نُقل عن سلفنا الصالح الإمام سفيان ابن عُيينة والقاضي أبي يوسف قولهم (العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك) وهذه قاعدة مَسلكية في دنيا المعرفة تنطبق على كل علم وفن وصنعة. ولهذا أشتُهر عن كبار رجالات العلوم والمعرفة في القديم والحديث تفرغهم الكامل للتَّبتُّل والانطواء لاكتساب المعرفة ونقلها. وفي مثل هؤلاء العلماء المستغرقين في العلم يصح توصيفهم بأنهم (رجال عاشوا للعلم). وبمناسبة احتفال كلية العلوم بجامعة الملك سعود بمرور ستين سنة على أنشائها وكذلك عقد اجتماع عمداء كليات العلوم بالجامعات السعودية حرصنا أن يحتوي معرض (استكشاف العلوم) التي تنظمه كلية العلوم هذه الأيام على جناح خاص يحمل اسم (رجال عاشوا للعلم).
كَمٌّ غفير من العلماء والمخترعين شغلوا كامل أوقاتهم بالبحث والمعرفة حتى آخر يوم في حياتهم وهذا الوصف (واقع حال) بالفعل وليس تشبيهاً لغوياً مبالغاً فيه، فمثلاً العالم البريطاني جون دالتون صاحب النظرية الذرية كان طوال عمره يجرى بشكل يومي القياسات والأرصاد الجوية حتى في اليوم الذي مات فيه وهو في سن الثامنة والسبعين. وعالم الرياضيات السويسري ليونهارد أولير أحد أهم علماء الرياضيات في العصر الحديث توفي في سن السادسة والسبعين وفي نفس يوم وفاته كان مشغولا لدرجة كبيرة في إجراء الحسابات الرياضية الخاصة بمدار كوكب أورانوس الذي تم اكتشافه قريبا ليس هذا وحسب بل إنه كان في ذلك الوقت شبه أعمى. وهذا عالم الأحياء الهولندي الشهير لوفنيهوك رائد وابو علم الأحياء الدقيقة ظل لمدة قاربت الستين سنة وهو يستكشف بعدسته المكبرة الشهيرة الكائنات المجهرية وعندما كان على فراش الموت وهو في سن التسعين كان يجهز لتقرير علمي جديد يرغب في إرساله إلى الجمعية الملكية البريطانية. بينما أُسطورة العلم اينشتاين شغل نفسه في العقود الأخيرة من حياته لإيجاد نظرية علمية جامعة توحد جميع القوى والظواهر الفيزيائية ولهذا ظل سنوات طويلة يجري ويجرب المعادلات الرياضية المعقدة حتى وهو في المستشفى ولم يتوقف عن ذلك إلا قبل وفاته بيوم واحد فقط.
من هذا وذاك لن نستغرب عندما نعلم أن من أولئك الرجال الذين عاشوا للعلم، من وافته المنية وقبضت روحه وهو في مختبره العلمي وبين أدوات معمله البحثي. أنظر مثلاً لقصة العالم النمساوي كارل لاندستينير مكتشف فصائل الدم المختلفة والحاصل على جائزة نوبل في الطب لعام 1930م فعندما توفي عام 1943م وهو في سن 75 مات على طاولة البحث في مختبره الطبي بمعهد روكفيلر. بينما الكيميائي الأمريكي جيلبرت لويس أحد أهم علماء الكيمياء في العصر الحديث والمشهور لجميع طلاب الكيمياء في المرحلة الثانوية من خلال ما يسمى أشكال لويس وأحماض لويس عندما بلغ سن السبعين في سنة 1946م وجده أحد طلبته وهو ميت تحت طاولة الأبحاث في مختبرة العلمي بجامعة بيركلي.
ومن العلم ما قتل
الموت على العلماء حق في المختبر أو في الفراش الوثير ومع ذلك موت الفجأة في مختبر كيميائي يثير أحيانا الشك والريبية ولذلك حاول البعض تفسير موت الكيميائي جليبرت لويس المفاجئ في المختبر بأنه ربما تعرض لحالة اختناق بالغازات السامة من إحدى التجارب الكيميائية التي كان يستخدم فيها مركبات السيانيد وإن كان البعض كذلك يشير لوجود شبه انتحار متعمد بسبب ظروف نفسيه كان يمر بها. ولهذا لا غرابة أن نجد على نفس النَّسق أن البعض يحاول كذلك تفسير الموت المفاجئ في المختبر للكيميائي السويدي كارل شيله مكتشف عنصر الأوكسجين الذي توفي وهو في سن 43 بأنه من المحتمل راجع لتسممه بجرعة زائدة من مركبات الزئبق. حيث وُجِد شيله مطروحا على طاولة التجارب وسط عدد كبير من القوارير الكيميائية وتجدر الإشارة إلى أنه كان من عادته تذوق المواد الكيميائية التي ينتجها وهذا قد يفسر سبب التسمم والوفاة المفاجأة.
إذا كانت الحكمة قديمة تقول (من عاش بالسيف مات به) وما دمنا نحن الان في وارد الحديث عن العلم والعلماء فيمكنا تحوير تلك الحكمة لتصبح (من عاش بالعلم .. مات به). يُقال إن الكيميائي الألماني أوجست كيكولي الذي اشتُهر في دنيا العلم بحلمه الشهير عن تركيب جزئي البنزين، ذكر أن أستاذه الكيميائي جوستاس ليبيج قال له (إذا أردت أن تكون كيميائياً مبدعاً فيجب أن تخرب صحتك وإن الذي لا يضحي بصحته لن يذهب بعيدا في علم الكيمياء). عبر التاريخ لقي المئات من العلماء والباحثين نهايتهم المأساوية كنتيجة غير متوقعة من نتائج تجاربهم العلمية فبعضهم قتل في انفجار تجربة وبعضهم تعرض للتسمم الكيميائي في حين حصدت الإشعاعات الفيزيائية أرواح البعض، بينما أتلفت العدوى والأمراض البكتيرية والفيروسية حياة البعض. من ذلك مثلا أن الانفجارات والحرائق المشتعلة أثناء التجارب العلمية أودت بحياة الكيميائي الأمريكي روجر جريفن والكيميائي البريطاني تشارلز مانسيفيلد والكيميائية الروسية فيرا بوبوفا. وبنفس درجة المأساة توفي الفيزيائي الكندي لويس سلتون والعالم الأمريكي سيسل كيلي وعالم الفيزياء الأمريكي هاري داغليان حيث أن كلا منهم توفي أثناء تعرضه في المختبر لجرعة عالية وقاتلة من الاشعاعات الذرية.
مصيبة الموت قد تدرك بعض العلماء أثناء ابحاثهم العلمية ولو خارج مختبراتهم البحثية وخصوصا أثناء إجراء البحوث الميدانية فأحد أبرز علماء الجيولوجيا المعاصرين العالم الألماني ألفرد فاغنر صاحب نظرية الحركة التكتونية المسببة لحركة القارات لاقى حتفه عام 1930م خلال مشاركته في بعثة استكشافيه للقطب الشمالي. ومن الجليد إلى النار نجد أن عالم البراكين الفرنسي موريس كرافت وزوجته كاتيا اشتهرا على مستوى العالم بسبب روح المغامرة العالية لديهما في تصوير الأفلام الوثائقية عن البراكين لدرجة أنهما كثيرا ما يقومان بالتصوير لمسافة قريبة جداً من سيول حمم اللافا المتدفقة. وللأسف حصل في عام 1991م وأثناء تصويرهما لثوران جبل بركاني في اليابان أن تعرضا للقتل الشنيع بواسطة دخان الرماد البركاني الفائق الحرارة.
ومن العلماء المشهورين إعلامياً ممن توفوا بشكل أو آخر في أرض ميدان العلم نجد عالم الفلك الأمريكي إيوجين شوميكر الذي يعتبر أحد مؤسسي علم الكويكبات وذلك نتيجة لاهتمامه برصد الكويكبات والنيازك التي من المحتمل أن تصطدم بكوكب الأرض. كما أهتم بدراسته الحفر التي تنشأ نتيجة لسقوط النيازك على سطح الأرض وهذا ما تسبب له في النهاية بحادث سير مريع عام 1994م عندما كان يبحث عن حفر النيازك في استراليا. والمجال لا يتسع لسرد من قتل من العلماء والباحثين والمهندسين أثناء إجراء الدراسات والتجارب على المخترعات العلمية الحديثة مثل مناطيد الهواء أو الطائرات أو الصواريخ الفضائية ووسائل المواصلات المختلفة.
شهداء العلم .. حياة العلم بموت العلماء
يُشْتَهَر عند الكثير توصيف بعض مشاهير العلماء مثل جاليليو ومدام كوري بأنهم (شهداء العلم) بسبب تعرضهم لبعض المضايقات والمشاكل والتي هي من تبعات نشاطهم العلمي لكن أحق من يوصف (بالشهيد العلمي) هو من لا يتردد في التضحية بنفسه في سبيل تقدم البحث العلمي والاكتشاف المعرفي. الجود بالنفس أقصى غاية الجودِ كما قرر ذلك قديما الشاعر مسلم بن الوليد ولهذا العالم الذي يضحي بنفسه لإثبات تجربة علمية هو أحق بوصف شهيد العلم من جاليليو الذي أوذي فقط في سبيل العلم ولم يخسر حياته في ميدان العلوم والأبحاث.
الطبيب الأمريكي وليم لازير كان أحد أفراد الفريق البحثي الذي توصل لاكتشاف سبب مرض الحمى الصفراء وأن ناقل المرض عبارة عن نوع خاص من البعوض. وللتأكد من هذا الأمر قام لازير بإجراء تجربة على نفسه بأن سمح لذلك النوع من البعوض أن يلدغه وبهذا تسبب بشكل متعمد بإصابته بمرض الحمى الصفراء ثم تفاقم وضعه الصحي إلى أن توفي بعد ذلك بوقت قصير عام 1900م وهو في سن 34 من العمر. وهذا الطبيب الألماني أميل بهرنغ والذي له مكانة مميزة في تاريخ العلم حيث كان أول شخص يحصل على جائزة نوبل في الطب عام 1901 نظير اكتشافه علاجاً لمرض الدفتيريا المميت. وبعد نجاحه في إيجاد علاج لمرض الدفتيريا نجده لاحقا يكرس جهده وابحاثه لمحاولة اكتشاف علاج لمرض السل لدرجة أنه تبرع بالمال الذي حصل عليه من جائزة نوبل وأملاكه الأخرى لإنشاء معهد طبي يساهم في القضاء على مرض السل ولكن الغريب في الأمر أنه مات في النهاية بسبب الإصابة بمرض السل.
ظاهرة متكررة في تاريخ الطب أن العديد من الأطباء والباحثين في هذا الحقل الانساني النبيل لا يترددون في أن يجعلوا من أنفسهم (فئران تجارب) بشرية للتأكد من سلامة علاج ما قبل استخدامه من المرضى كما حصل مع الطبيب الكندي فريدريك بانتنج مكتشف دواء الانسولين وطبيب الأسنان الأمريكي وليم مورتون أول من استخدم الأيثر في التخدير والطبيب الأمريكي جوانس سالك مكتشف تطعيم مرض شلل الأطفال. أما في مجال محاولة إثبات أن سبب معين هو مصدر مرض خطير فنجد كذلك أمثلة لبعض الأطباء الذين خاطروا بأنفسهم لخدمة البشرية. من ذلك مثلاً، أن الطبيب الاسترالي باري مارشال الحاصل على جائزة نوبل في الطب عام 2005م لم يتردد لكي يثبت فرضيته الطبية أن من أسباب مرض قرحة المعدة هو تعرض الجسم لنوع خاص من البكتريا. ولهذا قام باري بابتلاع هذه البكتيريا الخطيرة التي يتوقع أنها تسبب مرض القرحة ولولا أن زوجته أصرت عليه أن يتناول مضاداً حيوياً مقاوماً لتلك البكتيريا لكان عرض صحته لخطر محتمل.
في نظري الشخصي أن أكثر الأطباء والعلماء حماقة في موضوع إجراء التجارب على النفس هو الطبيب والجراح الأسكتلندي جون هانتر طبيب الملك البريطاني جورج الثالث. وكمحاولة لفهم كيفية انتقال العدوى بمرض السيلان الفظيع قام في عام 1767م بحقن جسمه ببعض الصديد والقيح من قروح لمريض مصاب بمرض السيلان. العجيب في الأمر أن الطبيب هانتر أختار أن يحقن ذلك الصديد المقيت في عضوه التناسلي وهو ما تسبب في إصابته بمرض الزهري الأكثر خطورة والذي أنهك جسمه ولم يتعاف منه على الإطلاق. وعلى نفس النسق من المغامرة العلمية والحماقة الصحية والتضحية بالنفس في سبيل العلم قام الطبيب الفرنسي نيكولاس تشيرفين في بدايات القرن التاسع عشر بدارسة أسباب مرض الحمى الصفراء حيث كان يعتقد أن هذا المرض غير معد. وحتى يتأكد نيكولاس من هذا الأمر نجده ليس فقط يقوم بالنوم في أسرة بعض المرضى الذين ماتوا بسبب مرض الحمى الصفراء بل نجده وبحماقة مستغربة يقوم بابتلاع القيء الدموي الاسود الذي يصدر عن المرضى. طبعا هذا الطبيب المغامر والجريء نجى من التعرض للخطر المميت بسبب أن مرض الحمى الصفراء في الواقع هو مرض ينتقل عن طريق البعوض وليس بالاحتكاك المباشر بين الأشخاص.
وبالعودة لموضوع (شهداء العلم) تجدر الإشارة إلى أنه في تاريخ تطور علم الكيمياء يوجد مجموعة من العلماء يتم توصيفهم (بشهداء عنصر الفلور) fluorine martyrs وذلك لأنه منذ بدايات القرن التاسع عشر واجه العديد من العلماء مشاكل صحية وحوادث مؤلمة عند محاولة عزل عنصر الفلور. لعل من الملائم التذكير أن معنى اسم عنصر الفلور هو الشيء المهلك أو المتلف ولهذا لاقى العديد من علماء الكيمياء مصرعهم جراء خطورة هذا العنصر. وبالرغم من معرفة العلماء لخطورة التعامل مع أبحاث عنصر الفلور إلا أن البعض منهم قَبِل التحدي والمخاطرة في بدايات محاولات عزل وفصل هذا العنصر ومن (شهداء) التسمم القاتل بغازات الفلور ومركباته نجد أن الكيمائي السويسري جيروم نيكلس والكيميائي البلجيكي بولين لوييه حيث أن كلا منهما قد خسر حياته متأثرا بالتسمم بغاز فلوريد الهيدروجين. وبحكم أن كلا من عالم الكيمياء البريطاني همفري دافي والفرنسي جاي لوساك كان لهم إسهام كبير في اكتشاف العديد من العناصر الكيميائية لذا حاول كلا منهما عزل عنصر الفلور ولكنهما فشلا بسبب خطورته بل أن همفري دافي كاد يفقد عينه من جراء الغازات الحارقة. ومن هذا نعلم لماذا عندما نجح أخيرا عالم الكيمياء الفرنسي هنري موسان في عزل عنصر الفلور أعتُبر ذلك اكتشافاً علمياً مميزاً استحق أن ينال عليه جائزة نوبل في الكيمياء عام 1907م.
الانتحار العلمي
عندما نقول إن بعض العلماء (أفنى عمره في العلم) فإننا نقصد ذلك حرفياً فمنهم بالفعل من أختار طواعية (أن يفني) عمره ويتسبب في قتل نفسه منتحراً في سبيل العلم أو بسبب العلم. من أمثلة الانتحار في سبيل العلم يقال إن المهندس الأمريكي توماس برادفورد قام عام 1921م بالانتحار عن طريق استنشاق الغاز السام بعد أن أتفق مع سيدة تزعم أنها تعمل كوسيط مع عالم الأرواح بكيفية التواصل معها وارسال الاشارات لها من العالم الآخر. وكان هدفه من هذا الانتحار أن يثبت للمجتمع العلمي المتشكك بصحة حركة الروحانية spirituality المنتشرة في بداية القرن العشرين وطبعا بعد موته لم تصل منه رسالة لأنه كما قال الشاعر الجاهلي عبيد بن البرص (وغائب الموت لا يؤوبُ). أما أخبار العلماء الذين انتحروا ليس في سبيل العلم ولكن (بسبب) العلم فأكثر من أن نستطيع سردها هنا وأغلبها تعود لحالة الإحباط والاكتئاب التي قد تصيب العالم أو المكتشف والمخترع (كما تصيب الشخص العادي) عندما يفشل أو يتعرض للإهانة البالغة أو الاهمال وعدم التقدير. في أوائل القرن التاسع عشر كان عالم الكيمياء الألماني وليم زيمرمان أحد أبرز علماء الكيمياء في جامعة غيسن ولكن مكانته العلمية تلاشت عندما قدم لهذه الجامعة الكيميائي الابرز الشاب جوستوس ليبيغ الذي خطف الأضواء والشهرة منه وعندما طلب زيمرمان منحة مالية من الجامعة للعمل بالخارج رُفض طلبه فأحس بالفشل والإحباط مما ادى به إلى الانتحار بإغراق نفسه في النهر.
ومن عالم الكيمياء زيمرمان إلى عالم الفيزياء النمساوي بولتزمان تتكرر ظاهرة الإحباط العلمي المؤدي إلى الانتحار وبالرغم من المكانة المرموقة لبولتزمان في كتب تاريخ العلم بسبب معادلته الشهيرة في حساب الانتروبي المتعلقة بالقانون الثاني في علم الثرمودايناميك إلا أن اعتراف المجتمع العلمي بها لم يتم بالشكل المطلوب إلا بعد وفاته. وكما أن بولتزمان كان مدافعاً متحمساً للنظرية الذرية مما جعله يدخل في نقاشات حادة مع بعض العلماء والفلاسفة الذين لم يكونوا مقتنعين تماما بوجود الذرات، ومن مجمل كل ذلك تجمعت عليه الضغوط النفسية لدرجة أنه شنق نفسه ومات منتحراً من جراء الشقاء النفسي للعيش بين من يراهم متخلفين عنه علميا. وعلى نفس النسق انتحر الطبيب الألماني هانس برجر الذي خلده التاريخ بأنه أول من سجل في عام 1924 موجات المخ الكهربائية للدماغ البشري ومن ثم طوّر طريقة الرسم الكهربائي للدماغ المعروفة بـ EEG وكما تذكر كتب تاريخ العلم أن انتحاره كان بسبب تجاهل المجتمع العلمي الألماني لإنجازاته العلمية خصوصاً في فتره حكم النظام النازي.
الغريب في الأمر أن بعض العلماء يكون سبب انتحاره عدم مقدرته على الاستمرار في التميز العلمي وبالتالي المحافظة على المكانة العلمية المرموقة التي وصل لها، وخير مثال لذلك عالم الكيمياء العضوية الألماني فيكتور ماير الذي وصل لرتبة أستاذ professor وهو بعد في سن 24 وعمل بأعرق الجامعات الألمانية حيث كان بدون منازع من أشهر وأهم علماء الكيمياء في نهاية القرن التاسع عشر. ومع ذلك عندما تقدم في العمر وأصيب بضعف الذاكرة وانعدام القدرة على التركيز الذهني نتج عن ذلك اصابته بحالة نفسية حادة قادته في نهاية المطاف أنْ توجه في إحدى الليالي إلى مختبره العلمي ليُنهي حياته بتناول سم السيانيد.
ظاهرة انتحار العلماء من أعجب الظواهر في دنيا العلم ولهذا ربما تحتاج مقالاً مستقلاً، والعجيب أنها متركزة في علماء الكيمياء والألمان منهم بالذات، فكذلك انتحر عالم الكيمياء الألماني أميل فيشر ثاني شخص يحصل على جائزة نوبل في الكيمياء، وكذلك عالم الكيمياء الألماني هانز فيشر الحاصل على جائزة نوبل عام 1930م. ومن مشاهير علم الكيمياء المنتحرين كذلك نجد عالم الكيمياء والمخترع الفرنسي نوكلاس لوبلان أحد رواد الصناعات الكيميائية والكيميائي والمخترع الأمريكي جورج إيستمان مؤسس شركة كوداك للأفلام التصويرية وعالم الكيمياء الأمريكي والاس كاروثرز مخترع النايلون وعالم الكيمياء البريطاني وليم هنري صاحب قانون هنري في علم الغازات الذي يعرفه جميع طلاب الكيمياء.
وختاماً الفناء في العلم واستغراق الأوقات في تحصيله والحياة معه والموت في صحبته هذا فقط ديدن ومصير (عشاق العلوم) وهم قلة في هذا الزمن، أما حال أغلبية العلماء والباحثين فالعديد منهم يمارس العلم كوظيفة ومهنة وبالتالي هو بعد سن التقاعد سوف يموت قرير العين في فراشه الوثير وليس في مختبره العلمي كحال رواد العلوم الذين عاشوا وماتوا للعلم.
- المقال بصيغة PDF للقراءة و التحميل أعلى الصفحة
البريد الإلكتروني للكاتب: ahalgamdy@gmail.com