.
لا شك أن لإعادة التدوير دور رئيسي في مواجهة تزايد نفايات البلاستيك التي يُنتج منها ما يقرب من 400 مليون طن سنويًا، وينتهي أكثر من 60% منها في مكبات النفايات. غير أن نتائج دراسة علمية جديدة تكشف عن واقع مختلف تخفي فيه الفوائد البيئية لإعادة التدوير مخاطر صحية وبيئية جسيمة. ولئن زادت أهمية عمليات تحويل النفايات إلى موارد قابلة لإعادة الاستخدام، فإن عمليات إعادة التدوير نفسها، سواء أكانت ميكانيكية أم كيميائية، أصبحت مصدرا للتلوث وتُشكّل مخاطر على صحة الإنسان والنظم البيئية.
تستكشف الدراسة الجديدة التي قام بها فريق دولي من الباحثين يضم باحثين من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن السعودية وجامعتي ميشيغان وميسيسبي الأمريكيتين، هذه الثنائية بعمق، من خلال عرض الطرق المختلفة لإعادة تدوير البلاستيك وآثارها البيئية والصحية المرتبطة بها، موضحة أن إدارة النفايات البلاستيكية تمثل تحديا أكثر تعقيدا مما تبدو عليه.
الطرق الميكيانيكية لإعادة تدوير البلاستيك: مصنع للتلوث بالميكروبلاستيك
يقول الباحثون في الدراسة إن شركات معالجة نفايات البلاستيك عادة ما تفضل طرق إعادة التدوير الميكانيكية لانخفاض تكلفتها وقدرتها على تحويل ما بين 94% و98% من النفايات إلى مواد بلاستيكية جديدة قابلة للاستخدام مرة أخرى. غير أن هذه الطرق لا تخلو من مضار بيئية تتمثل بشكل خاص في إطلاق الشظايا البلاستيكية الدقيقة، التي غالبًا ما يقل حجمها عن 5 ملليمترات، وبكميات هائلة خلال مراحل سحق النفايات البلاستيكية وغسلها وتجفيفها.
ويشير المؤلفون إلى أن إحدى الدراسات على سبيل المثال، كشفت أن أحد المراكز البريطانية لمعالجة البلاستيك بطريقة ميكيانيكية يُطلق ما يصل إلى 75 مليار قطعة بلاستيكية دقيقة لكل متر مكعب من مياه الصرف الصحي سنويا. تعمل هذه الشظايا الصغيرة التي يتراوح حجمها من 0.1 إلى 5 ميكرومتر، كإسفنجات مُلوثة، تتركز عليها المواد السامة بما يصل إلى 106 أضعاف تركيزها في البيئة المحيطة. والأسوأ من ذلك، أن فحوصات دم العمال كشفت عن وجود 23 بوليمرا مختلفا، بما في ذلك البولي بروبيلين والبوليسترين، لدى جميع الموظفين الذين خضعوا للفحص.
وبحسب الدراسة، فإن العواقب الصحية المحتملة متعددة ومثيرة للقلق، حيث أظهرت الاختبارات المعملية على الخلايا البشرية أن جسيمات البلاستيك الدقيقة المصنوعة من البوليسترين يمكن أن تغير تكاثر خلايا الرئة وشكلها واستقلابها، حتى دون التسبب في سمية خلوية فورية. ولاحظت دراسات سابقة أجريت على خلايا الكلى والكبد البشرية المعرضة لجزيئات البلاستيك الدقيقة المصنوعة من البوليسترين انخفاض تكاثر الخلايا والتغيرات المورفولوجية. واظهرت دراسات أخرى أن التعرض طويل الأمد لهذه الجسيمات الدقيقة ارتبط باختلال في توازن الحديد وزيادة بيروكسيد الدهون. ويمكن للجسيمات المصنوعة من البولي تترافلوروإيثيلين (PTFE)، أن تحفز إنتاج أنواع الأكسجين التفاعلية وأكسيد النيتريك، بالإضافة إلى زيادة إفراز العوامل الالتهابية.
إعادة التدوير الكيميائي: مخاطر بيئية وصحية
طريقة إعادة التدوير الكيميائي، التي تُقدم غالبا كحل للبلاستيك الذي يصعب معالجته ميكانيكيا، لا تخلو بدورها من مخاطر بيئية وصحية. فهذه العملية، القادرة على تحليل البوليمرات إلى مونومراتها الأساسية أو مواد كيميائية أخرى قابلة للاسترداد، تتطلب جهدا تقنيا أكبر، إضافة إلى كونها تؤدي إلى إطلاق أو تكوين مواد كيميائية سامة.
تُحدد الدراسة ثلاثة مسارات رئيسية للتلوث الذي تحدثه عملية إعادة التدوير الكيميائية: أولها هي إمكانية نقل المواد الكيميائية السامة المُدمجة في البلاستيك الجديد أثناء تصنيعه كمضافات، إلى المواد المُعاد تدويرها. ويتمثل الثاني في امتصاص البلاستيك للملوثات من النفايات التي تختلط به، مما يُنتج خليطا كيميائيا في المنتج المُعاد تدويره. وثالثها هي إمكانية أن تؤدي عملية إعادة التدوير نفسها، والتي غالبا ما تنطوي على درجات حرارة عالية، إلى توليد مواد سامة جديدة.
وتشمل قائمة المواد المضافة المسببة للمخاطر مواد الفثالات المستخدمة كمواد ملدنة لتحسين المرونة، مثل ثنائي إيثيل هكسيل فثالات (DEHP)، وهي مواد معروفة باضطرابات الغدد الصماء التي يمكن أن تؤثر على التكاثر لدى الذكور بخفض عدد الحيوانات المنوية وتضر بالكلى والكبد. وتشير الدراسة إلى أن من 20 إلى 30 في المائة من زجاجات المياه المصنوعة من مادة البولي إيثيلين تيرفثاليت (PET)المعاد تدويرها تحتوي على تركيزات أعلى من الفثالات السامة مقارنة بالزجاجات الأصلية من هذا النوع. ويمكن لمضادات الأكسدة مثل تلك التي تحتوي على الكبريت، أن تطلق ثاني أكسيد الكبريت والهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات (PAHs) أثناء الاحتراق أو المعالجة الحرارية. وترتبط مثبطات اللهب، الموجودة في نفايات البلاستيك بالسرطان لدى الحيوانات والسمية العصبية واضطراب الغدة الدرقية.
كما يمكن العثور على مواد مضافة أخرى، مثل بيسفينول أ (BPA)، والمواد الكيميائية الدائمة (PFAS)، والمعادن الثقيلة مثل الرصاص والكادميوم، في منتجات إعادة التدوير الكيميائي، مما يُشكل مخاطر على صحة الإنسان والبيئة في حال إعادة استخدام هذه المنتجات في تطبيقات حساسة أو في حال عدم التحكم في انبعاثاتها.
مراحل إعادة التدوير لها ىثار بيئية وصحية خطيرة
بحسب الدراسة فإن الأثر البيئي لإعادة التدوير لا يقتصر على المنتجات النهائية أو الجسيمات البلاستيكية الدقيقة؛ بل يمتد كذلك إلى كل خطوة من خطوات العملية التي تشمل الجمع والفرز والتكسير والغسل والمعالجة الحرارية أو البثق.
يقوم العمال والأطفال من الفئات الهشة في البلدان النامية بجمع النفايات البلاستيكية يدويا، مما يعرضهم لبيئات غير صحية مثل مكبات النفايات والقرب من المجاري المائية الملوثة. كما تنطوي عمليات الفرز اليدوي لنفايات البلاستيك على مخاطر مماثلة تتعلق باستنشاق مواد خطرة أو ابتلاعها.
وتوثق الدراسة أن 60% من جامعي النفايات في مكبات النفايات في بعض المناطق في أفريقيا وآسيا، هم أطفال دون سن 14 عامًا، يتقاضون أقل من 0.50 دولار يوميا دون معدات وقائية. ويتعرضون لأكثر من 400 سلالة بكتيرية و200 مركب كيميائي مسرطن ولا يتجاوز متوسط أعمارهم 45 عامًا. وفي الهند، يعاني 78% من عمال الفرز اليدوي من أمراض الرئة المبكرة.
مرحلة التكسير أو رحي النفايات البلاستيكية، تعد مصدرا رئيسيا للجسيمات البلاستيكية الدقيقة المحمولة جوا، وتستهلك طاقة غالبا ما تكون من أصل أحفوري، مما يُسهم في انبعاثات الكربون. كما تُنتج عملية غسل البلاستيك المسحوق بهدف إزالة الشوائب، كميات كبيرة من مياه الصرف الملوثة بالمنظفات والمخلفات العضوية والمواد الكيميائية من البلاستيك نفسه، وبالجسيمات البلاستيكية الدقيقة. وأخيرا، تتطلب عملية البثق الخاصة بتشكيل البلاستيك المنصهر، حرارة شديدة مما يتسبب في حدوث انبعاثات لثاني أكسيد الكربون. وينتج عن الاحتراق غير الكامل للإضافات الكيميائية أثناء هذه العملية الحرارية غازات ضارة مثل غاز الميثان وثاني أكسيد الكبريت وأول أكسيد الكربون والمركبات العضوية المتطايرة (VOCs)، والعديد منها سام ومسرطن، مما يؤثر على جودة الهواء حول المصانع وصحة العمال.
توصيات
في ضوء هذه الصورة المعقدة، دعا مؤلفو الدراسة إصلاح شامل لممارسات إعادة تدوير النفايات البلاستيكية، وإلى وتسريع وتيرة البحث والابتكار، من خلال اعتماد استراتيجيات تخفيف فعّالة تبدأ باستخدام تقنيات الجمع والفرز الآلية، مثل تقنية تحديد الترددات الراديوية (RFID) أو إنترنت الأشياء (IoT)، للحد من تعرض الإنسان للمخاطر. وأكدوا على أهمية وضع أنظمة معالجة مياه الصرف الصحي أكثر كفاءة لغسل النفايات السائلة، مع استكشاف تقنيات التنظيف الجاف التي تستخدم الكشط وطبقة الرمل المميعة والهواء المضغوط، للحد من استهلاك المياه والتلوث. وأشار المؤلفون إلى ضرورة استخدام أساليب مبتكرة في عملية البثق، مثل استخدام ثاني أكسيد الكربون فوق الحرج (Sc-CO2). ويمكن لثاني أكسيد الكربون فوق الحرج أن يعمل كعامل رغوي أو ملدن، مما يقلل من لزوجة البوليمر المنصهر، ويسمح بخفض درجات حرارة المعالجة وتوفير الطاقة، وتقليل انبعاثات المركبات العضوية المتطايرة. تدعو الدراسة في جوهرها إلى تبني لوائح أكثر صرامة فيما يتعلق باستخدام المواد الكيميائية السامة المضافة في تصنيع البلاستيك الخام. مع ضرورة تحفيز البحث لتطوير مواد كيميائية مضافة بديلة الأكثر أمانا وطرق فعالة لتحديد المواد السامة وتحديد كميتها وإزالتها أو تحييدها أثناء عملية إعادة التدوير.
.
المراجع
.
تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com