لا ينفصل الحديث عن المصطلحات والصيغ العلمية عن الحديث عن اللغة العربية العلمية وتاريخها. فالمصطلحات هي إحدى أجزاء هذه اللغة، تساعد على التخصص وتعين على دقة التعبير وإيجازه، وعلى حسن الأداء، وتزداد أهمية اللجوء إلى المصطلحات خاصة عندما تتغلب اللغات العامية في الممارسات التعليمية والثقافية. أما اللغة العلمية فتتميز بألفاظ وعبارات خاصة ترمز لمدلولات، فالمصطلح يوفر المجهود ويصرفه كله إلى صميم العلم نفسه.
ولا يكفي في وضع المصطلح وصياغته بترجمته من لغة إلى أخرى على أيدي من لا دراية له بالعلم الذي صيغ فيه وله هذا المصطلح. فوضع المصطلح وصياغته موضوع تقني في كل علم يقوم به من ضمّ إلى المقدرة العلمية المقدرة اللغوية وكذلك المعرفة بتاريخ هذا العلم وتطوره.
طُلب مني الكلام عن المصطلح، وهو موضوع عام غير محدد، لهذا رأيت أن أقصر الحديث على بعض المسائل التي لي فيها وجهة نظر، في تاريخ المصطلح في التراث العلمي العربي، وكذلك في الفترة الحديثة، أعني بداية القرن التاسع عشر، أي في بداية ما سمّي بالنهضة.
بدأت حركة الترجمة من اللغات المختلفة إلى العربية مع حركة التعريب التي كانت قد حققت تقدماً كبيراً في العصر الأموي وواصلت تقدمها مع بداية العصر العباسي. وفي الجانب الخلفي لهذه الحركة، كان هناك حركة بحث علمي جديد تطلب ترجمة الكثير من المؤلفات العلمية، كما كان التعريب المتسارع استدعى إنشاء مكتبة جديدة تتناسب مع حجم الإمبراطورية الجديدة الممتدة من الهند إلى الأطلسي.
وهنا علينا أن نذكر:
- ارتباط النقل بالبحث الجديد
- أن ما نُقل من علوم الأوائل، وخاصة في الرياضيات والعلوم كان قد توقف تقدمه وتجديده منذ أكثر من قرنين في الإسكندرية وفي أنطاكية.
إلا أن البحث العلمي تطلب في نفس الوقت نقل علوم الأوائل وتجديدها وإنشاء فروع لم يعرفها الأوائل من قبل، فعلى سبيل المثال في الرياضيات أنشأ علم الجبر والمقابلة. أدى هذا كله إلى البحث عن وسائل جديدة للتعبير، ومن ثم إلى وضع المصطلحات في العلوم.
أما عن هذه الوسائل فنجد:
- تعريب المصطلحات والأسماء اليونانية والفارسية، ومن بينها أسماء العلوم مثل: استرونوميا، وجيومطرا، وهندسة، وكذلك أسماء الأمراض والعقاقير والنبات والحيوان الخ.
- التعارف على معاني جديدة لألفاظ عربية ولمشتقاتها، إما بالنقل أو بالتخصيص، مثل: جبر، مقابلة، شيء، مال، كعب، مال مال، مال كعب، حيّل، حيّل مناظرية، شعاع، قطب، آلات، …، الخ.
- ابتكار صيغ جديدة تركيبية واشتقاقية ليست عربية الأصل، ولبيان ذلك يكفي قراءة أحد النصوص المترجمة في الرياضيات وفي علم المناظر وفي الطب والسيمياء.
ولقد تأثرت اللغة العلمية العربية نفسها على هذا الوجه الذي اقتضته ضرورة مسايرتها لحاجات البحث العلمي والمعرفة العلمية، ولهذا ظهرت أبحاث جديدة في اللغة العربية، في النحو والصرف والبلاغة. ومن هذه الأبحاث، كتابة معاجم اللغة وتطبيق الرياضيات لتأليفها، مثل ما قام به الخليل بن أحمد حين طبق حساب التباديل والتوافيق لتأليف معجم كتاب "العين"، وتبعه في هذا الكثيرون مثل ابن دريد وغيره.
لم يكن تأليف المعاجم هو الميدان الوحيد الذي تطلب إنشاؤه حساب التباديل والتوافيق، بل هناك ميادين أخرى طبق فيها هذا المنهج مثل علم العروض، وعلم التعمية وتحليل الرموز، ولهذا نتفهم أن قام جمع المصطلحات في معاجم متخصصة في هذا العلم أو ذاك، مثل معاجم النبات والحيوان والعقاقير، وكذلك في فروع أخرى مثل المنطق والفلسفة.
فإذا تركنا ما تمّ في القرن التاسع الميلادي وما بعده في القرن العاشر، للتذكير بما تمّ من نقل العلم الأوروبي، أي علم ما بعد نيوتن وخلفائه في القرن الثامن عشر، أي العلم الذي نشأ وتطور في أوروبا الغربية والعلم الصناعي بعده، فسنرى عكس ما حدث في القرن التاسع وما بعده عند نقل علوم الأوائل. فالعلم الحديث علم حيّ متجدد غني بالمصطلحات المتجددة والمتشعبة، هذه واحدة، أما الأخرى، فهي أن النقل هذه المرة لم يكن لمواصلة البحث العلمي باللغة العربية، ولكن للتعليم. فالبحث العلمي لم يكن قد بدأ بعد، وإن كانت هناك بعض المحاولات، فكانت في الجانب التطبيقي في الهندسة وفي الطب خاصة.
فإذا تفحصنا المواد المُدرَّسة والكتب المترجمة يتبين أنه قد جرى اختيار مقصود للعلوم التطبيقية. وهكذا نجد بين الكتب المترجمة عدة كتب تعالج الهندسة الوصفية بينما لا نجد على سبيل المثال أي كتاب في نظرية الأعداد. وكثير من المؤلفات التي ترجمت ارتبطت مباشرة بالتطبيقات الصناعية والصحية والعسكرية.
وكذلك المدارس التي أُنشأت مثل مدرسة المهندسخانة وكلية الطب، في حين لم ينشأ معهد أو مجمع علمي خاص بالبحث في العلوم النظرية كالرياضيات والفيزياء… الخ.
كان هناك إذن وضع المصطلحات إبان هذه الفترة متروكاً للمترجم الذي كان ينقل اللفظ من الفرنسية أو الإيطالية، والإنجليزية فيما بعد، بلفظ عربي، أي أنه لم يكن هناك بحث جماعي للاختيار النقدي للمصطلح.
وكما لجأ المترجمون أيضاً إلى التعريب، أي إلى النطق العربي للفظ أجنبي. وقد أقرت بعض المجامع العربية هذا الطريق، وهذا الطريق لا يساعد على تفهم المصطلحات ولا تعليم العلوم. فعلى سبيل المثال، إن عرّبت كلمة مثل Isomorphisme، فلن يعي الطالب العربي مضمون المصطلح.
أما عن المصطلحات المؤلفة ومدلولاتها المركبة، قام بعض المترجمين بدلاً من تعريبها، بردها إلى بسائطها أو إلى أجزائها، بالبحث عن مفردات عربية أو معرّبة بقواعد تنتحي للنحت، سواء أكان النحت من كلمتين أو أكثر. ومنها أن يستعان باللفظ المركب. وفي كلتا الحالتين، يقتضي الأمر تبيان السبيل إلى الاشتقاق من اللفظ المنحوت أو المركب وإلى النسبة إليه وإلى صيغ جمعه.
في كل هذا استفاد القليل من واضعي مصطلحات العلوم بما استطاعه المتقدمون، إلا أنها استفادة فردية غير متنظمة ولا مدروسة. فمؤلفات المتقدمين لم تكن محققة التحقيق العلمي ولم تكن مدروسة. وهذه المؤلفات زاخرة بمصطلحات تدل على كثير من المعاني والمدلولات التي تناولتها العلوم الحديثة، وهي تتضمن أيضاً الكثير من مناهج الاشتقاق التي يمكن استعمالها في وضع المصطلحات في العلوم اليوم. فعلى سبيل المثال، أخذ القدماء بوزن "متفاعل" لوضع مصطلحات رياضية وعلمية، منها " متناسب" للتعبير عن الاشتراك في النسبة، و"متجانس" للاشتراك في الجنس، و"متسامت" للاشتراك في السمت، و "متوازن" للاشتراك في الوزن،…الخ. ولقد نبه بعض العلماء على أنه من الممكن اللجوء لهذا الوزن في الرياضيات مثل "متطابق"، وفي الفيزياء مثل "متكاتل" و "متماكن"،…الخ.
وهناك طرق متعددة للاستفادة من التراث العلمي لوضع المصطلحات، ويمكن أيضاً الاستفادة مما تُرجم في الرياضيات والعلوم والطب …الخ، في القرن التاسع عشر ونشرته مطبعة بولاق خاصة، والذي يُسرق ويُبدد اليوم.
وأنهي هذه الكلمة القصيرة باقتراحين:
- نشر معاجم تاريخية للغة العلمية في فروعها المختلفة في وضع المصطلحات، وتهيئة متخصصين للقيام بذلك، فهنا بعض الطرق في التفكير في وضع المصطلحات، مثل الاستعانة بالذخر المخبوء من التراث العلمي.
- إعادة نشر ترجمات العلوم في القرن التاسع عشر والعقود التي تلته.
وهذا من أجل فتح أبواب جديدة في وضع مصطلحات الرياضيات والعلوم.
** ورقة تم عرضها في "الملتقى العربي للمصطلحات العلمية: رؤى موحدة"، يوم 26مايو 2021
البريد الإلكرتوني: rashed@paris7.jussieu.fr
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل
أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة