تردد هذا المصطلح كثيرا تزامنا مع ظهور وباء كورونا وذلك لاعتقاد الكثير من الخبراء والساسة أن له تأثيرا كبيرا في انحسار الوباء. وبالرغم من اختلاف وجهات النظر، تبقى مجموعة كبيرة من الناس في حيرة من أمرها، والهدف من هذا المقال توضيح الحقائق العلمية المرتبطة بهذا الموضوع.
الأساس العلمي للمصطلح
مناعة القطيع (Herd immunity) أو المناعة المجتمعية (Community immunity) كانت مختصة في البداية بالمناعة التي يكتسبها قطيع من الحيوانات مثل الفئران ضد مرض معدي، وغالبا كانت تتحقق بتطعيم تلك الحيوانات ضد ذلك المرض. ثم استخدم هذا المصطلح للإشارة إلى اكتساب مجموعة من الناس المناعة ضد وباء معين، وليس بالضرورة أن يكون كل الناس قد أخذوا التطعيم بل تكفي نسبة معينة منهم تتراوح بين 60% إلى 95% حسب ضراوة الميكروب المسبب للوباء، فمرض مثل الحصبة يجب أن تصل مناعة القطيع إلى 95% نظرا لشدة المرض بينما تصل إلى 60% في مرض مثل الأنفلونزا.
وسائل الوصول لمناعة القطيع
المناعة الطبيعية
هناك ميكروبات تصيب الحيوانات فقط وتكون لدى البشر مناعة طبيعية ضدها مثل الفيروس المسبب للحمى القلاعية عند الماشية. وفي المقابل توجد ميكروبات تصيب الإنسان فقط ولا تصيب الحيوانات مثل فيروس الحصبة فتكون لدى الحيوانات مناعة طبيعية ضدها.
- التعرض المسبق لميكروب معين ولو بجرعات قليلة -مثلا أثناء وباء معين- بحيث أصبحت لدى فئة كثيرة من الناس مناعة كونتها أجهزة المناعة لديهم، وغالبا تكون هذه المناعة متمثلة في الأجسام المضادة التي تفرزها الخلايا المناعية بعد تعرض الجسم لغزو الميكروب.
- اللقاحات (Vaccines)
ويتم من خلالها تعريض الجسم –عن طريق الحقن أو غيره- لميكروب معين سواء فيروس أو بكتيريا بعد معاملته معاملة خاصه بحيث يمتلك القدرة على تنبيه جهاز المناعة ولا يسبب المرض. والمثال الواضح على ذلك برامج تطعيم الأطفال منذ الولادة وعلى فترات محددة بمجموعة من اللقاحات مثل لقاح الفيروس المسبب لشلل الأطفال وفيروس الحصبة والفيروس المسبب لالتهاب الكبد الوبائي من نوع ب وغيرها. وقد نجحت منظمة الصحة العالمية في تحقيق مناعة القطيع ضد مرض الجدري، حيث أعلنت خلو العالم منه في سنة 1977 وذلك بعد حملات مكثفة للتطعيم على مستوى العالم.
وتوجد عوامل تؤثر على حدوث المناعة مثل قابلية الشخص للإصابة بالمرض وسلامة جهاز المناعة والتوزيع السكاني والعادات الاجتماعية للأعراق المختلفة. ومن أهم الشروط التي يجب توفرها في اللقاحات فعاليتها وزيادة معامل السلامة والتكلفة المعقولة.
آلية عمل جهاز المناعة
عندما يصل أي ميكروب للجسم سواء أكان فيروسا أم بكتيريا يقوم نوع من خلايا الدم البيضاء الملتهمة تعرف بالماكروفاج بالتهام ذلك الميكروب ومعاملته بطريقة خاصة وعلى عدة مراحل تنتهي برحيل الجزيئات الهامة من الميكروب والتي لها علاقة مباشرة بالتسبب في الإصابة بالمرض إلى سطح تلك الخلايا ومن ثم تستقبلها خلايا بيضاء أخرى تسمى الخلايا اللمفاوية وتنشط لترسل اشارات بيوكيميائية تسمى السيتوكيتونات إلى خلايا ليمفاوية أخرى وظيفتها تكوين الأجسام المضادة الخاصة بذلك الميكروب ثم تتحول لخلايا مفرزة لتلك الأجسام المضادة، وبعد كل استجابة مناعية تتكون مجموعة من الخلايا تسمى بخلايا الذاكرة بحيث تحتفظ بمعلومات عن هذا الميكروب بحيث لو تعرض له الجسم مرة أخرى تنشط هذه الخلايا وتحفز الخلايا الأخرى لتقوم بدورها في المقاومة.
وهناك نوع آخر من الاستجابة المناعية يسمى بالمناعة الخلوية بحيث تقوم خلايا مناعية خاصة بمهاجمة الخلايا الغريبة في الجسم سواء كانت خلايا أورام أو خلايا بها ميكروبات وتقوم بتدميرها. ولا يوجد حد فاصل بين نوعي الاستجابة المناعية، حيث من الممكن أن يعمل الاثنان معا بهدف وقاية الجسم وتخليصه من الأضرار التي ربما تلحق به.
الاستجابة المناعية لفيروس كورونا المستجد (SARS_COV_2)
ما زالت الدراسات والأبحاث على قدم وساق للتعرف على طبيعة الفيروس والاستجابة المناعية ضده، وقد ظهرت دراسات أثبتت أن جهاز المناعة ينشط ضد الفيروس خاصة لدى الأشخاص الذين لديهم مناعة قويه -وقد أثبتت الدراسات السابقة أن الفيروسين اللذين سبقا هذا الفيروس في الظهور وهما SARS and MERS قد استجاب جهاز المناعة لهما لدى كثير من المصابين، ولكن الدراسات الخاصة بالفيروس المستجد ما زالت في بداياتها وتحتاج لتعزيزها بعدد أكبر من المصابين والذين تعافوا.
يتوقع بعض العلماء أن الاشخاص الذين أصيبوا بالفيروس المستحدث ستكون لديهم مناعة تقيهم من الإصابة به مرة أخرى، ولكن السؤال المحير كم ستبقى هذه المناعة؟ مع العلم أن الفروقات الفردية بين المصابين تمثل أحد العوامل الهامة. ويقول بعض العلماء أن ظهور استجابة مناعية يعطي أملا لنجاح اللقاح الجاري تطويره والذي ربما يستغرق انتاجه من سنة إلى سنة ونصف بسبب الوقت الذي يتم فيه تنمية الفيروس وتنقيته والاختبارات المتعددة التي ستجرى للتأكد من فعاليته وسلامته.
وهناك العديد من المشاكل التي يجب أخذها في الحسبان، ومن أهمها نشوء سلالات جديدة من الفيروس حيث ثبت علميا أن نفس الفيروس الذي يسبب مرض COVID-19 في الولايات المتحدة يختلف بنسب متفاوتة في تركيبه الجيني عن الفيروس الذي ظهر في الصين مما يؤكد قدرة الفيروس على تكوين طفرات جديدة.
وهناك حاجة ماسة لدراسات معمقة لضراوة الفيروس حيث أن كثيرا من المصابين لا تظهر عليهم أعراض مرضية بينما تظهر على آخرين أعراض شديدة. وعلى النقيض من ذلك أثبتت دراسات أخرى أن معدل تكون الطفرات الجديدة قليل نسبيا مما يعطي فرصة أكبر لنجاح اللقاح المستهدف.
الوصول لمناعة القطيع
لا شك أن الكثير من العلماء وربما الساسة يتوقون للوصل إلى هذا الهدف. فهل يمكن لمجموعات كبيرة في مجتمع معين أن يطوروا المناعة الخاصة بمجتمعهم؟ البعض يسترشد بتجربة السويد والتي تبنت فكرة المسئولية الذاتية بحيث تقدم الحكومة الارشادات للوقاية من المرض أكثر من تطبيق القواعد الصارمة والتي تبنتها غالبية الدول التي غزاها الفيروس. ولعل التوزيع السكاني في السويد -والذي يبلغ عدد سكانه حوالي عشرة ملايين نسمه- له تأثير إيجابي بحيث أن أكثر من نصف الأسر في السويد تتكون من فرد واحد فقط مما يقلل من خطر الإصابة بالفيروس. ولعل الإحصائيات الأخيرة أظهرت تدني معدل الإصابة في السويد بالمقارنة مع الدول الأوروبية الأخرى. ولكن السلطات السويدية برغم حثها للمواطنين بممارسة البعد الاجتماعي والعمل من المنزل ما أمكن ذلك، إلا إنها أقرت العزل الذاتي لمن تزيد أعمارهم عن السبعين عاما بهدف حمايتهم، كما أغلقت المدارس الثانوية والجامعات ولكنها أبقت الحضانات والمدارس الابتدائية مفتوحة لتتيح العمل للأمهات وأولياء الأمور. ولا شك أن السويد تحاول تقليل الآثار الاقتصادية السلبية الناتجة عن تفشي وباء كورونا وربما يتحقق الهدف الآخر وهو الوصول لتحقيق مناعة القطيع والأيام القادمة كفيلة بإظهار الحقيقة.
وبعد فما زلنا نجهل الكثير عن هذا الفيروس والمرض الذي يسببه. فهل نضحي بالآلاف من البشر لنصل إلى تحقيق مناعة القطيع لنحمي ما يتبقى من مجتمعاتنا من هذا الوباء؟ وهل نضمن تحقيق هذا الهدف إذا ما قمنا بذلك؟ وأين يكمن البعد الأخلاقي في هذا الأمر؟
إذن علينا أن ننتظر لتحقق الوسيلة الآمنة، ألا وهي الوصول للقاح الآمن وعندها سيتحقق الأمل المنشود بإذن الله.
البريد الالكتروني للكاتب: mohshubair@gmail.com