يتعدي دور الفريق البحثي التعاون في إجراء البحوث بكثير. فمن خلاله يمكن تدريب صغار الباحثين من خلال دورات علمية وورش عمل وندوات. كذلك الاطلاع على أحدث الأبحاث المنشورة وعرضها ومناقشتها شهرياً إن لم يكن أسبوعياً. وكذلك مناقشة النتائج التي يصل إليها أعضاء الفريق في اجتماعات دورية، مما يسهل من عملية استمرارية البحث وتطويره نتيجة لاشتراك الكل في تحديد نقاط الضعف والقوة مما يسهل من عملية النشر. وفوق كل ذلك تخلق اجتماعات الفريق العلمية هذه مناخاً صحياً للتعاون وخلق بيئة صحية للعلاقات والأنشطة الاجتماعية التي يشترك فيها الأعضاء سواء في صورة رحلات أو أعياد ميلاد أو أفراح أو غذاء عمل.
والإبداع صفة الإنسان والإنسانية بصمة الإبداع. ولم يرتقِ شعب منذ الخليقة إلا بتعقب وتبني الإبداع في النفوس التي تنبت الإنسانية. فالإبداع هو سر الحضارات البشرية والإنسانية هي سر أسرار بقاء الحضارات. وإن كان الإبداع جسداً فإن الإنسانية هي الثوب الذي يرتديه الجسد ليس فقط ليُجمله ولكن أيضاً ليحميه من عوامل التعرية في الحياة. وأنا من أنصار ومهاجري الإبداع. أناصره كلما استطعت وأهاجر لتحقيقه كلما تمكنت. وهناك الكثير من العقول المبدعة التي رأيتها في السنوات الأخيرة، منها عقول بعمر صغير ولكن بأفكار إبداعية كبيرة. ومنها عقول كبيرة في كل مخرجاتها ولكن لديها القدرة على احتواء أفكار العالم أجمع وهضمها وامتصاصها لتتغذى ذاتها كلما أرادت أو تُغذي بها الآخر عند الحاجة.
ولأن الإنسان جُلب على التنوع والتكامل فإن الإبداع هو الآخر لا ينمو ويترعرع إلا إذا تباين وتكامل وتلاقى واندمج وانصهر قبل أن يطبع توقيعه في الحياة. والبوتقة التي تنصهر فيها الإبداعات الإنسانية هي فريق العمل الواحد بتباين أعضاءه في العمر والقدرات والميول. ورئيس الفريق هو صاحب البوتقة الذي يقلب فيها إبداعات فريقه أثناء الانصهار ليحصل على سبيكة متميزة في النوعية يستطيع تشكيلها لمنتجات تخدم الإنسانية. وغالباً ما يحتاج رئيس الفريق إلى أدوات ومواد تساعده في تقليب وصهر وتشكيل الإبداعات في بوتقته. وقد يتعرض صاحب البوتقة إلى صهد النار أو الرائحة أو الأبخرة المتصاعدة أثاء المراحل المختلفة للانصهار ولكن عادة ما يتحمل ويصبر حتى يكتمل الانصهار.
ولكي تنجح عملية صهر وتشكيل الإبداعات لا بد أن يتحلى رئيس الفريق بالأمانة و الصبر والحكمة والتحمل والتأمل والبعد عن المآرب الشخصية في توظيف نتائج إبداعات فريقه. بل يجب على صاحب الفريق أن يحمل في ذهنه دائماً وأبداً المصلحة العامة ليس فقط للفريق ولكن أيضاً للبيئة التي يعيش فيها الفريق وكذلك للبيئة الكبري المحيطة بالفريق. ولا يتحقق ذلك إلا بعقد النية وتجديدها حتى جميع الخطوات خالصة للمصلحة العليا. والنية هنا تحتاج إلى خطة عمل وإلى توفير إمكانات ذهنية متفتحة ومرنة ولينة وفي نفس الوقت حادة و صارمة ومؤلمة إذا تتطلب الأمر ولكن دون إحداث جروح أو تشوهات في الفريق وأعضاءه.
وقد يتعرض صاحب البوتقة للقيل والقال والغيبة والنميمة والبهتان، فقد يوصف من الآخرين ولأي من الأسباب، نفسية كانت أو عقلية النفسية، بالأنانية أو الانعزالية أو السيادية أو المظهرية أو الوصولية أو أي صفة أخرى يكون الهدف منها تكسير عظام الإبداع وتقطيع لحمه أو كسر البوتقة نفسها أو صاحبها. ولأن ذلك سلوك إنساني متوقع ، فيجب على صاحب البوتقة ألا يتأثر بهذه التأثيرات الجانبية بل عليه أن يتحلى بالقدرة الفائقة على تحمل آلام قد تصاحب أي مرحلة من الانصهار حتى التشكيل، تماماً كالأم التي تتحمل آلام المخاص حتى تضع جنينها ليكبر ويصير إنساناً صالحاً في المجتمع. ولذلك فروح الفريق البحثي من رئيس وأعضاء تُبنى على التحمل والصبر والنضال في ظل الصعاب ولو كبرت فقط من أجل المصلحة العليا وليس فقط لمصلحة الفريق.
وعادة ما تبدأ فكرة الفريق من صاحب البوتقة ونادراً ما تبدأ من العقول المبدعة. ولذلك فولادة أي فريق هي دلالة على الإبداع أيا كان مصدره. وقد يكون حجم الفريق صغيراً وقد يكون كبيراً أو بين هذا وذاك. ومع أن حجم الفريق مهم إلا أن نوعية الفريق وموضوع إبداعاته هو الأهم. فقد يصل أصحاب الفريق إلى ثلاثة أو خمسة ولكن قد يكون التأثير كبيراً. فالفريق مثل النبتة التي تكبر وتزهر وتتفرع إذا تَوفر لها مع الوقت الماء والغذاء والهواء والتربة المناسبة والسماء الصافية. ولذلك فنجاح الفريق ودوامته تحتاج إلى الإعلان عنه وعن أنشطته وعن مخرجاته حتى يكون ظاهراً للعيان ومعرضاً للنقد والتعليق للصالح العام. وهما الشرطان الأساسيان في تكوين الفرق المبدعة. وقد يفسر ذلك مرض وموت كثير من الفرق التي ظنت يوماً ما أنها مبدعة لأنها نمت تحت الأرض وأحاطت نفسها بسور من الكتمان ولم تخدم إلا مصالحها.
ومع أن رتبة المشير في العسكرية هي الأعلي إلا أن رتبة الفريق هي من أهم الرتب العسكرية التي تستوقفني لأنها تعكس روح الفريق في الإدارة حتى ولو كانت عسكرية مبنية على الضبط والربط. ولذلك فإذا نجح الفريق في مهامه يرتقي إلى رتبة المشير الذي يعلو دوره ليصل إلى إدارة الفرق جميعها من أجل توظيفها للمصلحة العليا. ولذلك فالفرق المختلفة يجب أن تتعارف وتتعاون وتشجع بعضها البعض لتتكامل حتى تحقق رسالتها الكبري، ليس فقط في إعمار البشرية ولكن أيضاً ببث روح المحبة في نواتج الحضارات الإنسانية. ولذلك فالفريق المبدع هو العلامة التجارية للمجتمعات الإنسانية الراقية وهو التوقيع العملي على صفحات الواقع المملوءة بسطور من بنود المعرفة وقوانينها التي تتمثل ليس فقط في الأعمال الكبري ولكن أيضاً في الألعاب الإنسانية كما في الفرق الرياضية، وكما يتمثل أيضاً في التركيب التشريحي والوظيفي للإنسان المبني على فرق الأنسجة المختلفة.
ومع أن الحياة ملآنة بأمثلة من الفرق المبدعة والناجحة على مدار الحقب الزمنية المختلفة، إلا أن الفرق التي تكونت على يد الرسل برعاية السماء، وخاصة الفريق الذي شكله سيدنا محمد، هي الأمثلة الحقيقة لاستمرارية الفريق حتى بعد رحيل أصحابه. فالفرق لا تموت بموت أصحابها، ولكنها تبقى وتنتشر وتنموا وتترعرع مع الزمن، شريطة أن تكون نشأتها للصالح العام. ولذلك فبصمة الفريق تزهو إذا زهت نيات الصالح العام وتأصلت، وتَبهت وتخفت إذا خفتت وهانت نياتها للصالح العام. ولذلك فأقوي الفرق وأصلحها وأصحها تلك التي يكونها رؤساء المصالح أيا كانت مواقعهم في مرتبة العمل. فلا يضفي ذلك فقط على الفريق روح العمل ولكن أيضاً يمكن من تحقيق الفائدة المباشرة لنواتج الإبداع للفريق. ولقد رأيت ذلك في كثير من المواقع التي تعمل بروح وجسد الفريق فنتج عنها إبداعات أعمال يتحدث عنها الجميع كأمثلة لقدرة الإنسان على التفوق على قصور الإمكانات المادية والمالية والتكنولوجية.
والبحث العلمي بأنواعه من أهم المجالات التي تحتاج إلى نظام العمل من خلال فريق، ليس فقط بروح واحدة، ولكن أيضاً بجسد واحد. ولذلك نري أن أهم النواتج البحثية قاطبة سواء على هيئة أبحاث منشورة أو كتب أو براءات إختراع أو مشروعات بحثية هي التي نتجت من فرق بحثية بدأت صغيرة وانتهت كبيرة بفضل رؤية وأهداف ورسالة واضحة. ولذلك فقلما ما يُقبل مشروع بحثي للتمويل مهما كان إبداع فكرته إلا إذا كام مزوداً بفريقٍ بحثي يشكله صاحب الفريق، وكذلك الحال في الأبحاث المنشورة. ولذلك فعادة من يُدعي لكتابة مقالات مرجعية هامة في موضوع بحثي مهم هو من ارتقى بإبداعات فريقه وظهرت نواتجها في المجتمع العلمي بتوقيع واضح وجلي. ولذلك دائما ما أُطلق لقب مشير على أصحاب الفرق البحثية المتميزة التي يُدعى فيها رئيسها إلى كتابة مقالات مرجعية أو كتاب علمي أو فصل منه سواء بمفرده أو بمشاركة فريقه البحثي.
وفي العالم أجمع، خاصة المتقدم منه، لا يقوم البحث العلمي إلا من خلال فرق بحثية صغرت أو كبرت من خلال كيانات معلومة عند المؤسسات البحثية على مستوي الأعضاء والرئيس. وبالطبع تقوم هذه المؤسسات بتقديم كل الدعم المعنوي والمادي واللوجيستي إلى هذه الفرق حتى تضمن نجاحاتها واستمراريتها وقدرتها على التنافس مع أقرانها من الفرق البحثية الأخرى وذلك بالطبع لضمان تميز المؤسسة ونهضتها وتفوقها على الصعيد المحلي والإقليمي والوطني والعالمي. ولذلك فالدعم المؤسسي للفرق البحثية التي لها كيان واضح وبصمات علمية واضحة ومتميزة هو واجب مؤسسي من الدرجة الأولى لحماية العقول المبدعة ومساعدتها على النمو والتنمية الذاتية و التميز والاستمرار وحمايتها من أي اضطهاد علمي قد يشتت إبداعاتها وينهي تميزها. وهناك العديد من الآليات للدعم المؤسسي للفرق البحثية ولكنها تختلف من مؤسسة بحثية إلى أخرى ومن متطلبات فريق بحثي إلى فريق بحثي آخر.
ويتشكل الفريق البحثي من رئيس الفريق الذي يختار مجموعة كبيرة ومتباينة من الأعضاء الذي قد يصل التباين فيما بينهم إلى السن والجنس والمكان والثقافة واللغة وأحياناً الدين. علاوة على ذلك فقد يلجأ رئيس الفريق إلى استشاري علمي وفني وإلى متخصصين في المحاسبة والقانون لتقديم التقارير المالية والإدارية وبصورة دورية وبأسلوب علمي رصين مما يجعل العمل يتم من خلال فريق مثال للإدارة الحقيقية. وبالإضافة إلى ذلك فقد يعقد الفريق اتفاقيات تعاون مع فرق أخرى من خلال المؤسسة التي ينتمي إليها والمؤسسات الأخرى مما يضيف بُعداً آخر من الاتساع العلمي الرأسي والأفقي.
ولذلك فإن إدارة الفريق البحثي من قبل رئيس الفريق ومن يوكله في متابعة الأنشطة المختلفة للفريق تمثل أرقى مناخ حقيقي لممارسة فنون الإدارة بدون منصب إداري. فإذا كانت قوانين ولوائح المنصب الإداري هي التي تحصن الرئيس وتمنحه السلطة في التعامل مع مرؤوسيه، فإدارة الفريق البحثي لا تخضع لذلك بل تخضع إلى الإدارة العلمية والشخصية المنزهة من أي سلطة. ولذلك فالنجاح في إدارة الفريق البحثي هو النجاح الحقيقي، وهي "الترمومتر" الذي من خلاله يمكن قياس قدرة الأفراد في إدارة المؤسسات بتطبيق قواعد وأصول الجودة التي تمارس فعلياً وليس نظرياً في إدارة المشروع خاصة في طرق التغلب على العقبات وإيجاد حلول عملية لها.
الفريق العلمي هو بيت يسكنه أفراد هدفهم واحد، يبذلون قصارى جهدهم لتحقيق خطة اتفق الجميع على بنودها مسبقاً، لتأهيل وتطوير هذا البيت وضمان استمراريته وتفوقه من خلال مخرجات ظاهرة للعيان وخادمة للمجتمع. ويجب ألا ننتظر المؤسسات، خاصة البحثية، لتكوين فرق بحثية بها من خلال أفرادها بل يجب أن تسعى كل مؤسسة سواء الجامعات أو مراكز البحوث وغيرها إلى تكوين فرق بحثية بتطبيق سياسة واضحة وبرنامج متكامل لتكوين فرق بحثية حتى تكون سياسة العمل بها مبنية على روح وجسد الفريق، الذي يفكر بعقول أعضاءه بأسلوب علمي يضمن ناتجاً راقياً.
ومجمل القول أن الفرق البحثية هي عقل مؤسسي يستطيع أن يحول الأفكار إلى حقائق تمشي على الأرض من خلال نهج علمي رصين. والفرق البحثية التي لا ترنوا إلى مواقع إدارية، حتى ولو بحثية، هي الأصح وهي الأقوي وهي الأصدق وهي المنوط بها التغيير الحقيقي على أرض الواقع العلمي. ولذلك تحتاج هذه الفرق البحثية إلى الدعم المجاني ولو على بطاقة تموين علمية. فأؤكد أن الفريق البحثي هو اللبنة التي تبني بها بيوت ومعابد العلوم، فكلما زادت جودة ونقاء اللبنة كلما كان البنيان جميلا ونافعا وقويا.
- المقال بصيغة PDF للقراءة والتحميل أعلى الصفحة.
البريد الالكتروني للكاتب: Mohamed.labib@science.tanta.edu.eg