سلسلة روائع الكائنات الدقيقة

عالَم واسع غيرُ مرئي، لم نكن نعرف عنه شيئاً تقريباً قبل 100 عام. ومنذ اكتشاف هذه المخلوقات الدقيقة، لم تتوقف عن إذهال البشر بقدراتها المتنوعة والرائعة، والتي مكّنتها من استعمار معظم البيئات وأداء أدوارها المحورية على كوكب الأرض. كما أنها فتحت شهية البشر لترويضها والحصول على كنوزها المختلفة. في هذه السلسلة من المقالات، سنتعرض لمجموعات متنوعة من البكتيريا والكائنات الدقيقة ذات قدرات خاصة تميزها وتجعلها محطَّ الاهتمام والدراسة.

الباينيباسيلس (Paenibacillus) هو جنس من البكتيريا اللاهوائية الاختيارية، والقادرة على تكوين أبواغ داخلية. تم تصنيفها في البداية ضمن جنس Bacillus، ثم أعيد تصنيفها كجنس منفصل في عام 1993م. المعنى الحرفي لهذه البكتيريا هو "تقريباً عصوية". وقد تم عزل البكتيريا التي تنتمي إلى جنس الباينيباسيلس من مجموعة متنوعة من البيئات، مع العديد من الأنواع ذات الصلة بالإنسان والحيوانات والنباتات والبيئة. ويوجد معظمها في التربة، وغالباً ما ترتبط بجذور النباتات. ومن المعروف أن بعض أنواع الباينيباسيلس، مثل  larvae Paenibacillus تصيب الكائنات الحية المختلفة، بما في ذلك نحل العسل، و P. glabratella تصيب حلزونات المياه العذبة وهي Biomphalaria glabrata. كما تم عزل العديد من أنواع البينيباسيلوس من البشر على صعيدٍ عالمي. وعلى الرغم من أنها في الغالب غير ضارة للإنسان، إلا أنها تتسبب في العدوى الانتهازية في الأشخاص ذوي المناعة الضعيفة.

ومجموعة الأمراض المرتبطة بـ البينيباسيلوس تشمل: أمراض الكلى المزمنة، وفقر الدم المنجلي، والولادة المبكرة، واستسقاء الدماغ، وسرطان الجلد، وسرطان الدم اللَّمفاوي الحاد، وغيرها. وهذه الأمراض لا تسببها هذه البكتيريا، ولكن يمكن لها أن تنتهز فرصة وجود مرض من هذه الأمراض أو أكثر لإحداث عدوى. هناك جانب سلبي آخر معروف للبكتيريا التي تنتمي لجنس الباينيباسيلس، وهو تسبّبُها في فساد الحليب ومنتجات الألبان الأخرى. حيث تمتاز أبواغها بقدرتها على النجاة في الظروف القاسية، بما في ذلك الحرارة العالية، والضغط، والمبيدات الحيوية، والأشعة فوق البنفسجية، مما يسمح لها بالبقاء حية بعد عملية البسترة، والبقاء في معدات المصانع. وبالتالي يمكن العثور على أعداد صغيرة من أبواغ البينيباسيلوس في كل من الحليب الخام والمبستر. تتضمن الباينيباسيلس عدداً من السلالات القادرة على تشكيل الأنماط (pattern-forming) خلال نموها على الأطباق المخبرية المخصصة لنمو البكتيري، مثل Paenibacillus vortex  و Paenibacillus dendritiformis بحيث تقوم بتطوير مستعمرات ذات فن معماري معقد.

خصائص واستخدامات مفيدة لــ "الباينيباسيلس"

يتضمن جنس الباينيباسيلس العديد من الأنواع المعروفة بقدرتها على تعزيز نمو النباتات بما في ذلك الذرة، واليقطين، والأرز، وغيرها. وتقوم بتحقيق ذلك من خلال عدة طرق من بينها إنتاج اندول حمض الخليك (IAA)، وبعض الهرمونات النباتية الأخرى. أو من خلال تثبيت النيتروجين، فالنيتروجين في الغلاف الجوي خامل نسبياً، ويستلزم تحويله للشكل الذي يمكِّن النباتات من الاستفادة منه. هناك أكثر من 20 نوع من الباينيباسيلس يمكنها تثبيت النيتروجين في جذور النباتات أو حولَها. وإلى جانب النيتروجين، يعد الفوسفور من العناصر المهمة لنمو وإنتاجية النباتات، وعلى الرغم من وفرته في التربة، إلا أنه لا يوجد منه سوى 0.1٪ قابلٍ للذوبان، والتي يمكن استهلاكُها من طرف جذور النباتات. وأما النسب المتبقية فتكون على شكل تجمعات معدنية غير قابلة للذوبان، أو مثبتة في المواد العضوية. وتمتاز العديد من أنواع الباينيباسيلس مثل P. polymyxa، P. macerans، و P. elgii بقدرتها على إذابة الفسفور وتحويله إلى شكل يمكن للجذور امتصاصه.

إضافة إلى ذلك، بعض أنواع الباينيباسيلس مثل  P. polymyxa، P. alvei،  P. elgii، و P. lentimorbus  لها القدرة على مكافحة أمراض النباتات، من خلال تحفيز المقاومة النظامية (ISR) وهي إحدى الآليات الدفاعية الكامنة في أنسجة النباتات، وتوفر لها الحماية ضد مجموعة مسببات الأمراض أو الآفات، وما يميز هذه المقاومة هو القوة والسرعة، من خلال فرط حساسية النبات للتهديدات المحتملة. كما وتبين أن بعض أنواع الباينيباسيلس قادرة على قتل يرقات حشرات الآفات، بما في ذلك الخنافس (beetles) وحرشفيات الأجنحة (lepidopterans). تقوم الباينيباسيلس بإنتاج أنزيمات الكيتيناز (Chitinase)، التي تعمل على تحليل الكايتين، وهو من السكريات المتعددة المكونة للهياكل الخارجية للحشرات وبطانات الأمعاء، مما يؤدي إلى انخفاض معدلات التغذية، وبالتالي موت الحشرات المصابة. وتعد Paenibacillus popilliae التي تصيب يرقات الخنفساء اليابانية، أول عامل مكافح حيوي مسجل ضد الحشرات في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن لم ينتشر استخدامها بصورة واسعة، ويعود السبب جزئياً إلى عدم القدرة على تنمية ذلك النوع في الأوساط الغذائية الصناعية.

ليست جميلة فحسب بل ومحاربة شرسة

تتنافس العديد من أنواع الباينيباسيلس مع الكائنات الحية الدقيقة الأخرى، من خلال إنتاج مجموعة واسعة من المركبات المضادة للميكروبات (antimicrobial compounds). وهذا يشير إلى أن سلالات الباينيباسيلس المختلفة، أو مركباتها المضادة للميكروبات المعزولة، قد تكون مفيدة في السيطرة على الكائنات الدقيقة المسببة لأمراض النباتات، مما يؤدي إلى انخفاض استخدام المبيدات الحيوية الكيميائية التي يمكن أن تكون لها آثار بيئية سلبية. وقد تكون تلك المركبات المضادة مفيدة أيضاً في السيطرة على البكتيريا التي تنتقل عن طريق الأغذية، مثل السالمونيلا، المسببة لأمراض للإنسان.

• أ.د. عبدالرؤوف علي المناعمة (دكتوراة في الأحياء الدقيقة، الجامعة الإسلامية في غزة)
• روان حسن ريده (ماجستير أحياء دقيقة، الجامعة الإسلامية في غزة)

البريد الإلكتروني للكاتب: elmanama_144@yahoo.com
البريد الإلكتروني للكاتبة: rawaaan10001@gmail.com