مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

الصوم ومناعة الجسم ضد العدوى… قراءة في ضوء جائحة الكوفيد-19

الكاتب

الكاتبان: ا.د. محمد لبيب سالم - د. معز الإسلام عزت فارس

الوقت

03:32 مساءً

تاريخ النشر

23, أبريل 2020

شهر رمضان هو الشهر التاسع من التقويم الإسلامي. وقد حبا الله هذا الشهر الكريم بفضل عظيم على باقي شهور السنة، وذلك باختصاصه بنزول القرآن الكريم وفريضة الصوم وفضل العشر الأواخر وليلة القدر وتصفيد الشياطين والرحمة والسلام الذي يغمر المؤمنين. والصيام ليس من خصائص الإسلام فقط بل كان ولا زال جزءاً لا يتجزأ من شعائر كثير من الديانات السماوية كاليهودية والمسيحية، وقد سطر ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183).

وقد ثبت علمياً أن لفريضة الصوم فوائد عظيمة على الصائم. فالصوم ليس عقاباً للجسم، كما يخيّل للبعض، بل هو فراغ للنفس والجسم من كل ما ألمّ بها طوال شهور العام من الضغوط النفسية التي تؤذي النفس والبدن وخاصة الجهاز المناعي. فالحفاظ على الصحة العامة للإنسان يحتاج إلى جهاز مناعي قوي يستطيع من خلاله التصدي لأي عدو جرثومي دون إيذاء باقي أعضاء الجسم. فالحفاظ على جهاز مناعي قوي يتطلب نفساً آمنة مطمئنة وبدناً خالياً من المكونات السامّة التي تدخل الجسم من الغذاء والشراب والتدخين بأنواعه وغيرها..

ولا نبالغ في القول إن ما يمر به العالم في الوقت الراهن من العدوى المنتشرة بفيروس كورونا يمثل لحظة تاريخية مفصلية، وموقفًا في تاريخ البشرية المعاصر لم تواجه مثله من قبل والذي اصاب العالم بمشاعر القلق والخوف من استمرار هذه الجائحة. فقد جعل فيروس الكورونا، المعروف علميًّا بـ COVID-19، العالمَ أمام تحدٍّ كبير، وساقها إلى أن تهرول بشكل جماعي وفي سعي محموم نحو كبح جماح هذا الجرثوم والحد من آثاره المدمرة. فهو عدو لدود، لئن أخطأته العين فلم تراه، فإن شواهد وجوده وآثاره المدمرة على الحياة والاقتصاد والاجتماع لا يمكن لعين أن تخطئها.

ومع اقتراب شهر رمضان المبارك، بدأت تظهر بعض الفتاوى، بل الأدق الدعاوى إذ الفتوى الشرعية تنطلق من قواعد ثابتة، وحقائق راسخة، وأقلها غلبة الظن ورجحانه، وليس أضعف الظن والاحتمال. تلك الدعاوى التي تدعو إلى إباحة الفطر للعامة في شهر رمضان المقبل، بحجة تأثير الصيام المحتمل في تقليل المناعة، وزيادة خطر العدوى بهذا الفيروس الخطير، والتعظيم من خطر النازلة التي نعيش. 

وكون هذه الدعوى تمس جانبًا فقهيًّا وشرعيًّا تعبديًّا، فلا مجال للأخذ والتسليم بتلك الدعوى إلا بوجود دليل علمي قطعي يستوجب تعطيل تلك الشعيرة العظيمة، وتلك العبادة الجليلة التي يتلهف المسلمون شوقًا 

إليها كل عام. كما أن نقض تلك الدعوى يتطلب استحضار الدليل العلمي الذي ينفي ذلك الضرر المحتمل للصيام على مقاومة الجسم لتلك العدوى المحتملة.

وعليه فقد قامت مجموعة بحثية من علماء من جامعة الشارقة بدولة الامارات العربية المتحدة وجامعة طنطا بدولة مصر وجامعة الملك سعود بالمملكة العربية السعودية وجامعة الخليج العربية بدولة البحرين في اعداد مراجعة علمية سردية مبنية على دراسات سابقة قام بها أعضاء الفريق البحثي وغيرهم من الباحثين متعلقة بالصيام في شهر رمضان وعلاقته بالجهاز المناعي ووظائف الجسم الأخرى، ومناقشة تلك الدراسات في ضوء جائحة فيروس كورونا.

وقد تم قبول نشر هذا البحث في الدورية العلمية الدولية المتخصصة

وقد جاء البحث تحت عنوان:

وقد خلصت هذه الدراسة المرجعية إلى جملة من المخرجات نوجزها على النحو التالي:

بالنظر إلى مجموع الدراسات العلمية الرصينة، والمنشورة في الدوريات العلمية المحكمة، وذات العلاقة بالمناعة وأشكال الصيام بأنواعه، والتي يندرج صيام رمضان تحت أنواعها، نجد تلك الدراسات قد توزعت على جوانب عدة متصلة بالصيام والمناعة، نلخصها على النحو التالي:

الدراسات العلمية التي أجريت على صيام شهر رمضان على الأصحاء والمرضى البالغين: وقد كان من أهمّها تلك الدراسة التي قمنا به في العام 2009، وتم نشرها في دورية أبحاث التغذية في العام 2012، حيث تم اختبار أثر الصيام المتقطع في شهر رمضان على خمسين من الذكور والإناث الأصحاء البالغين. وقد أظهرت نتائج الدراسة غياب أي تغير سلبي للصيام في شهر رمضان بأي من المتغيرات المناعية لدى أفراد الدراسة (1). وقد تعززت نتائج تلك الدراسة بدراسة أخرى على 120 من المتطوعين الأصحاء باستخدام عدد من المؤشرات الوظيفية للجهاز المناعي، حيث خلصت تلك الدراسة إلى نتيجة مفادها غياب أي أثر سلبي أو ضار للصيام في شهر رمضان على كفاءة الجهاز المناعي ووظائفه لدى البالغين الأصحاء (2). وفي دراسة ثالثة مشابهة على 21 من الأصحاء، أظهرت النتائج غياب أي أثر سلبي للصيام في شهر رمضان على العدِلات أو كريات الدم البيضاء من نوع Neutrophils   والمسؤولة عن حماية الجسم من العدوى وخاصة البكتيرية منها (3).

ونتيجة لتراكم الدراسات العلمية حول أثر الصيام في شهر رمضان على مناعة الجسم، فقد تم مراجعة 45 دراسة علمية محكّمة. وقد أظهرت تلك المراجعة العلمية لمجموع الدراسات المنشورة غياب أي أثر سلبي للصيام على المؤشرات المناعية لدى الأفراد الأصحاء، وأنه لا يرتبط بزيادة خطر الإصابة بالعدوى أو الاضطرابات المناعية. كما أظهرت الدراسة أن التغيرات المناعية المرافقة للصيام في شهر رمضان هي تغيرات طفيفة مؤقتة، وطارئة تزول بانتهاء شهر الصيام.

كما أوردت المراجعة العلمية غياب أي أثر سلبي للصيام في شهر رمضان على المؤشرات المناعية لدى مرضى الأزمة الصدرية التنفسية (4) فإذا كان الحال هذا مع المرضى، فكيف سيكون مع الأصحاء الذين لا يعانون من مشاكل تنفسية أو مناعية؟.

وفي مراجعة علمية آخرى على أنواع الصيام المختلفة -عدا صيام رمضان-، أظهرت نتائج الدراسات التي تم مراجعتها، وتحليل نتائجها قدرة الصيام المتقطع وغيره من أشكال خفض الطاقة الغذائية المعتادة على تحسين الاستجابة المناعية والحماية من خطر الإصابة بالأمراض ذاتية المناعة  Autoimmune diseases، ومنع حالة الشيخوخة وحالة الهَرَم المناعيImmunosenescence . كما أظهرت الدراسة قدرة الصيام على قتل الخلايا الهرمة والتالفة والتخلص منها وإنتاج خلايا جديدة فاعلة (5).

ولعل من أهم الدراسات ذات العلاقة بالصيام والمناعة هي تلك التي أجريت على تأثير الصيام في شهر رمضان على آليات منع التأكسد ومقاومة الالتهاب. فمن المقرر علميًّا أن زيادة تلك العوامل هو مما يضعف المناعة ويزيد معها خطر الإصابة بالعدوى الجرثومية. وقد قام فريقنا البحثي بجمع بيانات 12 من الدراسات العلمية وتحليلها (شملت 311 من الصائمين البالغين) التي عالجت أثر صيام رمضان على عوامل التأكسد والالتهاب. وأظهرت نتائج التحليل وجود انخفاض ملموس في عددٍ من مؤشرات التأكسد والالتهاب في نهاية شهر رمضان، وهو ما يعزز دور الصيام في تفعيل المناعة وزيادة كفاءتها في مقاومة العدوى، ويدحض الزعم باحتمال تسبب الصيام بزيادة فرص العدوى (6). وفي بحثنا الأخير حول أثر الصيام في شهر رمضان على التعبير الجيني لعدد من المورثات الناظمة لعمليات منع التأكسد والالتهاب في قرابة ستين بالغًا من الأصحاء، أظهرت نتائج الدراسة قدرة صيام رمضان على زيادة التعبير الجيني لتلك الجينات وهي TFAM, SOD2, and Nrf2 بمستويات عالية بلغت 90.5%, 54.1% 411.5%، على التوالي، مقارنة بمستوياتها قبل شهر رمضان. وهذه نتائج بالغة الأهمية في إثبات قدرة الصيام على الوقاية من حالة الكرب التأكسدي والالتهاب المسؤولة عن إضعاف الجهاز المناعي والتقليل من كفاءته في مقاومة العدوى (7).

وفي دراسة لاختبار أثر الصيام في شهر رمضان على قدرة الجسم على مقاومة العدوى البكتيرية المُمْرِضة والمسبِّبة لداء السل الرئوي Tuberculosisالذي تسببه البكتيريا من نوع Mycobacterium tuberculosis على عينات دم لثلاثين متطوعًا من الصائمين. أظهرت الدراسة قدرة الصيام في شهر رمضان على تقليل فرص العدوى بهذا الجرثوم المُمْرِض وزيادة مقاومة الجسم له من خلال زيادة عدد الخلايا البلعمية  Macrophagesكما أثبتت الدراسة قدرة الصيام على زيادة إفراز مركب الإنترفيرون-جاما Interferon (INF)-γ القادر على تحفيز آليات المناعة المقاومة للعدوى الجرثومية بنوعيها البكتيرية والفيروسية (8).

 وفي دراسة أخرى شبيهة على نموذج الحيوانات التجريبية، أظهرت نتائج الدراسة قدرة الصيام المتقطع على زيادة كفاءة الجهاز المناعي في مقاومة البكتيريا المُمْرِضة من نوعSalmonella typhimurium  المسبِّبة لحمى التيفوئيد المشهورة (9). ولم تقتصر دراسات الصيام والمناعة على الأصحاء، بل تعدتها إلى دراسة أثر الصيام في شهر رمضان على المرضى المسلمين الذين يعانون من متلازمة نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) المصابين بفيروس نقص المناعة Human Immunodeficiency Virus (HIV).  وقد أظهرت نتائج الدراسة على هؤلاء المرضى من المسلمين غياب أي تأثير سلبي على مناعتهم (10). فإذا كان الحال بمن أصيب بمرض عضال في الجهاز المناعي، فكيف سيكون الحال مع الأصحاء؟

ونظرًا لأهمية الصيام بأشكاله المختلفة من مختلف الجوانب الصحية، فقد انصرف عدد كبير من الباحثين الغربيين إلى دراسة أنماط الصيام المختلفة وأثرها على المناعة. ففي تلك الدراسات العلمية التي أجريت على الإن