.
في طُرق دمشق القديمة عام 1889م، حين كان الفتى الأعمى يحمل على ظهره القزم المشلول، من أجل المساعدة في تحرّكاته وتحذيره من العقبات. فيمكن لأحدهم أن يمشي والآخر يرى….شراكة تكاملية لا يمكن لاحد منهما الاستغناء عن الاخر. هذه النسخة البشرية من القصة والان دعونا نتعرف على النسخة الميكروبية من هذا الشراكة المذهلة.
في أعماق بحيرات المياه العذبة المظلمة، حيث لا يصل الضوء إلا بشكل خافت، تعيش كائنات دقيقة تعزز فهمنا للتعاون البيولوجي. إنها “كلوروكروماتيوم أجريغاتوم” (Chlorochromatium aggregatum)، تحالف عجيب بين نوعين مختلفين تمامًا من البكتيريا، تدمج مواردهما لخلق كيان واحد قادر على البقاء في بيئة قاسية. هذه الشراكة ليست مجرد تعايش، بل هي دليل على عظمة الخالق.. (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى )..شراكة تُمكّن كل عضو من تحقيق ما يعجز عنه بمفرده! فهي شراكة لا مجال لفضها.
لنتعرف على أفراد الشراكة
الشريك الأول: بكتيريا كبريتية خضراء (Green Sulfur Bacteria)
– دورها: التمثيل الضوئي غير المنتج للأكسجين (Anoxygenic Photosynthesis)، حيث تستخدم كبريتيد الهيدروجين (H₂S) كمصدر للإلكترونات، وتنتج الطاقة من الضوء الخافت.
– ميزتها: تحتوي على “مُجَسَّات ضوئية“ (Chlorosomes) تلتقط حتى أضعف الأشعة تحت الحمراء.
الشريك الثاني: بكتيريا بيتا بروتيوبكتيريا (Beta-proteobacterium)
– دورها: توفير الحركة السريعة عبر أسواطها (Flagella)، والتنقل نحو مناطق غنية بالكبريت والضوء.
– ميزتها: تمتلك حساسية كيميائية عالية لتحديد مواقع العناصر الغذائية.
الية العمل في هذه الشراكة
التكامل الهيكلي: “جسد واحد بدماغين“!
تلتصق البكتيريا الخضراء بسطح البكتيريا المتحركة، مُشَكِّلَةً هيكلًا أسطوانيًا يصل طوله إلى 10 ميكرومتر. تُنظَّم هذه الوحدة عبر إشارات كيميائية تمنع التصاق أكثر من خلية خضراء واحدة بالخلية المتحركة، مما يحقق التوازن الأمثل.
التبادل الأيضي:
تنتج البكتيريا الخضراء الطاقة (ATP) والكربون العضوي عبر التمثيل الضوئي، وتنقلها إلى الشريك المتحرك عبر جسور بروتينية خاصة.
في المقابل، توفر البكتيريا المتحركة الكبريتيد (من تحليل الكبريتات في البيئة) كـ “عملة” للتفاعلات الضوئية، وتحمي الشريك من الأكسجين السام.
التزامن الحركي:
تتحرك الوحدة بأكملها ككيان واحد نحو الطبقات المائية حيث تتوازن شدة الضوء مع تركيز الكبريتيد، مستخدمةً آلية تُشبه “الملاحة الذكية Smart navigation” تجمع بين الاستشعار الكيميائي والضوئي.
لماذا هذه العلاقة غريبة؟
– الفقدان الجيني: البكتيريا الخضراء تفتقر الى جينات الحركة والأيض الهوائي خلال التطور، بينما البكتيريا المتحركة لا تمتلك جينات التمثيل الضوئي. هذا يجعل انفصالهما مستحيلاً لكليهما!
– التخصص الشديد: يعتمد كل منهما على الآخر في توفير ما لا يستطيع إنتاجه، مما يجعلهما “كائنًا واحدًا وظيفيًا”.
– التواصل الخلوي: تُظهر الدراسات الحديثة أن الشريكين يتبادلان إشارات جزيئية مثل (c-di-GMP) لتنسيق الانقسام والتكاثر المتزامن.
كيف يمكن الاستفادة من فهمنا لهذه العلاقة؟
أفكار لتكنولوجيا الطاقة الخضراء: قد تُلهم آلية التمثيل الضوئي الفعالة في الإضاءة المنخفضة تصميم خلايا شمسية حيوية تعمل في الظروف الباهتة، مثل أعماق المحيطات أو المناطق القطبية.
نماذج للتعاون الصناعي: فهم كيفية تبادل الموارد بين الشريكين قد يُحَسِّن تصميم الأنظمة التكافلية الصناعية، مثل مفاعلات حيوية تدمج كائنات مختلفة لإنتاج الوقود الحيوي بكفاءة.
مفاتيح لفك ألغاز التكامل: هذه العلاقات الإلزامية قد تفسرها دراسة جينوم هذه البكتيريا والعمليات الأيضية
“كلوروكروماتيوم أجريغاتوم” ليس مجرد كائن غريب، بل هو رمز للتعاون الذي يتجاوز حدود الفردية. في عالم يزداد تركيزه على المنافسة، تذكرنا هذه البكتيريا بأن البقاء الأكثر ذكاءً قد يكون عبر الشراكة !
.
المراجع
- Overmann, J. et al. (2019). Metabolic synergy in Chlorochromatium aggregatum. Science, 365 (6458), 124-127.
- Müller, V. et al. (2022). Cell-cell signaling in Chlorochromatium symbiosis. Science Advances, 8(15).
- Frigaard, N. (2020). Chlorosomes: Nature’s Solar Panels. PNAS, 117(11), 5203-5205.
- schaechter.asmblog.org/schaechter/2009/04/happy-together-life-of-the-bacterial-consortium-chlorochromatium-aggregatum.html
.
تواصل مع الكاتب: elmanama_144@yahoo.com
.
اقرأ ايضاً
الكائن الأسطوري النادر: ليجندريا لويازاي
