يُعتبر فصل الشتاء موسماً للخمول والكسل وضعف الإنتاجية للبعض منا، ولكن في المقابل نجد أن فئة كبيرة من العلماء والمخترعين لا يعانون من ظاهرة (البيات الشتوي)؛ ولهذا على خلاف المتوقع قد يكون موسم الشتاء من أكثر فصول السنة إنتاجية علمية بسبب التفرغ شبه الكامل والمناسب لأجواء البحث العلمي، بالإضافة إلى الاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية التي تم التوصل لها في زمن الشتاء وهي كثيرة ومتنوعة، وما سيتم استقراءه أو استدعاءه في هذا المقال هو عينة مختارة تبين بحق أن جذوة الابتهاج النفسي بتحقيق اكتشاف علمي قد تؤجج زخم النشاط البحثي؛ مما يترتب عليه بذل المزيد من الجهد حتى في أجواء الشتاء الكئيبة والمكبلة، وهو ما نشعر به في هذه الأيام مع موجة الصقيع الأخيرة على منطقتنا العربية.
ولعلنا نبدأ بذكر مدير جامعة فورتسبورغ الألمانية الذي على الرغم من مشاغله الإدارية الجمّة إلا أنه استمر يعمل بحماس واجتهاد في مختبره العلمي، ولهذا في بداية شتاء عام 1895م وبالتحديد في يوم الثامن من شهر نوفمبر توصل عالم الفيزياء الألماني المعروف فليهام روتنجن إلى اكتشاف أشعة إكس؛ وهي تعد أحد أبرز الاكتشافات الفيزيائية في العصر الحديث، ومن أجل أن يتأكد روتنجن من صحة اكتشافه العلمي وكذلك لمحاولة تفسير تلك الأشعة الغريبة والجديدة تماما على علماء الفيزياء فقد انعزل روتنجن لمدة ثلاثة أسابيع في مختبره بعيدا عن طلبته ومهامه الإدارية، وهذا ما أثمر عن فيض وزخم كبير في تقدم المعرفة العلمية في هذا المجال.
والاكتشافات العلمية تحتاج عادة لفترة زمنية، وذلك لعدة أسباب وهي الآتي: أولاً للتوصل لها وثانياً للتأكد منها وثالثاً لتقديمها للمجتمع العلمي ورابعاً لمحاولة توظيفها والاستفادة منها، ومع ذلك فخلال أسابيع قليلة جدا في شتاء تلك السنة قام روتنجن ببذل جهود متواصلة لتعريف المجتمع العلمي بهذا الاكتشاف، وخلال أيام قليلة تم الاستفادة منه في التطبيقات الطبية واختراع أجهزة محسّنة لإنتاج هذه الأشعة الجديدة، والأغرب من ذلك أنه في نفس تلك الفترة تقريبا حاول بعض العلماء تكرار تجارب روتنجن وقد قادتهم أبحاثهم تلك إلى اكتشافات علمية مذهلة، وإضافات غير معهودة كما حصل مع عالم الفيزياء الفرنسي هنري بيكريل الذي ساقته أبحاثه عن أشعة إكس إلى أن يكتشف بمحض الصدفة ظاهرة النشاط الإشعاعي لبعض العناصر الكيميائية، كما أنه بعد مدة من الزمن وفي ظروف تجريبية ليست مختلفة كثيرا عنها فقد توصل عالم الفيزياء البريطاني جوزيف طمسون إلى اكتشاف الإلكترون، وهو يعد أحد أهم الاكتشافات العلمية في جميع العصور، والمقصود هنا أنه بفضل زخم النشاط العلمي خلال أشهر الشتاء الكئيبة توصل روتنجن لفتح بوابات الاكتشافات العلمية المتتابعة لأبرز ركائز العلوم الحديثة، ولهذا ليس من المستغرب أن يتم تكريمه بمنحه أول جائزة نوبل في الفيزياء وذلك في عام 1901 ميلادي.
فإذا كانت ليالي الصيف تمنح السمر فإن ليالي الشتاء تورث الحكمة، حيث إن هدوء الليالي الشتائية يوفر الفرصة الكافية للتفكير والتدبر؛ ولهذا لا عجب من أن نجد بعض أهم الاكتشافات العلمية قد تمت في سكون الليل وليس في ضجيج المعامل والمختبرات، ففي أول يوم من عام 1697م وكهدية رأس السنة قام عالم الرياضيات السويسري يوهان برنولي بطرح مسألة معقدة جدا في علم الرياضيات تسمى مشكلة (منحنى الزمن الأقصر)، وبحكم أن أبرز وأهم علماء الرياضيات في ذلك الزمن هم علماء الرياضيات الناطقين باللغة الألمانية في سويسرا وألمانيا والنمسا، فقد تحداهم برنولي أن يحلوا هذه المسألة الرياضية في ستة أشهر، وتقريبا في مثل أيامنا هذه الأخيرة من شهر يناير من عام 1697م؛ أي بعد ثلاثة أسابيع من طرح تلك المسألة الرياضية قام أحدهم بإيصالها إلى عملاق العلوم إسحاق نيوتن، وخلال ليلة واحدة من ليالي الشتاء استطاع نيوتن التوصل إلى حل تلك المسألة العويصة، ولكن لم يقف الأمر عند ذلك بل قام بتطوير فرع جديد من علوم الرياضيات يدعى حساب المتغيرات، وحينها قام نيوتن بإرسال الحل الرياضي لهذا التحدي العلمي إلى الجمعية الملكية في لندن ليتم نشره على المجتمع العلمي، وقد حرص نيوتن على أن يتم النشر دون أن يذكر اسمه؛ بمعنى أن يكون صاحب الحل مجهولا، وعندما وصل الحل إلى برونلي خمّن بشكل سليم أن من توصل لذلك الحل هو نيوتن، ويقال إن برونلي علّق على ذلك بقوله (إني أعرف الأسد من مخلبه).
زخم الاكتشافات العلمية في الشتاء
ومن (ومضة) الإبداع لدى نيوتن في إحدى ليالي الشتاء لحل مسألة رياضية واحدة إلى (فيض) وغزارة الإبداع والابتكار لديه في اكتشاف أحد أهم وأحدث فروع علم الرياضيات الحديثة؛ ألا وهو علم التفاضل والتكامل وقبل ذلك اكتشف نظرية ذات الحدّين، وبناء على وصف نيوتن نفسه أنه في نوفمبر من عام 1665م توصل لذلك المفهوم الرياضي الإبداعي، وكان ذلك في القصة المشهورة عندما حدث وباء الطاعون الكبير في تلك السنة وتم إغلاق جامعة كامبريدج، ولهذا عاد الشاب نيوتن إلى مدينته الريفية الهادئة وولسثورب، وهنالك توالت سلسلة الاكتشافات العلمية المذهلة والمتوالية بسرعة لهذا الشاب الصغير فيما عرفها باسم (سنة العجائب)، كما أن علاقة إسحاق نيوتن بالشتاء وثيقة، فهو قد ولد في يوم الميلاد الكريسماس (25 ديسمبر)، بالإضافة لاكتشافه الرياضي السابق الذكر، كما يذكر نيوتن أنه في شهر يناير من مطلع سنة 1666 توصل إلى وضع أسس نظريته المشهورة حول طبيعة الضوء وعلم البصريات، والأهم من ذلك أنه خلال تلك (السنة العجائبية) لنيوتن وبعد تفكيره العميق في مجال علم الحركة والميكانيكا توصل إلى قانونه الشهير المتعلق بالجاذبية، وهذا يقودنا لقصة سقوط التفاحة الملهمة وهي غالبا قصة غير حقيقية، وقد (ناقشت هذا الأمر في مقال: أحداث علمية مشهورة من نسج الخيال)، ومع ذلك فثمر التفاح في بريطانيا يستمر موسمه حتى نهاية الخريف، وبهذا قد يتقاطع سقوط التفاح مع الأجواء الباردة (المؤججة) للاكتشافات العلمية الخالدة.
وبعد حوالي قرنين ونصف من الزمن يمر شاب آخر بقصة مشابهة في فيض الإبداع المكثف، ومن سنة العجائب لنيوتن year of wonders ننتقل إلى ما سمي باللغة اللاتينية Einstein's annus mirabilis سنة المعجزات لأينشتاين، وقد كان ذلك في عام 1905م عندما أنجز الشاب المغمور ألبيرت أينشتاين وهو في سن ال 26 من عمره، حيث نشر أربعة أبحاث علمية تعد معالم فارقة رئيسة غيرت قوانين علم الفيزياء الحديث بصورة جذرية، كما يجب أن أعترف بأن بعض أشهر المقالات العلمية التي نشرها أينشتاين في تلك السنة كانت في فصل الصيف، مثل بحثه الذي تناول فيه ظاهرة التأثير الكهروضوئي (وهو ما منحه جائزة نوبل)، واكتشاف أينشتاين لمفهوم الفوتون أو ذلك البحث الأكثر شهرة والذي تناول فيه النظرية النسبية الخاصة، ومع ذلك نجد أن لأجواء الشتاء وميضها وفيضها المحفز لذهن ذلك العبقري، وفي تاريخ 21 من شهر نوفمبر لعام 1905م نشر أينشتاين ورقته العلمية التاريخية؛ والتي احتوت لأول مرة على أهم وأشهر معادلة علمية في التاريخ البشري: E = mc2 أو بالعربي الفصيح: الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء.
وربما من الملائم الإشارة إلى أن فيض الإبداع وطفرة العبقرية هو أمر متكرر في حياة العديد من أبرز المبدعين في جميع مجالات المواهب البشرية، وكثيرا ما نجد بعضهم ينتج أعمالا إبداعية بشكل متزامن، وهذا مثالا على ذلك في مجال الكتابة والأدب أن الروائي الروسي المعروف دوستويفسكي يؤلف روايته الذائعة الصيت (الجريمة والعقاب)، وذلك بالتزامن مع كتابة روايته الممثلة لشخصيته الحقيقة رواية (المقامر)، وفي شتاء شهر نوفمبر من عام 1865م خطرت في ذهن دوستويفسكي ملامح أحداث الجريمة التي سوف يقوم بها الشاب راسكولينكوف ودوافعه النفسية، ثم ما أن حلّ شهر يناير التالي إلا وقد ظهر الجزء الأول من تلك الرواية الأدبية الخالدة.
ومن الشتاء الروسي اللاذع إلى الشتاء النمساوي اللاسع ومن فن الرواية إلى عالم الموسيقى، وإذا نحن أمام قائد ذلك الفن الأبرز الموسيقار الألماني الأصل والنمساوي الإقامة بيتهوفن، فخلال الأيام والليالي الباردة من عام 1808م عكف بيتهوفن وبشكل متزامن على تلحين اثنتين من أعماله الموسيقية البارزة، وهي السمفونية الخامسة (أشهر سمفونية له على الإطلاق والمعروفة باسم: ضربات القدر)، والسمفونية السادسة وقد تم تقديم هذه السمفونيات في نفس التوقيت وذلك في ليلة 22 ديسمبر أي قبل حلول الكريسماس بقليل، وعلى خلاف الموسيقار النمساوي الأشهر موزارت الذي أنتج 41 سمفونية نجد أن بيتهوفن لم يؤلف سوى تسع سمفونيات، وبحكم أن اثنتين منها تم تلحينها بشكل متزامن فلا شك أن (فيض الإبداع) وزخم العبقرية كان في أقصى مداه في ذلك الشتاء.
وهذا الرسام الإسباني بيكاسو وبحكم أنه عمّر طويلا وبسبب السرعة النسبية في رسم بعض اللوحات السريالية التي خربشها، فإننا نجد تفاوتا كبيراً في تقدير عدد اللوحات والرسومات الفنية التي أنجزها قبل وفاته في سن التسعين، كما أن البعض يقول إن عدد رسوماته لا يقل عن خمسين ألف عمل فني تشكيلي؛ ولهذا ليس من المستغرب على الإطلاق أنه كان يستطيع إنجاز أكثر من لوحة فنية في نفس اليوم، وهذا التميز الفني البارز لبيكاسو وبداية شهرته المدوية حصل عليه عندما غادر ما يسمى الحقبة الزرقاء ثم الحقبة الحمراء في مسيرته الفنية؛ لكي يبدع الموجة التشكيلية الجديدة المسماة بالتكعيبية، وليس من المستغرب بعد ما سبق ذكره أن تكون هذه النقلة الفنية في مسيرة بيكاسو حصلت في شتاء عام 1911م في مدينة باريس.
تواصل مع الكاتب: ahalgamdy@gmail.com
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلفين وليست، بالضرورة، آراء منظمة المجتمع العلمي العربي
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة