كل منهما في النهاية، على نفس الكمية. على سبيل المثال، إذا كان صاحب البستان (أ) وصاحب بستان (ب) يمتلكان حصصا متساوية من مياه نفس القناة خلال يوم وليلة الثلاثاء (من شروق يوم الثلاثاء إلى شروق يوم الأربعاء)، فإن الأول يأخذ الماء من الشروق إلى العصر يوم الثلاثاء، ويأخذ الثاني الماء من العصر إلى الشروق يوم الأربعاء، في الأسبوع الأول. وفي الأسبوع الذي يليه يأخذ الثاني الماء من شروق يوم الثلاثاء إلى وقت العصر، والأول من عصر الثلاثاء إلى شروق اليوم التالي. وينتج عن هذا التقسيم حصول كليهما على حصص متساوية من الماء في كل موسم.
يبدو هذا المثال البسيط نظريا وبسيطا، لكنه في الواقع أكثر تعقيدا بسبب بيع المياه وتجزؤ الواحات نتيجة الميراث إلى توسع الواحات في مساحات جديدة. إذ يمكن لصاحب بستان أن يبيع جزء من الماء المخصص له من خلال تمكين الشاري من السقي لمدة محددة من الوقت تناسب كمية الماء المعينة للبيع. لذلك تم استخدام قياس الظل بمجرد عبوره خط الزوال: فكلما تقدم الوقت، ازداد طول ظل الإنسان نحو الشرق. في المساء، كان يتم استخدام “القادوس” الذي يتم تفريغه في خمس دقائق في توزر.
والقَادوس هو ساعة مائية بدائية وهو عبارة عن وعاء من الفخار مثقوب من أسفله بفتحة صغيرة. لمنع تسرب الغبار إلى داخل هذه الفتحة، يُعتاد على إدخال خيط فيها بعد كل استخدام. الفتحة مصممة بحيث يفرغ الوعاء من الماء في خمس دقائق. لاستخدامه، يُسحب الخيط، ويُملأ القَادُّوس بغمره في وعاء ماء، ثم يُعلق على خطاف. عندما يفرغ يعيده العامل بسرعة إلى الماء ويعلقه من جديد، وهكذا تمر خمس دقائق. وبهذه الطريقة يقيس العامل القائم على توزيع المياه مدة الري. ولكيلا يخطئ في العد، يعقد عقدة في سعف النخيل بعد كل قَادوس يُفرغ.
رغم أهمية قنوات الري التي نقلت مياه الينابيع القريبة في استمرار الحياة داخل واحات الجريد منذ آلاف السنين، فإن توسيع هذه الشبكة وتوزيع المياه بشكل متناسب وعادل قد ساهم، ليس فقط في الحفاظ على السلم الاجتماعي بين السكان، بل كذلك في ازدهار المنطقة واستمرار إشعاعها الاقتصادي والحضاري على مدى مئات السنين.



.
المصادر
– محمد محفوظ-تراجم المؤلفين التونسيين- الجزء 3 صفحة 141
– محمد الشابي كتاب “أعلام ومعالم” صفحة 40 نشر وزارة الثقافة التونسية
– حدائق على طرف الصحراء-ذاكر سيلة
– البكري أبو عبيد الله، 2003، المسالك والممالك
– ÉTATISATION DE L’EAU DANS LES OASIS DU JERID TUNISIEN
– Kairouan, Sbeitla, Le Djerid, Paul PENET, 1911
.
تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com