رغم أنّ إنتاج المعرفة ونشرها في العديد من البلدان العربية آخذٌ في الازدياد، فإنّ الحصة العالمية الإجمالية للمنطقة العربية في نشر البحوث الصحية تعدّ أقل من حصتها العالمية من السكان أو الثروة. هذا ما أكّدته دراسة علمية قام بها باحثون عرب ونُشرَت في دورية (Exploratory Research in Clinical and Social Pharmacy) في ربيع العام الماضي.
منظمة المجتمع العلمي العربي
في هذه الدراسة، قدّم الباحثون جملةً من التوصيات للنهوض بمجال البحث العلمي الصيدلي، على ضوء استراتيجية منظمة الصحة العالمية للبحوث الصحية التي وضعتها في عام 2012، والتي تستند إلى فرضية أنّ السياسات والممارسات الداعمة للصحة في جميع أنحاء العالم، يجب أن ترتكز على أفضل المعارف العلمية المستمدة من البحوث عالية الجودة. وتتضمّن هذه التوصيات وضع استراتيجيات للبحوث المتعلّقة بالصيدلة، لمعالجة السياق والاحتياجات المحلية للبلد المضيف، وخلق طرق بحثٍ تعاونية داخل وخارج المنطقة، إلى جانب الاستثمار في القدرات البحثية، وتعزيز ثقافة البحث في مكان العمل.
استراتيجية منظمة الصحة العالمية للبحوث الصحية
تتضمّن هذه الاستراتيجية خمسة أهداف مترابطة هي: تعزيز ثقافة البحث في المنظمات (التنظيم)، وتركيز البحث عالميًا على الاحتياجات الصحية ذات الأولوية (الأولويات)، والمساعدة على تقوية النظم الوطنية للبحوث الصحية (القدرة)، إضافةً إلى تعزيز الممارسة الجيدة في البحث (المعايير)، وتعزيز الروابط بين البحوث الصحية والسياسات والممارسات الصحية (الترجمة).
وقد قدّمت دراسة علمية سابقة توصيات لتحسين أبحاث ممارسة الصيدلة في 12 دولة ناطقة باللغة العربية في الشرق الأوسط. تتعلّق بتحديد أولويات البحث من قبل السلطات الصحية في كل بلد، وتعزيز ثقافة أبحاث ممارسة الصيدلة مع الباحثين الأكاديميين والممارسين وأيضًا تحويل بحوث الممارسة الصيدلية إلى دراسات تطبيقية.
أمّا في هذه الدراسة التي هي محور المقالة، فقد قام الباحثون بالتوسّع في هذه التوصيات على ضوء الأهداف الخمسة التي حدّدتها استراتيجية منظمة الصحة العالمية.
تعزيز ثقافة البحوث الصيدلانية في الدول العربية
لاحظ المؤلفون أنه تمّ إنشاء عددٍ من المنظمات بغية تعزيز البحث العلمي في جميع أنحاء المنطقة العربية مثل المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا في الأردن، وهيئة تمويل العلوم والتكنولوجيا والابتكار في مصر، ومؤسسة قطر التي تعمل على تعزيز الابتكار الإقليمي وريادة الأعمال عبر العلوم والبحوث والتعليم في مجالاتٍ متعددة، ومؤسسة الكويت للتقدّم العلمي وغيرها من المؤسسات التي لديها القدرة على تمويل البحوث المتعلّقة بالصيدلة. كما تمّ استحداث هيئتين رئيسيتين لدعم البحوث هما المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا، واتحاد الجامعات العربية.
وتعتمد بعض هذه المؤسسات البحثية في جانبٍ من أنشطتها على البحث التعاوني مع بعضٍ من أفضل المعاهد على المستوى الدولي والإقليمي والوطني. كما أنّ المراكز الرائدة للبحث والابتكار في المنطقة العربية، تحتلّ موقع الصدارة في الاستثمار في الباحثين "المحليين" وتغطي مجموعة واسعة من الصناعات الصحية، بما في ذلك الصيدلة. وتعمل هذه المراكز على تغيير ثقافة البحث لتيسير التعاون بين الباحثين والاستفادة من البنى التحتية القائمة والمتطورة.
ومن أجل تعزيز دور هذه المؤسسات، ونشر التجارب الناجحة، يرى المؤلفون أنه يجب إنشاء نماذج للتعاون ليس فقط على المستوى الدولي والإقليمي، ولكن أيضًا داخل البلد نفسه.
تركيز أبحاث الصيدلة محليًا وإقليميًا على الاحتياجات الصحية ذات الأولوية
بحسب الباحثين، فإنّ تحديد الأولويات المحلية في مجال البحوث الصحية الذي يشمل مختلف أصحاب المصلحة سيوجّه المعرفة، ويولّد الأدلة، ويزيد من مردودية الاستثمارات خاصة في البلدان محدودة الموارد. وقد سبق لعددٍ من الدراسات معالجة الأمور والأولويات التي تؤثّر على أدوار الصيادلة، ومساهماتهم في الصحة في المنطقة، ممّا يوفر رؤية وفهم أعمق لدورهم في تلبية الاحتياجات والأولويات الصحية للدول. لذلك، يحتاج الباحثون إلى التفكير في سياقهم المحلي، وكيف يمكن للصيادلة وعلماء الصيدلة تلبية احتياجات المجتمع والمرضى فيما يتعلّق بالأدوية وكذلك الجوانب الاجتماعية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والتنظيمية للأدوية.
وقد أشار المؤلفون إلى أنّ الصيادلة يواجهون في العديد من البلدان العربية جملة من العراقيل تحول دون إجراء البحوث ذات الصلة بمجال ممارستهم أو اهتماماتهم. وقد كشفت دراسة سابقة أجريَت عام 2015 وشملت 76 صيدليًا من دول عربية مختلفة (منتشرة في منطقة الخليج وشمال إفريقيا ومنطقة المشرق العربي) أنّ أكثر العوائق شيوعًا أمام إجراء التجارب السريرية في المنطقة، تتمثّل في التدريب غير الكافي على تنفيذ البحوث السريرية، ونقص الدعم المالي، إلى جانب ضيق الوقت ومهارات البحث المحدودة.
وفي الأوساط الأكاديمية، على سبيل المثال، أحد الأساليب التي يمكن أن تساعد في ضمان حصول أعضاء هيئة التدريس على الوقت الكافي للمساهمة في خططهم البحثية هو مراقبة أعباء عمل أعضاء هيئة التدريس باستخدام معايير قابلة للقياس بشكلٍ كافٍ وعادل تأخذ في الاعتبار العبء التدريسي والقدرة البحثية ومسؤوليات خدمة المجتمع.
المساعدة في تعزيز النظم الوطنية لبحوث الصيدلة
في عام 2013 أظهرت نتائج دراسة مراجعة حول البحوث الصحية عبر إقليم شرق المتوسط، أنه ورغم الارتفاع المطّرد لعدد الورقات العلمية التي أنتجها الباحثون في المنطقة، إلّا أنّ جودة هذه البحوث ظلّ ضعيفًا، مع وجود عجزٍ خطير في إدارة أنظمة البحوث، وفي التدريب على البحث وتطوير الموارد البشرية، وأيضًا في مراقبة البيانات الأساسية. ويشير الباحثون في الدراسة الجديدة إلى الحاجة لمزيدٍ من المعلومات الحديثة من أجل فهمٍ أفضل لواقع البحث والإنتاج العلمي في الصيدلة في البلدان العربية. خاصةً وأنّ عدد الدراسات التي تقيّم الإنتاج العلمي في مجال الصيدلة محدود بسبب عدم توفر بيانات حديثة.
بناء القدرات وتنميتها
يتمثّل أحد التحديات الرئيسية، وفق الدراسة، في إنتاج أبحاثٍ عالية الجودة حول الممارسات الصيدلانية في المنطقة العربية، وفي توافر الباحثين الحاصلين على تدريبٍ شامل في طرق البحث الخاصة بالخدمات الصحية الصيدلانية (ممارسة الصيدلة). ويُعتبر التدريب غير الكافي على تنفيذ البحوث السريرية، والافتقار إلى إجراءات إدارة منظومة البحث للعوائق التي يتعيّن معالجتها بغية تسهيل البحث السريري في المنطقة.
أمّا عن الاستراتيجيات الموصى بها لتعزيز ثقافة البحث وقدراته بين الباحثين والأكاديميين في المجال الصحي، فهي تتمثّل في تطوير مهارات البحث لديهم، وزيادة التحفيز الوظيفي، وتعزيز التعاون مع الشركاء الخارجيين، وتطوير المناصب القيادية البحثية التي تهدف إلى تذليل العقبات، والتي يمكن أن تعرقل إنجاز البحوث. علاوةً على ذلك، فإنّ التعاون بين العلم والممارسة الصيدلانية سيعزّز النظم الوطنية للبحث في مجال الصيدلة، ذلك أنّ وجود ممارسين صيدلانيين ضمن الفرق البحثية، على سبيل المثال، سيعمل على تعزيز نقل المهارات وبناء القدرات في مجال البحث.
تعزيز الممارسات الجيدة في أبحاث الصيدلة
كان السلوك الأخلاقي للبحوث الخاصة بالدول العربية في المجال الصحي موضوع عددٍ من المناقشات، كما يقول المؤلفون. وقد أجرى باحثون في دراسة سابقة على سبيل المثال، مقابلات متعمقة مع 52 باحثًا من لبنان وقطر حول التحديات في البحث، أفادوا خلالها بأهمية وظائف مجلس المراجعة المؤسسية (Institutional Review Board). وقد تضمّنت التوصيات المحدَّدة للباحثين في الصيدلة والعلوم الصيدلانية الحاجة للأخذ بعين الاعتبار السياق الثقافي للمرضى مع تطبيق قواعد أخلاقيات المهنة، وكذلك الموارد والعمليات الفعالة في مجالس المراجعة المؤسسية، والحاجة إلى التوعية، والتواصل الفعّال مع الباحثين.
تعزيز الروابط بين البحوث الصيدلانية والسياسة والممارسات الصحية
يؤكّد الباحثون على أهمية البحث الانتقالي الذي يمكّن من تحويل الملاحظات في المختبر والعيادة والمجتمع إلى مدخّلات تعمل على تحسين صحة الأفراد والجمهور. وهو نموذج البحث السريري الجديد لنقل المعرفة عبر سلسلة البحث والممارسة.
وتتطلّب "ترجمة" البحث إلى وجود سياسة وممارسة، وحوافز مؤسسية ومالية. لكن توفير هذه الحوافز يمثّل معضلة كبرى بالنسبة لأنظمة البحث والتطوير في البلدان العربية، خاصةً ذات الدخل المنخفض والمتوسط. كما أنّ انخفاض نسبة المرضى المشاركين في الأبحاث السريرية في الدول العربية، يؤدّي لتفاقم مشكلة الحصول على بياناتٍ موثوقة من المنطقة. وقد تمّ الإبلاغ في دراساتٍ سابقة عن فقر البيانات المتاحة للجمهور حول أنظمة البحث في المجال الصحي، ممّا يجعل من الصعب إجراء مقارناتٍ متبادلة ذات مغزى للأداء داخل المنطقة العربية. لذلك، يوصي الباحثون بضرورة زيادة التمويل، وبناء القدرات البحثية، وإصلاح ترتيبات الحوكمة، والاستثمار السياسي المستمر في دعم البحوث.
المصدر
– https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S2667276621000998
تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة