مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

الري التقليدي وأزمة المياه في الوطن العربي

الكاتب

الصغير محمد الغربي

صحفي علمي

الوقت

09:52 صباحًا

تاريخ النشر

13, أكتوبر 2025

.

إذا كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في طليعة أكثر المناطق ندرة في المياه، فإنها تُعدّ أيضا موطنا تاريخيا لبعض من أكثر حلول إدارة المياه استدامة وأقدمها على الإطلاق. قبل آلاف السنين من ظهور أنظمة الري الحديثة، طورت مجتمعات هذه المنطقة القاحلة تقنيات ري مبتكرة ومستدامة مكنت من ازدهار الزراعة وتوفير المياه للأعداد متزايدة من السكان. ومع تفاقم الجفاف بفعل تغير المناخ، تكشف الدراسات الحديثة أن مفتاح التكيف مع هذه الظروف الجديدة قد لا يكمن في أحدث التقنيات، بل في كنوز المعرفة المتوارثة تقليديا في مجال الري والاستخدام الأمثل لكميات المياه المحدودة.

هذه المعارف التقليدية يمكن أن تلعب دورا حاسما لمجابهة آثار الجفاف والتغيرات المناخية هذه المعرفة المنسية، وفق نتائج دراسة جديدة قادها باحثون من جامعة قطر في دورية (Journal of Arid Environments) العلمية.

التحديث مع إهمال المعارف التقليدية

تشمل التحديات التي تجابهها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ظل التغيرات المناخية وشح المياه وانخفاض معدلات هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة وزيادة حدة موجات جفاف متكررة، إلى جانب الضغط السكاني الكبير والصراعات المستمرة في بعض الدول. في هذا المشهد، تبدو الزراعة، التي تستهلك 85% من موارد المياه، قطاعا حيويا وهشا للغاية في آن واحد. تكمن المشكلة المحورية التي حددها الباحثون في هذه الدراسة أن السياسات ركزت منذ منتصف القرن العشرين على الحلول الحديثة مثل إنشاء السدود والضخ المكثف للمياه الجوفية. ولئن كانت هذه الحلول فعالة نسبيا على المدى القصير، فإنها أثبتت عدم استدامتها على المدى البعيد، مما أدى إلى استنزاف منسوب المياه الجوفية وتملح التربة. في مقابل ذلك، تم تهميش المعارف التقليدية التي تتكيف تماما مع النظم البيئية المحلية وإقصائها من الاستراتيجيات الوطنية.

هذه الدراسة الجديدة قامت باستكشاف هذه المعارف والتقنيات التقليدية للري، وبيان كيف يمكن لإعادة دمجها أن يعزز الإدارة المستدامة للمياه والمرونة الزراعية. ولتحقيق هذه الغاية، أجرى المؤلفون مراجعة شاملة للأدبيات شملت تحليل 140 مرجعا علميا تتضمن أبحاثا أكاديمية وتقارير من منظمات دولية (مثل منظمة الأغذية والزراعة والبنك الدولي)، بهدف تجميع المعارف حول هذا الموضوع واقتراح توصيات ملموسة.

يقول المؤلفون إن الأمن المائي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تعد أحد المناطق الأكثر ندرة في المياه في العالم ويقلّ متوسط نصيب الفرد من المياه المتاحة بخمس مرات عن المتوسط العالمي، لم يعد يمثل هاجسا مستقبليا، بل أزمة متعددة الجوانب تلقي بضلالها على الواقع الحالي. تصنّف جميع دول المنطقة تقريبا دون عتبة ندرة المياه، بل إن ثلثيها في حالة “ندرة مائية مطلقة” مثل دول الخليج والأردن وتونس. هذا الوضع أدى إلى الإفراط الحاد في استغلال الموارد، وخاصة المياه الجوفية الأحفورية غير المتجددة. ويتفاقم سوء الإدارة هذا بفعل الضغوط الديموغرافية والاقتصادية الشديدة، فقد أدى النمو السكاني والتوسع العمراني السريع واستضافة ملايين اللاجئين خاصة في الأردن ولبنان، إلى تزايد الطلب على المياه بشكل كبير.

من ناحية أخرى، تُعدّ الزراعة الركيزة الاقتصادية والاجتماعية الأساسية في العديد من الدول مثل مصر والمغرب، أكبر مستهلك للمياه، حيث تستخدم أساليب غالبا ما تكون غير فعالة مثل الري بالغمر، مما يؤدي إلى خسائر فادحة بسبب التبخر. وقد شجعت سياسات دعم المياه والطاقة هذا الهدر من خلال التقليل من قيمة الموارد. ويمثل تغير المناخ عاملا مُسرّعا قويا لهذه الأزمة، وتشير التوقعات إلى أن وتيرة الجفاف ستزيد بنسبة تتراوح بين  20 و 60% بحلول عام 2050 مع انخفاض كبير في هطول الأمطار. ويقدر البنك الدولي أن ندرة المياه المُفاقمة بفعل المناخ قد تُكلف المنطقة ما بين 6 و14% من ناتجها المحلي الإجمالي بحلول عام 2050، مما يُهدد الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي.

رسم يبين كيفية عمل نظام القنوات (الأفلاج أو الفقارات) (رابط المصدر)

عبقرية المنشآت المائية التقليدية

في مواجهة الجفاف طوال آلاف السنين الماضية، طور سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مجموعة من تقنيات إدارة المياه المبتكرة والمكيّفة مع بيئتهم. في هذه الدراسة قام المؤلفون بتقديم العديد من هذه التقنيات، والتي يُمكن تصنيفها في فئات عامة. أولها أنظمة الأنابيب الجوفية، المصمّمة لنقل المياه لمسافات طويلة مع تقليل التبخر إلى  أدنى حد. ويعدّ نظام القنوات (أو الأفلاج في عُمان، والفقارات في شمال أفريقيا)، أشهر التقنيات من هذا النوع. وهو نظام من الأنفاق ذات انحدار يسير تلتقط المياه من طبقات المياه الجوفية العليا وتحملها بالجاذبية إلى الأراضي الزراعية في اتجاه مجرى النهر. وبحسب الباحثين، فقد نشأت القنوات في إيران منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، حيث تمتد شبكة يبلغ طولها ما يقرب من 30 ألف كيلومتر في هذا البلد وحده، ولا تزال توفر جزءا كبيرا من مياه الري اليوم بكفاءة أكبر من الآبار الحديثة.

تقنية الجسور وهي سدود ترابية مبنية عبر مجاري الأنهار المتقطعة للاحتفاظ بالمياه والرواسب (رابط المصدر)

النوع الثاني من هذه التقنيات هي تقنيات حصاد المياه السطحية التي تحول الأمطار النادرة والفيضانات المفاجئة إلى موارد ثمينة. في تونس، على سبيل المثال، يعد نظام المسقط أحد التقنيات التي تنتمي لهذا النوع : فهو يستخدم مستجمعات المياه في المنبع لتوجيه الجريان السطحي إلى أحواض المصب حيث تزرع أشجار الزيتون، بنسبة انحدار دقيقة تمكن من جمع المياه دون التسبب في التعرية. وفي جنوب تونس أيضا، تستخدم تقنية الجسور وهي سدود ترابية مبنية عبر مجاري الأنهار المتقطعة للاحتفاظ بالمياه والرواسب، مما يشكل مدرجات خصبة لزراعة الأشجار بمرور الوقت. وفي اليمن، يتضمن الري الفيضي تحويل الفيضانات الموسمية من الأودية لتغمر بسرعة مساحات زراعية شاسعة، وهي طريقة قديمة تسمح بزراعة الذرة في ظروف قاحلة للغاية.

أنظمة ري عابرة للزمن

يقول المؤلفون إن أهمية هذه الأنظمة التقليدية لإدارة المياه تتجاوز وظيفتها التقنية البحتة المتمثلة في توفير مياه للري، إلى تقديم رؤية شاملة ومستدامة تفتقر إليها بشدة الطرق الحديثة للري. تتمثل ميزتها الرئيسية الأولى هي تكيفها البيئي واستدامتها، فعلى عكس البنى التحتية الحديثة كثيفة الاستهلاك للطاقة، تعمل هذه الأنظمة بتناغم مع الطبيعة مستخدمة الجاذبية والمواد المحلية ومبادئ تمنع الإفراط في استغلال الموارد. فنظام القنوات، على سبيل المثال، ينظّم سحب المياه ذاتيا بشكل طبيعي بناء على معدل تغذية طبقة المياه الجوفية. الميزة الثانية تتمثل في أن هذه الأنظمة التقليدية تُظهر مرونة استثنائية في مواجهة تقلبات المناخ. وبما أنها تطورت في ظل ظروف الجفاف وعدم انتظام هطول الأمطار، فقد صُممت بطبيعتها للتعامل مع التقلبات المتفاقمة اليوم بسبب تغير المناخ. فالري الفيضي، على سبيل المثال، يُحوّل ظواهر مناخية ذات أثر مدمر مثل الفيضانات إلى فرصة زراعية. بالإضافة إلى ذلك، تتميز هذه الأنظمة التقليدية بزهد كلفتها وانخفاض استهلاكها للطاقة، فباعتمادها على الجاذبية تُلغي هذه الأنظمة الاعتماد على الوقود الأحفوري والكهرباء، كما أن تكاليف صيانتها منخفضة، مما يجعلها مناسبة بشكل خاص لصغار المزارعين في المناطق الريفية المعزولة. وعلى النقيض من ذلك، فإن أنظمة الري الحديثة مثل الري بالتنقيط، تتطلب استثمارات أولية كبيرة وتحتاج إلى مصدر منتظم للطاقة. وإلى جانب هذه المميزات تتمتع الأنظمة التقليدية للري ببعد اجتماعي وحوكمي متكامل، فهي ليست مجرد بنى تحتية، بل مؤسسات مجتمعية. فعلى سبيل المثال، تعتمد إدارة الأفلاج في عمان على أسواق المياه التقليدية ونظام تقاسم وقت الري ومسؤولي المياه المنتخبين من المجتمع، مما يضمن التوزيع العادل والصيانة الجماعية. ويُعد هذا الرأسمال الاجتماعي شكلا من أشكال الابتكار المتراكم على مر القرون، والذي غالبا ما تهمله الطرق الحديثة للري. وتجسد قنوات إيران وأفلاج عمان، المدرجة من قبل اليونسكو ضمن مواقع التراث العالمي، هذا الدمج بين الهندسة والثقافة والحوكمة المستدامة.

الزراعة المتدرجة أحد الأنظمة التقليدية المهددة بالاندثار (رابط المصدر)

تراث معرفي مهدد

على الرغم من مزاياها الواضحة، إلا أن هذه المعرفة والتكنولوجيا التقليدية مُهددة الآن بخطر الاندثار إلى الأبد بسبب نقص الاستثمار والدعم السياسي. فالحكومات والمنظمات الدولية تميل إلى تفضيل الحلول “الحديثة”، التي تُعتبر أكثر إنتاجية، مُهملة بذلك الحفاظ على المعرفة المتوارثة ونقلها. وقد أدى إدخال مضخات الديزل في اليمن على سبيل المثال، إلى التخلي عن أنظمة حصاد المياه التقليدية. ويشكل التوسع الحضري السريع وتغير استخدام الأراضي تهديدا مباشرا آخر، حيث تتوسع المدن على الأراضي الزراعية وتدمر هذه الأنظمة تدميرا فعليا. كما تلعب التغيرات المجتمعية وخاصة الهجرة الريفية دورا مدمرا، فالأجيال الشابة التي تجذبها المدن، لم تعد تتلقى التدريب العملي اللازم لصيانة هذه البنى التحتية المعقدة، مما يؤدي إلى انهيار نقل المعرفة بين الأجيال. ومن ثم، تعتبر هذه الأنظمة “عتيقة” أو “غير فعّالة”.

على الرغم من مرونة هذه الأنظمة، إلا أن تغير المناخ بحد ذاته قد يدفع قدراتها إلى أقصى حدودها، إذ تجعل التغيرات في أنماط هطول الأمطار صيانتها أمرا معقدا. ولمواجهة هذا التراجع، يقترح مؤلفو الدراسة سلسلة من التوصيات أبرزها الاعتراف رسميا بهذه الأنظمة كتراث وطني وعالمي، ودمج المعارف التقليدية والتقنيات الحديثة مثل نظم المعلومات الجغرافية، وإدراج هذه المعارف في البرامج التعليمية، والأهم من ذلك كله، تعزيز حوكمة المياه المجتمعية من خلال منح المؤسسات التقليدية وضعا قانونيا.

.

المراجع

– Traditional irrigation knowledge for sustainable water resource management in arid Environments: Insights from the MENA region

– Ancient systems keep water flowing

– The role of the jessour system for agrobiodiversity preservation in Southern Tunisia

.

تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x