لكوكب عطارد مكانة خاصة في عالم الأساطير وفي دنيا العلم على حدٍ سواء، حيث أنه في الميثولوجيا الرومانية تجسيد لإله العلم والحكمة، بينما هو عند علماء القرن العشرين تجسيد للدليل الملموس لتفوق اينشتاين على نيوتن. ولهذا ينتظر هواة الفلك في جميع أنحاء العالم بشوق ساعة الأصيل من يوم الإثنين الموافق للحادي عشر من شهر نوفمبر الجاري 2019 وذلك لرصد (عبور) كوكب عطارد أمام قرص الشمس.
وقد أعلن المرصد الفلكي بكلية العلوم بجامعة الملك سعود عن قيامه باستقبال الزوار لمشاهدة هذه الظاهرة الفلكية (Transit of Mercury) الجميلة والساحرة لحركة كوكب عطارد التي حيرت علماء الفلك قديماً وعلماء الفيزياء حديثاً.
قبل أربعة قرون من الزمن توصل عالم الفلك الألماني يوهان كبلر لاكتشاف قوانينه الخاصة بحركة الكواكب، وما يهمنا هنا هو القانون الثاني منها والذي ينص على أن الكوكب يدور بسرعة أكبر كلما اقترب من الشمس. ولكن، يبدو أن أسلافنا القدماء من أهل الجزيرة العربية قد لاحظوا أن كوكب عطارد هو بالفعل أسرع الأجرام الملحوظة في السماء ومن هنا قد ينكشف لنا سبب التسمية الغريبة لكوكب (عطارد) والتي قد تكون مشتقة من الفعل (عَطْرَدَ) بمعنى أسرع وتابع في سيره. وعلى نفس النسق ربط الإغريق بين عطارد وسرعة الحركة ولهذا جعلوه إله السفر ومرسال الآلهة، وأشهر ما كان يميزه هو أن لديه حذاء مجنح يمكنه من الطيران والانتقال الرشيق بسرعة خاطفة. منذ زمن الرومان تم الربط بين كوكب عطارد ومعدن الزئبق حيث أن كلا منهما يحمل نفس الاسم Mercury فالزئبق معدن عالي السيولة والكوكب المسمى عطارد جرم سماوي متدفق الحركة.
إن سرعة دوران كوكب عطارد حول الشمس كل ثلاثة أشهر أربكت علماء الفلك في أرض اليونان فظنوا أنه عبارة عن كوكبين منفصلين يظهر أحدهما بعد الغروب في فترة الغسق (كوكب هيرمس) ويظهر الآخر في الشفق قبل الفجر (كوكب أبولو). بعد ذلك بعقود طويلة رصد عالم الفلك المسلم ابن باجه بقعتين مظلمتين على سطح الشمس فسرهما لاحقاً قطب الدين الشيرازي بأنهما عبور عطارد والزهرة أمام الشمس. ومن هنا بدأ علماء الفلك العرب في هز عرش أساسيات كتاب المجسطي لعالم الفلك الشهير بطليموس الذي استبعد إمكانية رصد عبور كوكب عطارد أمام الشمس. مسمار آخر في نعش معلومات كتاب المجسطي غرزه عالم الفلك الأندلسي الزرقالي عندما اقترح أن مدار كوكب عطارد إهليجي يشبه البيضة في حين أن نظام بطليموس الفلكي يصوره دائما على شكل دائرة تامة. ثم جاء دور عالم الفلك الدمشقي ابن الشاطر والذي يعترف اليوم مؤرخو العلوم في أوروبا بأن حساباته ورسوماته وتحديده لمسارات كوكب عطارد هي التي استفاد منها عالم الفلك البولندي نيكولاس كوبرنيكوس ليضع نموذجه الفلكي المشهور لمركزية الشمس ومن ثمّ يطلق فجر الثورة العلمية الأوروبية.
لاحقاً، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر لاحظ العلماء أن مدار كوكب عطارد لا يتفق تماماً مع قوانين المعادلات الفيزيائية لأسطورة العلم اسحاق نيوتن وهذا ما أفرز ظاهرة فلكية جديدة سميت التعجل Precession حيث تزيد في مرحلة ما سرعة حركة عطارد المرصودة عما هو متوقع رياضياً. إن رصد (العبور العَجِل) لكوكب عطارد أمام قرص الشمس هذه الأيام مناسبة تاريخية وفلكية مميزة لأنها تقريباً تتزامن مع مرور حوالي قرن من الزمن على تفاخر اينشتاين بأنه تفوق على نيوتن. ما حصل يا سادة أن عملاق الفيزياء اينشتاين توصل عام 1915 لطرح نظريته النسبية العامة والتي هي في جانب منها تنقيح لقوانين الجاذبية لنيوتن، وهنا تباهى أينشتاين بأن نظريته النسبية وعلى خلاف نظرية نيوتن تستطيع بدقة علمية كبيرة تفسير ظاهرة (التعجل) الشاذ لسرعة حركة عطارد ويقال بأن اينشتاين ظلّ منتشياً من السعادة لأيام متواصلة وكتب إلى أحد أصدقائه يخبره (لقد تحققت أبعد أحلامي منالاً).
بقي أن نقول في الختام، أن ظاهرة المرور العابر لكوكبي عطارد والزهرة أمام قرص الشمس ليس فقط ظاهرة فلكية نادرة الحدوث ولكن أيضاً قد ينتج عن عملية رصدها اكتشاف أحد أغرب المعلومات العلمية. في الوقت الذي يعتبر القبطان الإنجليزي جيمس كوك أحد أهم الرحالة والمكتشفين الجغرافيين على مر العصور إلا أن أحد أغرب (اكتشافاته الجغرافية) تم في السماء وليس على الأرض !!. في واقع الأمر، الرحلات البحرية الجغرافية التي قام بها جيمس كوك هي في الأصل بعثات علمية لرصد بعض الظواهر الفلكية، ففي عام 1769م رصد الفريق العلمي المصاحب لحملة كوك ظاهرة عبور كوكب عطارد أمام الشمس وحتى اليوم تسمى المنطقة التي تم الرصد منها في نيوزلندا بجزيرة عطارد وخليج عطارد. الأهم من ذلك، قيام جيمس كوك وفريقه العلمي في نفس تلك السنة برصد عبور كوكب الزهرة Transit of Venus ولكن هذه المرة من جزيرة هايتي في البحر الكاريبي. لقد مكن رصد عبور كوكب الزهرة من قِبل كوك وبعثات علمية أخرى متعددة في كندا وروسيا والمكسيك والنرويج من حساب المسافة بين الأرض والشمس وأنها تبلغ 150 مليون كيلومتر. ولقد تم ذلك من خلال استخدام هذه البينات الفلكية المتنوعة من مواقع جغرافية متباعدة على سطح الأرض وتوظيفها في دراسة ظاهرة تخاطل أو تزيح الشمس Solar Parallax التي تعتمد على التغير الظاهري لموقع الشمس واختلاف المنظر المرئي باختلاف مكان الرؤية.
صحيح أن مرور عطارد على قرص الشمس سريع وعابر ولكن اللحظات المميزة في تاريخ العلم لا تدوم طويلاً، فينبغي اهتبال الفرصة وعيش الحدث.
تنبيه لهواة العلم والتاريخ: لن تحصل هذه الظاهرة الفلكية النادرة التي ترتبط بعمالقة العلماء مثل بطليموس وابن الشاطر وكوبرنيكوس وإدموند هالي (رصد مرور عطارد عام 1677م) ونيوتن واينشتاين إلا بعد ردهة من الزمن فالمرور التالي لعطارد أمام الشمس لن يرصد إلا عام 2032 ميلادي.
البريد الإلكتروني للكاتب: ahalgamdy@gmail.com