.
هل تساءلت يوما إن كانت الجسيمات البلاستيكية التي تطفو على سطح مياه البرك أو الأنهار أو البحار أكثر من مجرد “قمامة”؟ دراسة علمية جديدة تكشف أن هذه الجسيمات الصغيرة، المعروفة بالميكروبلاستيك، قد تكون حاضنة للبكتيريا المقاومة لأقوى المضادات الحيوية المعروفة اليوم. وفي الوقت الذي تمثل فيه مقاومة المضادات الحيوية أحد أكبر التهديدات الصحية التي تواجه البشرية، يبرز عامل جديد يزيد الطين بلّة: إنه التلوث البلاستيكي. وبينما نظن أن خطر البلاستيك يكمن فقط في ضرره البيئي أو تأثيره السلبي على الحياة البحرية، يكشف العلم أن هناك ما هو أعمق وأخطر بكثير.
الدراسة الجديدة التي قام بها فريق دولي من الباحثين ونشرت مؤخرا في دورية (Microbial Pathogenesis) العلمية قامت بتحليل دقيق لجسيمات الميكروبلاستيك الموجودة في البحر المتوسط قبالة السواحل التونسية. ووجدت أن أسطح هذه الجسيمات تعج بأنواع مختلفة من البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية التي تتخذ منها موئلا يساعدها على البقاء والتنقل بسهولة في الوسط البحري والمائي بصفة عامة.
حول مصدر هذه الجسيمات، يقول الدكتور هادي بن منصور رئيس وحدة البحث في التحاليل والأساليب المطبقة في البيئة بمعهد العلوم التطبيقية والتكنولوجيا بالمهدية تونس، والذي أشرف على إنجاز الدراسة “إن الميكرو بلاستيك الذي يتكون من جسيمات يقل قطرها عن 5 مليمتر، يتأتى من تحلل البلاستيك مثل أكياس البلاستيك والمواد المصنعة من البلاستيك بفعل عوامل فيزيائية كيميائية طبيعية”. مضيفا في حديث خاص مع موقع منظمة المجتمع العلمي العربي أن “هذه الجسيمات تنتشر في الطبيعة حتى تصل إلى البحر عن طريق النفايات التي يتم التخلص منها في الطبيعة”.
يعتبر البحر الأبيض المتوسط أحد أكثر البيئات الملوثة بالبلاستيك في العالم، حيث تشير التقديرات إلى أنه يتم إلقاء ما يقارب 200 ألف طن من البلاستيك سنويا. ومع مرور الوقت، تتفتت قطع البلاستيك بشكل بطيء إلى جسيمات دقيقة تتراكم في الرواسب والمياه السطحية.
في هذه الدراسة التي أنجزت بالتعاون مع منظمة المجتمع العلمي العربي ومشروع “اوراسموس”، قام الباحثون، وفق الدكتور بن منصور، بأخذ 66 عينة عشوائية من الرواسب البحرية بحجم 500 غرام لكل منها، من البحر المتوسط قبالة السواحل التونسية، ثم قاموا باستخراج الميكرو بلاستيك من كل هذه العينات وعزل البكتيريا الملتصقة بهذه الجسيمات بإجراء تحليل جيني لهذه البكتيريا بهدف كشف المكونات الجينومية لها ومعرفة أنواعها.
كشفت الدراسة عن تنوع بكتيري كبير على أسطح جزيئات الميكروبلاستيك الدقيقة المعزولة، ووجد الباحثون أن حوالي 85 % من العينات التي تم عزلها تنتمي إلى فئة متقلبات غاما (Gammaproteobacteria)، بينما تنتمي 15% إلى فئة العصيات (Firmicutes)، وتنقسم البكتيريا التي تم تحديدها إلى 10 أنواع مختلفة، تشمل الراكدة والزائفة والعصية والمكورات العنقودية والشوانيلا (shwanella) والبكتيريا المعوية.
وأوضح الدكتور بن منصور أن “الميكرو بلاستيك عندما يتحلل يصبح له سطح غير أملس ويحتوي على نتوءات صغيرة مما يزيد من قدرته على إيواء الكائنات المجهرية مثل البكتيريا والمواد الملوثة كنفايات صناعات الأدوية والمواد المستخدمة للرش الفلاحي”، مضيفا أنه “عادة ما يكون لهذه الملوثات عمرا قصيرا لكن عند التشبث بسطح الجزيئات الميكرو بلاستيكية فإنها تزيد من عمرها الافتراضي وتزيد من عمر ها بين خمسة وستة أضعاف”.
قام الباحثون كذلك بدراسة أنماط حساسية هذه السلالات ضد 21 مضادًا حيويًا شائع الاستخدام في تونس. وأظهرت النتائج أن البكتيريا المعزولة تتمتع بمقاومة مرتفعة للبنسلين”جي” G (97,82%) والتيموسيلين (86,95%). وتوفر إحدى سلالات شيوانيلا التي عثر عليها في العينات مؤشر مقاومة متعدد للمضادات الحيوية يبلغ 0,71، مما يشير إلى مقاومة تزيد عن 70٪ من المضادات. هذه المقاومة المتعددة هي إشارة إنذار، كما يقول المؤلفون، لكونها تشير إلى أن اللدائن الدقيقة يمكن أن تعمل كخزانات للبكتيريا شديدة المقاومة، قادرة على نشر هذه الأنواع من المقاومة في البيئة.
وبحسب الدكتور بن منصور فإن “هذه الملوثات أو البكتيريا تزيد مقاومتها للمضادات الحيوية لأن وضع الالتصاق في الميكرو بلاستيك يعطيها ثباتا أكبر واستقرارا أفضل مقارنة مما لو كانت تتحرك بصفة عشوائية في المياه، ففي الحالة العادية تقوم هذه الميكروبات بالترسب أو بالنزول في الترسبات في القاع لكن عندما تلتصق بجسيمات الميكرو بلاستيك الطافية والمتنقلة في المياه بفعل التيارات البحرية فإنها ستنتشر بشكل واسع في المحيط البحري”.
يقول الباحثون إن هذه النتائج تُسلِّط الضوء على الخطر البيئي الذي يشكّله تلوث الجسيمات البلاستيكية الدقيقة، التي تعمل كناقلات للبكتيريا متعددة المقاومة، ويُمكن أن تنتشر في النظم البيئية البحرية، مما يشكّل خطرا سُمّيًا كبيرا على هذه النظم البيئية، وتهديدا لصحة الإنسان. ويمكن لهذه الجسيمات البلاستيكية الدقيقة أن تمتصّ مجموعة واسعة من الملوثات الضارة، بما في ذلك المعادن الثقيلة، والملوثات العضوية الثابتة، والمواد الكيميائية المعطّلة للغدد الصماء من المياه المحيطة. وبمجرد التصاق هذه الملوثات بأسطح الجسيمات البلاستيكية الدقيقة، يمكن أن تبتلعها الكائنات البحرية المختلفة، مما يؤدي إلى تراكمها الحيوي وتضخمها الحيوي داخل الشبكة الغذائية. على سبيل المثال، أظهرت الدراسات السابقة أن الكائنات التي تتغذى بالترشيح، مثل بلح البحر والمحار، يمكن أن تراكم الجسيمات البلاستيكية الدقيقة مع المواد السامة المُرتبطة بها، مما يؤثّر في النهاية على المستويات الغذائية الأعلى، بما في ذلك البشر الذين يستهلكون هذه الكائنات.
بشكل عام، تسلّط السُّمية البيئية للميكروبلاستيك الضوء على الحاجة إلى تقييمات واستراتيجيات شاملة للتخفيف من آثار تلوث الجسيمات البلاستيكية الدقيقة.
.
المصدر:
حوار مع الدكتور هادي بن منصور رئيس وحدة البحث في التحاليل والأساليب المطبقة في البيئة بمعهد العلوم التطبيقية والتكنولوجيا بالمهدية تونس
– Dissemination of antibiotic-resistant bacteria associated with microplastics collected from Monastir and Mahdia coasts (Tunisia)
.
تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com