خلق الله الإنسان في أحسن تقويم وهيئة فالجسم البشري مركب من مجموعة من الأجهزة التي تعمل مع بعضها البعض في تنسيق مذهل تحت كل الظروف. والجسد هو وعاء الروح التي تلهم هذا الجسد الحياة والنفس هي كل جسد ينبض بالحياة وتتأثر النفس بالظروف البيئية المحيطة شاملة التعامل مع الناس في العمل وفي البيت وفي الشارع وكذلك من التعرض للبيئة المحيطة من هواء وماء وغذاء.
ولأن الله خلق النفوس مختلفة فإن كل منا يستجيب للظروف المحيطة بدرجات متفاوتة. فإذا ألم بنا إضطراب وقلق نفسي أو مرض ما فمنا من سوف يستشير أصدقائه أو يسأل أصحاب العلم من رجال الدين والأطباء باحثا عن السلام النفسي والبدني. وما الإضطرابات النفسية والبدنية هذه التي تصيبنا إلا تراكمات في إضطراب النفس والبدن طوال شهور السنة أثناء العمل أو الدراسة وإذا لم يتم أخذ هدنة من هذه الإضطرابات فإن التراكمات هذه تزيد عام بعد عام مؤدية إلي زيادة الإضطراب وتحولها أحيانا إلي أمراض نفسية أو جسدية تؤثر سلباً على أعضاء الجسم ووظائفه.
فالإضطرابات النفسية مثل التوتر العصبي والقلق والاكتئاب والأرق كثيراً ما تتحول إلي أمراض جسدية مثل ارتفاع في ضغط الدم أو مرض في شرايين القلب والأوعية الدموية ، وربما تنعكس تلك الاضطرابات النفسية على المعدة، التي قد تصاب بالتقرح أو بالقولون العصبي، أو على غيرها من أعضاء الجسم.
شهر رمضان هو الشهر التاسع من التقويم الإسلامي وقد حبا الله هذا الشهر الكريم بفضل عظيم على باقي شهور السنة وذلك بإختصاصه بنزول القرآن وفريضة الصوم وفضل العشر الأواخر وليلة القدر وتصفيد الشياطين والرحمة والسلام الذي يغمر المسلمين. ولذلك يحتفل المسلمون ايما احتفال بعد الاستفادة من كل هذه الفضائل. فالصيام ليس من خصائص الإسلام فقط بل كان جزءا لا يتجزأ من كثير من الديانات الرئيسية بما في ذلك اليهودية والمسيحية. وهنا تتجلى معجزة قرآننا العظيم عندما يخبرنا عن وجود هذه الظاهرة عند الأمم قبل الإسلام، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].
والله تعالى لا يكتب شيئاً على عباده إلا إذا كان فيه مصلحة ومنفعة لهم. وقد ثبت علميا أن فريضة الصوم لها فؤائد عظيمة للصائم. والصوم ليس عقابا بل شعار للنفس والجسد من كل ما ألم بها طوال باقي شهور العام من وساوس شيطانية تؤذي النفس والبدن وخاصة الجهاز المناعي. فالحفاظ على الصحة العامة للإنسان يحتاج إلي جهاز مناعي قوي يستطيع التصدي لأي عدوى ميكروبية دون ايذاء باقي أعضاء الجسد فالحفاظ على جهاز مناعي قوي يتطلب نفس آمنة كلها سلام وطمائنينة وبدن خالي من المكونات الغذائية المؤذية وأهمها السموم الدهون التي تترسب طوال شهور السنة والصوم يؤدي إلي سلام نفسي وسلام بدني يؤدي إلي حسن العلاقة مع الله والناس والبدن.
ولأن الله عز وجل أعلم بخلقه فقد خصص هذا الشهر كهدنة من وساوس النفس وشهوات البدن وكعيادة نفسية وجسدية مهداه دون رسوم بل يأخذ منها العطاء الكبير. وفي هذه العيادة الربانية يتم تنظيم التغذية ودورات النوم والتفكير الصافي الخالي من مشاكل الدنيا والتصافي والتسامح بين النفس ذاتها وبين الناس والشهوات الغذائية والجنسية وتدريب النفس على الإخلاص وحب الأخر والتواضع والأحساس بالأخر أثناء الشدة والتدريب على الخروج من الفردية إلي المجتمعية والتدريب على الصبر وجمح الشهوات والتدريب على جمح الغضب والتدريب النفسي على شكر القليل قبل الكثير. وبالتالي فإن من يصوم ويستمتع بالصيام لمدة شهر سوف تتحسسن حالته النفسية جدا وذلك بغسل هموم عام كامل قد مضي وللأستعداد لعام قادم بقلب وروح جديدة.
ولأن الحالة النفسية تنعكس على الصحة البدنية بطريقة مباشرة فإن نجاح عملية الصوم تؤدي إيضاً إلى إستقرار نفسي وراحة بدنية كبيرة خاصة خلايا المخ والغدد الصماء والجهاز المناعي لأن هناك علاقة شديدة بينهما بحيث لو حدث خلل في المخ أو الغدد الصماء أدي ذلك إلي ضعف شديد في الجهاز المناعي مما يساعد على سهولة الأصابة بالميكروبات وكذلك نشوء الأورام مع الوقت. وأشارات الدراسات التي نشرت في المؤتمر الدولي الأول حول "الصحة ورمضان" ، الذي عقد في الدار البيضاء في عام 1994 الذي ضم عدد من الباحثين المسلمين وغير المسلمين إلي أن للصيام بعض التأثيرات المفيدة مثل انخفاض السكر في الدم ، وخفض الكولسترول وخفض ضغط الدم الانقباضي والبدانة. وقد دلت الأبحاث الحديثة على استفادة الخلايا المناعية للصيام.
إن فوائد الصوم لصحة الإنسان وسلامة بدنه كثيرة جداً، وسوف نعدد بعضاً من فوائد الصيام والتي ظهرت حديثاً فمنها ما يتعلق بالحالة النفسية للصائم وانعكاسها على صحته من خلال تحسين الحالة النفسية وإزالة القلق والإكتئاب ، بالإضافة إلي أن الصوم له تأثير غير مباشر على تحسين وظائف الجسم المختلفة كونه يساهم في علاج الكثير من أمراض الجسم، كأمراض جهاز الهضم، مثل التهاب المعدة الحاد، وأمراض الكبد، وسوء الهضم، وكذلك في علاج البدانة وتصلب الشرايين وارتفاع ضغط الدم وذلك من خلال إحداث عمليات شديدة التنظيم من دورها مساعدة الجسم ومنها:
إن الصوم يؤدي إلي تقليل إفراز مادة IL-6 و CRP ومادة الهموسستين Homocystin وتلعب هذه المواد دورا كبيرا في إحداث الالتهاب بقدرتها على التعامل مع بروتينات الجسم المختلفة خاصة في وجود مخزون من الدهون مؤدية إلي تكسير البروتينات وإحداث عطب للأعضاء المختلفة والتهابات كما يحدث في الاوعية الدموية. ولأن هذه المواد تلعب دورا كبيرا في زيادة الالتهابات فإن تأثير الصوم على هذه المواد يفسر تقليل الالتهاب وخاصة أمراض الأوعية الدموية والقلب أثناء الصوم.
وصوم رمضان يسفر عن تخفيضات كبيرة في مستوى انترلوكين 6 (ايل – 6) استمر لمدة 20 يوما على الأقل إلى ما بعد فترة الصيام. وهناك الآن كمية كبيرة من البيانات التي تبين أن ارتفاع مستويات هذا البروتين كعامل خطر قوي لمرض القلب والأوعية الدموية. و(ايل–6) هو عبارة عن مادة التهابية proinflammatory تفرزها الأنسجة الضامة وغيرها من الخلايا الالتهابية التي تصل الى الدورة الدموية والكبد في نهاية المطاف. وأظهر عدد من الدراسات أن نحو 30 في المئة من (ايل – 6) يأتي من الأنسجة الدهنية ، خاصة في البطن أو الأنسجة الدهنية الحشوية (أو أكثر بشكل صحيح، من الضامة وخلايا أخرى من جهاز المناعة الفطرية التي تهاجم هذه الخلايا الدهنية). وارتفاع مستويات هذا البروتين تحفز التهاب الكبد.. ماذا يعني هذا؟
وباختصار فإن ذلك يعني أن انخفاض كبير في الالتهاب وذلك لأن (ايل – 6) يرتفع خلال الالتهاب وتستخدم كعلامة للالتهاب. فالصوم له أيضا تأثير على مستوى مادة الهموسستين Homocystin فقد أوضحت الأبحاث العلمية زيادة في مادتي Folate و B12 والتي لهما تأثير معاكس تماماً على الالتهاب وتحسين وظائف الجهاز المناعي. فعند وجود مستويات منخفضة من مادتي Folate و B12 يتحول الحمض الأميني ميثونين إلي سستين Cystin بعد تكوين مادة الهموسستين Homocystin أما في حالة وجود مستويات عالية من مادتي Folate/B12 كما يحدث في الصيام فإن تكوين السستين لا يصاحب بتكوين الهموسستين Homocystin. وبالتالي فإن تأثير الصوم ليس بتأثير عرضي بل هو تأثير متخصص جدا بإرادة الله سبحانه وتعالى بفضل هذا الشهر الكريم .فإذا كنت تريد جهازاً مناعيا قويا والتخلص من الالتهابات فما عليك إلا الصوم بروحانية وطمائنينة نفسية.
- التحلل الذاتي للشحوم (Autolysis)
أثناء الصيام يقوم الجسم بطريقة تلقائية في تكسير الدهون المتراكمة في الكبد وتحويلها إلي أحماض دهنية يتم تحررها في الدم لتصل مرة أخري للكبد حيث يتم إستخدامها في تكوين طاقة للجسم وذلك بتحويلها إلي جلوكوز وكلما تؤدي هذه العملية إلي تفريغ الكبد من السموم وغسله من منتجات هذه الشحوم التي وجودها يؤدي إلي تقليل وظائف الكبد. واستمرار عملية تفريغ الكبد هذه وغسله طوال شهر كامل وبطريقة منتظمة (12 ساعة غسيل – 12 ساعة راحة) يؤدي إلي تحسن شديد في وظائف الكبد والذي بدوره يؤدي إلي تحسين وظائف الجسم الأخري وخاصة الجهاز المناعي والذي يسعد كثيرا بإختفاء الشحوم وذلك لأن قدرته على قتل الميكروبات والأورام تزداد بزيادة مستويات البروتين وليس الشحوم وهذا ما يحدث أثناء عملية الغسيل الكبدي هذه. ونود أن ننوه أن عملية تكسير الدهون هذه تتم أيضا في الخلايا الورمية في حالة وجودها في الجسم ولأن الخلايا الورمية تنمو أسرع كثيرا من الخلايا العادية أكثر من عشرة أضعاف فإن الورم ينكمش أثناء الصيام وذلك لعدم توافر كميات من المكونات الغذائية له.
- إطالة الشباب وتأخر الشيخوخة
إن الصيام يفيد في الشعور بتجديد وتمديد متوسط العمر المتوقع. فالتنظيف المستمر للخلايا باستخدام الصيام يؤدي إلى إطالة عمر هذه الخلايا وبالتالي تأخر الشيخوخة لدى من ينتظم في الصيام. حيث إن حاجة الجسم من البروتين تخف خلال الصيام إلى الخمس وهذا ما يعطي قدراً من الراحة للخلايا، حتى إن الصيام هو وسيلة لتجديد خلايا الجسم بشكل آمن وصحيح بالإضافة إلى أن هرمون النمو البشري يتم تحريره بشكل متكرر أكثر أثناء الصيام، وهو هرمون لمكافحة الشيخوخة وينتج أيضا بصورة أكثر كفاءة. وقد أظهرت بعض الدراسات أن ممارسة الصيام على الحيوانات يضاعف من فترة بقائها أو حياتها و"ان الوسيلة الوحيدة التي يعول عليها لتمديد عمر حيوان ثديي هو نقص التغذية دون سوء التغذية" فهناك دراسة أجريت على ديدان الأرض التي برهنت على تمديد فترة حياتها بسبب الصيام. وأجريت التجربة في عام 1930 م من خلال عزل دودة واحدة ووضعها في دائرة من الصيام والإطعام. تغلبت الدودة المعزولة أقارب لها بنسبة 19 جيل ، مع الحفاظ على المعالم الفسيولوجية للشباب. وكانت الدودة قادرة على البقاء على قيد الحياة على الأنسجة الخاصة بها لمدة شهور. "وقال علماء التغذية إن تمديد فترة الحياة لهذه الديدان ما يعادل حفظ رجل على قيد الحياة ل600-700 سنة".
إن الصوم وسيلة فعالة للشفاء من الأمراض خصوصاً المصحوبة بقيء آو إسهال أو ارتفاع في درجة الحرارة، مثل الانقلونزا والتهاب المعدة ، التهاب اللوزتين ونزلات البرد حيث يتيح الصوم لخلايا الجسم وأنسجته راحة فسيولوجية خصوصاً المعدة والأمعاء فتتخلص من سمومها، ويقوي جهاز المناعة للتغلب على أسباب المرض حيث يوفر الجسم الطاقة الكبيرة التي تستخدم في عمليات مضغ وهضم الأطعمة والأشربة التي نتناولها، وهذه الكمية من الطاقة تزداد مع زيادة الكميات المستهلكة من الطعام والشراب، في حالة الصيام سيتم توفير هذه الطاقة طبعاً وسيتم استخدام هذه الطاقة في عمليات إزالة السموم من الجسم وتطهيره من الفضلات السامة. بالإضافة إلي أن الصيام يساعد على الوقاية من الأورام من خلال مساعدة الجسم على إزالة الخلايا التالفة والضعيفة في الجسم التي لا تتوفر لها المواد الغذائية المساعدة على النمو وبالتالي تكون أكثر عرضة للتحلل الذاتي. وعلاوة على ذلك فإنه يساعد في عملية بناء الخلايا والأعضاء المريضة، وتجديد خلاياها حيث إن إنتاج البروتين وتصنيعه لاستبدال الخلايا التالفة يحدث بصورة أكثر كفاءة.
- تحسين وظائف الخلايا المناعية
الخلايا المناعية حساسة جدا جدا لأي تغيرات نفسية أو غذائية فهناك علم يسمى PhsychoImmunology وكذلك NeuroImmunology. فالخلايا المناعية يوجد على سطحها مستقبلات للجزيئات التي يفرزها الجهاز العصبي وجهاز الغدد الصماء وقد ثبت علمياً على مستوى الإنسان وحيوانات التجارب بأن أي إضطراب نفسي شاملا القلق يؤدي إلي زيادة كبيرة في إفراز هذه الجزيئات والذي بدوره يؤدي إلي تأثير سلبي على وظائف الخلايا المناعية. ولأن الصائم يكون في حالة صفاء نفسي أثناء شهر رمضان فإن مستوى هذه الجزيئات يكون في أحسن حالة مقارنة بباقي شهور السنة التي يكون الفرد تحت تأثير ضغوطات الحياة من كل شكل ولون. فالصوم هو علاج نفسي لكل إضطرابات الجهاز العصبي والغدد الصماء ولذلك فإن الخلايا المناعية تظل على شغف في انتظار شهر رمضان وذلك لعدم تعرضها لمستويات عالية من الجزيئات المفرزة من الجهاز العصبي والغدد الصماء وبالتالي تمارس وظائفها بنشاط وسعادة وبقوة أعلى من باقي شهور السنة.
والخلايا المناعية تتأثر بصورة سلبية شديدة بالأحماض الدهنية المشبعة والغير مشبعة والمختزنة في أماكن كثيرة في الجسم أهمها الكبد والبطن والمعدة والأمعاء. ويؤدي الصوم إلي تحلل هذه الدهون بعملية تسمى Autolysis وذلك كمصدر للطاقة. ففي خلال الساعات الاولي من اجمالي 12 ساعة للصيام يقوم الجسم بإستخدام مخزون السكريات كمصدر أساسي للطاقة ولأن هذا المخزون ينفذ سريعا فإن الجسم يبدأ في استخدام الدهون كمصدر ثاني للطاقة. وهذا فضل من الله للتخلص من معظم الدهون المترسبة طوال العام.
وبحكمة الله في خلقه فإن الطاقة الناتجة من تكسير الدهون قوية جداً حيث لا يحتاج الجسم إلي تكسير البروتينات كمصدر ثالث للطاقة وبهذا يظل مستوى البروتينات ثابت في الجسم نظراً لأهميتها القصوي لوظائف الجسم عموماً والخلايا المناعية خاصة والتي تسعد كثيرا بقدوم شهر رمضان والذي يخلصها من أذي تراكم الدهن طول العام فتتحسن وظائفها حوالي عشرة أضعاف ما قبل شهر رمضان. وقد أثبتت الأبحاث العلمية زيادة كبيرة في عدد وظائف الخلايا البلعمية التي تلتهم الميكروبات وتقتلها وقد يفسر ذلك بتقليل أعراض مرض تصلب الشرايين عند الصائمين وذلك لأن الخلايا البلعمية لها قدرة غير عادية على ابتلاع الدهون المترسبة في الأوعية الدموية التي تسبب تصلب الشرايين. والمشوق جدا أن الصوم يؤدي إلي زيادة أعداد ووظائف الخلايا التائية المناعية بصورة ملحوظة والتي تلعب دورا كبيراً في تحسين الوظائف المتخصصة للجهاز المناعي ضد الأورام والميكروبات المختلفة.
القراء الاعزاء، للصوم فوائد كثيرة لصحة الانسان وسلامه بدنه وقد قال تعالى: وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) سورة البقرة. فرغم التقدم العلمي الهائل فما زال العلم الحديث يحاول كشف اسرار الصيام والحكمة من تشريعه والله سبحانه تعالى لا يكتب شيئاً على عباده إلا إذا كان فيه مصلحة ومنفعة لهم.
وتقبل الله منا ومنكم.