"الحب مجرد حالة يصنعها العقل ليرتاح، ولأن كله ذكاء فصناعته دائما حلوة ومغرية تسعد بها الحواس وباقي أعضاء الجسد، فتعانق الأيدي بحب، وتمشي الأقدام بحب، وتأكل المعدة بحب، وتهضم الأمعاء وتمتص بحب، ويعيش الكبد في حب وينام على حب، وينبض القلب ويدق على أبواب الحب. فهل يحب الذي أصابه الجنون ولو امتلك قلوب العالم أم يحب العاقل ولو تملكت قلبه أمراض العالم".
ما هو الحب؟
ما هو الحب وما هو الكره؟ ومن يحب ومن يكره؟. أيحب القلب ويكره العقل أم العكس أم لا توجد علاقة بين الإثنين. ولماذا نربط الحب بالقلب والعقل فقط. لماذا لا يكون للمعدة أو الأمعاء أو البنكرياس دور في الحب والكره. فما بالنا من الكبد الذي يقع على عاتقه الكثير من الوظائف الحيوية، فلماذا إذاً لا يلعب دوراً في الحب والكره! لماذا نعتبر أن القلب أفضل من الكبد وأقوى منه على الحب. وكذلك الرئتين مدخل الحياة، بما فيها من سهول رائعة لتبادل الأكسوجين وثاني أكسيد الكربون لتعطي الجسد بما فيه القلب الدم الصالح وتبعد عنه الدم الفاسد. أهو القلب لأنه ممتلئ دائماً بالدم ودائم الإنقباض. أيكون عضو الدم هو مهبط لمطار الحب.
جغرافيا القلب والعقل
القلب ما هو إلا عضلة مليئة بالدماء الحمراء الزرقاء وليس لديه أي وقت للحب. ضع يدك على القلب لتجده في حالة نبض ودق من ضخ الدم منه إلى جميع أجزاء الجسد. أعضو مثل هذا لديه وقت للحب؟ ثم كيف يحب وأين يصنع ويحتفظ بالحب وكلماته. القلب مجرد عضلة تتأثر بانفعالات صاحبها فقط ولا تفهم منها أي شيء سوى هل تضخ مزيداً أو قليلاً من الدم. أما المخ فهو بعيداً جداً عن القلب، ويسكن هناك في جمجمة الرأس ليتخذ له قصراً منيفاً هناك بعيداً عن الضربات والانقباضات والروائح والنفايات والمعارك من الرقبة حتى أخمص القدم. صحيح أن القلب أيضاً أحاط نفسه بغشاء وصحيح أنه أتخذ له مكاناً مميزاً في الصدر محاطاً بأربعة وعشرون ضلعاً قوية. وصحيح أن الصدر منفصل عن البطن بما بها من أمعاء ومعدة ومستقيم وكلى وغيرها بالحجاب الحاجز إلا أنه مازال حوله العديد من الأعضاء الكبرى مثل الكبد والرئتين وبعض الغدد المهمة مثل الدرقية والثيموسية مما يجعله في مزنق وقد يفسر ذلك زحزحته وميوله ناحية اليسار. أما المخ فهو سلطان، قصره بعيد ولا يزاحمه أي أعضاء على الإطلاق بل أرسل العديد من الأحبال الطويلة التي توصله بكل مكان في الجسد لينقل أوامره وهو متربع على عرش السلطنة وحوله جواريه يخدمونه بإخلاص شديد وينفذون أوامره التي يصدرها لجميع أجزاء الجسم بما فيها القلب نفسه ليتحكم في دقاته. فهناك غرفة العمليات الكبرى المسماة بغدة الهايبوثلاماس والغدة النخامية والصنوبرية ليتحكم من خلال مواد يفرزها بدقة فائقة في النوم والصحيان والحب والكره والسعادة والفرح والوحدة والإنسجام والجوع والعطش والرغبات بأنواعها بما فيها الإشتياق والعشق مكوناً حالة الصراع بين الحلال والحرام التي نعيشها جميعاً.
هرمون الحب
وهرمون الأوكسيتوسين هو أحد الهرمونات الرئيسية التي يفرزها المخ من منطقة الهيبوثيلاموس ليحل على الروح الأمن والطمأنينة وليشمل الحب والسعادة الأسرة والمجتمع ككل. فهرمون الحب هو المسئول الأول عن الأمومة إذ ينطلق هذا الهرمون في جسم المرأة أثناء فترة المخاض فيعين الأم على تحمل آلام الولادة ويحفز إنتاج اللبن في الثدي، ويغمر هذا الهرمون أثناء عملية الرضاعة الطبيعية فتصبر عليها الأم حولين كاملين. وعندما يمتص الطفل ثدي أمه فإن أعصابهـا تستجيب بإنتاج الهرمون بشكل كبير، ولذلك فإن معدل تدفق الهرمون يتزايد أثناء الرضاعة لأن الأعصاب المنتجة له تستثار معا بشكل درامي متزامن مع الرشفات التي يقوم بها الرضيع. كما أن نجاح الزواج مرهون بالأوكسيتوسين فقد ثبت بالدليل العلمي القاطع أن الحب مسألة عقلية بحتة عملية تبدأ بإفراز هرمون الدوبامين عند الوقوع في الحب فيعطي الحبيب الإحساس باللهفة والرغبة في تكرار رؤية المحبوب فيصير حبه إدمانا. ولذلك فممكن القول أن الغدد التي ينشطها المخ أثناء الوقوع في الحب هي نفسها التي تقود لإدمان المخدرات.
هل الحب أعمى؟
هرمون الأوكسيتوسين بريء من (الحب الأعمى) حيث تساءل باحثون عما إذا كانت المشاعر الحميمية تضفي غشاوة على الحكم على الأمور، فتجعل المرء يثق بالآخر دون أي وعي أو تمييز؟ فقد تبين أنه إذا تم وضع رذاذ الأوكسيتوسين في أنوفهم تكون أكثر اعتماداً على شريك الحياة ولكن تنعدم هذه الثقة عندما يتضح عدم مسئولية الشريكة وأنه لا يمكن له الاعتماد عليها مما يدل على أن الثقة تعتمد على مدى الثقة المتبادلة بين الطرفين حيث يلعب هرمون الحب (الأوكسيتوسين) أكثر فاعلية عندما تلعب الثقة دورا في زيادة الفائدة ولا تأثير له عندما تكون الظروف غامضة. كما ان السلوك الإنساني يتأثر بهرمون "الحب" الأوكسيتوسين، ففيه علاجاً للخجل والقلق وأمراض الاكتئاب والتوحد وغيرها من الأمراض النفسية والاجتماعية، وقد يكون فيه علاجاً لمشكلة التوحد. فمريض التوحد تنقصه المهارات الاجتماعية للمشاركة مع الآخرين في المواقف الاجتماعية، ومما يقوي هذه الاحتمالية أن مستوى إفراز الأوكسيتوسين لدى هؤلاء المرضى منخفض عن ذويهم الأصحاء. ويتحكم المخ في إفراز هرمون آخر يسمى السيراتونين والذي بسببه يتجاوز الناس الضوابط الاجتماعية فيحدث نوع من التهور والاندفاع فتغمر السعادة الأحباء ويتجنبون الحزن والاكتئاب. ويتحكم المخ في إفراز هرموني الإدرينالين والنوارادرينالين وذلك عند رؤية الحبيب فتتسارع ضربات القلب ويحمر الوجه ويتعرق الجسم. كما يتحكم المخ أيضاً في إفراز هرمون الفاسوبريسين والذي يعزز الإخلاص بين شركاء الحياة.
المخ هو المحب
إنه المخ والذي امتلك فوق كل هذه الهرمونات العقل ومراكز الإحساس فامتلك الذكاء وامتلك غرف العمليات تلك لتشغيل والتحكم في باقي أجزاء الجسد القابعة هناك أسفله دون أن يشترك في تلك الأحداث. بل الأكثر من ذلك هو الذي يتخيل ويتنبأ وباقي أجزاء الجسد تسلم له الأمر ولا تعارضه. وكيف لا وحواس السمع والبصر والشم والتذوق إن لم تكن جزءا منه فهى على مقربة منه. ثم من يملي القلم كلمات الحب ومن يسمح للسان بالتعبير عن مشاعر الحب ومن يعطي عين المحب الفرصة لرؤية الحبيب والغمز له، ومن يفتح أذن المحب ليسمع أحاديث الحبيب، ومن يجعل الجلد يقشعر من لمس الحبيب، ومن يشعل الرغبات ويطفأها، ومن يجعل المحب يصور ويتخيل الحبيب. وهل يحب الذي أصابه الجنون ولو امتلك قلوب العالم أم يحب العاقل ولو تملكت قلبه أمراض العالم. وبعد كل ذلك ولا يكون المخ وعقله هو مصدر الحب. إنه المخ وما حوى من العقل.
قلبك أبيض
يقولون "قلبك أبيض". كيف يكون القلب لونه أبيضاً وهو ملآن بالدم على عكس المخ الذي لا يحتوي إلا على القليل من الدم بل أن الدم به يختلف عن الدم الموجود بباقي أعضاء الجسد. فقد قرر المخ أن يفلتر الدم من الكثير من المواد التي وجد أنها قد تزعجه وقد تسبب له العديد من المشاكل الذي هو في غنى عنها. ولذلك فقد صنع سياجاً حوله من الأوعية الدموية ذات تركيب عالي الدقة تعمل كحاجز دموي أو نقاط تفتيش للجزيئات الذائبة في الدم فلا تسمح إلا بدخول ما يريده هو فقط.. بل أن المخ لم يكتفي بذلك بل قرر بأن لا يسمح بمرور الخلايا المناعية الملتهبة حتى لا يلتهب هو ولو إلتهب باقي الجسد واكتفى بالقليل من الخلايا المناعية الموجودة به لتدافع عنه في الظروف العادية مع سماحه بمرور الخلايا المناعية إلى قصره المنيف في حالة عدوان كبير عليه والذي قلما أن يحدث. و هل نسينا وجود غدد الدمع والدموع التي تصبها أنهارا عبر قنواتها لتنسال على الوجنات لمجرد تأثر الإنسان بحزن أو فرح. أنسينا أن غدد الدمع هذه تقع هناك في القصر المنيف الذي يسكنه المخ. أبعد كل هذا نقول أن القلب هو الحب وننسى المخ وعقله وحواسه وفكره وتصوراته وذكائه ودموعه ورفعة مكانته. القلب مغلوب على أمره، الذي تزداد إنقباضاته أو تقل حسب الحالة المزاجية التي يقررها المخ من خلال عقله وغدده التي يمتلكها والدموع والحواس من حوله.
إذا فالحب حالة خيالية يصنعها العقل عندما يشعر بعوز التفكير العقلاني فتصدقها باقي أعضاء الجسد وينشغلوا بها عنه لحب العقل للخيال إذا هبطت معدلات التفكير فيه. وقد يصنع العقل حالة الحب ليهدأ من شدة وطأة معدلات التفكير في عقله وليلهي حواسه في شيئ نافع ويتحكم فيه. وقد يصنع العقل حالة الحب إنتقاماً من باقي أعضاء الجسد عندما تنشغل بنفسها عنه فتطلب المزيد فيجعلها تستجيب لخيال هو صانعه لتعيش في حالة من الواقع الذي يريده. الحب مجرد حالة يصنعها العقل ليرتاح، ولأن كله ذكاء فصناعته دائما حلوة ومغرية تسعد بها الحواس وباقي أعضاء الجسد، فتعانق الأيدي بحب، وتمشي الأقدام بحب، وتأكل المعدة بحب، وتهضم الأمعاء بحب وتمتص بحب ويعيش الكبد وينام على حب، وينبض القلب ويدق على أبواب الحب. وهكذا يحيا الجسد على حب وعلى حساب نبضات ودقات القلب الذي لا يشتكي أبدا حتى ولو أصبح غير قادر على تحمل أعراض الحب، فيمرض هو ويبقى المخ بعقله معافى هناك في قصره المنيف. القلب لا سببا ولا مسببا للحب بل هو عرضاً للحب. هل يعقل أن ننسى السبب والمسبب ونجري وراء العرض. فلنترك القلب في حاله ومهامه الكبرى من دفع الدم ودورانه لأعلى وأسفل الجسد حتى لا ينفجر ويدفعه خارج الجسد. انشغلوا بالمخ والعقل وما حوله من حواس. الفؤاد في العقل إبحثوا عنه ليرتاح القلب، وإذا ارتاح القلب استمتع الفؤاد بالحب وأبدع فيه.
إنه العقل وليس القلب. علموا أنفسكم وأولادكم الحب، حب العقل. فالمخ وليس القلب هو المفتاح البيولوجي لتحقيق الحب والسلام بين البشر!
بريد الكاتب الالكتروني: Mohamed.labib@science.tanta.edu.eg