في فلسطين توحي الكثير من أسماء المدن والقرى الضاربة في القدم، مثل بير زيت وعين الزيتون ومعصرة وعصيرة الشمالية والجنوبية، إلى الارتباط الوثيق بين هذه الأرض المباركة وشجرة الزيتون. هذا الارتباط التاريخي يتجسد أيضا في المواقع القديمة المعروفة بالخرب مثل جفنا بالقرب من رام الله، والظاهرية ودورا في منطقة الخليل على آثار قديمة لمنشآت استخراج زيت الزيتون. ولئن كانت شجرة الزيتون رمزا للسلام في العالم بصورة عامة، فإنها بالنسبة لفلسطين، التي ترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي، تمثل رمزا لتجذر الفلسطيني في هذه الأرض كتجذر هذه الشجرة المباركة بتربتها منذ آلاف السنين.
منظمة المجتمع العلمي العربي
تنتشر الآثار المتعلقة بزراعة الزيتون واستخراج زيته في كامل المنطقة الجبلية الشمالية لفلسطين التاريخية، من عقرة إلى صفد، وتتركز بشكل خاص في قرية الرامة التي تعرف بمملكة الزيت. وفي المنطقة الوسطى، تنمو أغلب أشجار الزيتون في الأراضي التابعة للقرى الواقعة في جبال نابلس وبرية القدس والجبال المحيطة بالخليل، وتزدهر على ارتفاعات تصل إلى 1000 متر. وتزرع الأشجار بشكل واسع على مصاطب أو مدرجات في المناطق الجبلية، تعمل على الحفاظ على التربة خلال الأمطار الشتوية الغزيرة وتحميها خلال فترات الجفاف الطويلة والجفاف في صيف البحر الأبيض المتوسط. وتفضل أشجار الزيتون الفلسطينية التربة الصخرية الجيرية القاسية والظروف المناخية الموجودة في المناطق الجبلية الوسطى في فلسطين. وتطلق أسماء أنواع الزيتون في العديد من القرى، حسب نوع الحجر الذي تتكون منه الأرض. من ذلك زيتون الحواري الذي ينمو في المناطق المنسوبة إلى نوع الحجر المعروف بحوار.
ارتباط تاريخي وثيق
كان لشجرة الزيتون وزيتها، مكانة خاصة في الحضارات التي تعاقبت على مدى آلاف السنين على أرض فلسطين ومنطقة البحر الأبيض المتوسط حيث تقع أهم مناطق زراعة الزيتون في العالم. ولقد لعب الزيتون دورا رئيسيا في نشوء العديد من هذه الحضارات منذ الاستيطان البشري الأول في أريحا قبل 9000 سنة قبل الميلاد، باعتباره سلعة مهمة تمحورت حولها أهم الأنشطة الاقتصادية في مراحل تاريخية مختلفة، مما دفع إلى تسميته بنفط العصور القديمة، كما يقول المؤرخون.
تشير الأدلة الأثرية التي أوردتها الباحثة ميسون الشرقاوي في دراسة نشرت عام 2019، إلى أن إنتاج زيت الزيتون في فلسطين، بدأ في العصر الحجري الحديث (من 8300 إلى 4500 قبل الميلاد). وتوصف أشجار الزيتون الفلسطينية في النصوص التاريخية بكونها أشجار دائمة الخضرة تظهر دائما في مجموعات وتمثل علامة القرب من قرية أو دير. وقد استمر هذا الإنتاج حتى تمت مكننته من خلال إدخال تقنيات جديدة لاستخراج الزيت وازدهار الصناعات المشتقة منه في منتصف القرن التاسع عشر مما ساهم في تعزيز تنمية المنطقة وتسريعها.
يعود أول دليل على منشآت عصر الزيتون في المنطقة السورية الفلسطينية إلى العصر البرونزي ( من 3150 إلى 1200 قبل الميلاد). وأظهرت الدراسات التاريخية أن الأساليب التقليدية لإنتاج زيت الزيتون في فلسطين تحولت تحت النفوذ الآشوري (من 2500 إلى 605 قبل الميلاد)، إلى نظام صناعي يهدف إلى إمداد آشور بزيت الزيتون. وشكلت منطقة فلسطين التاريخية أكبر مركز صناعي لإنتاج زيت الزيتون في المنطقة يعود إلى العصر الحديدي في القرن السابع (من 1200 إلى586 ق.م.) في تل مقنَّع- عقرون، نسبةً إلى المدينة الرومانية التي بُنيت فيما بعد على أنقاض خربة المقنّع. ويشار في معظم القرى الفلسطينية إلى أشجار الزيتون المعمرة باسم زيتون الرومي، أي الزيتون الروماني للدلالة أن الشجرة قديمة جدا ومن المحتمل أن يعود تاريخها إلى العصور الغابرة.
بعد الفتح الإسلامي، وسع العرب مناطق زراعة الزيتون لتشمل المناطق الهامشية من فلسطين، وأصبح الفائض من زيت الزيتون يُصدر إلى الدول والمدن المجاورة، وعلى رأسها القاهرة، حيث كان يجري جمع زيت الزيتون من القرى، وإرساله إلى ميناء يافا، ومنه إلى مصر.
وتؤكد شهادات الرحالة والجغرافيين ازدهار زراعة الزيتون في فلسطين، كجزء من منطقة الشام. وقد سجل الجغرافي العربي ابن فقيه الهمداني في النصف الثاني من القرن التاسع، مدى اعتزاز أهلها بزيتونهم. ووصف المقدسي(ت: 990م )، المنطقة المحيطة بجبل نابلس عام 980م، بكونها تزخر بأشجار الزيتون وتتميز بإنتاج زيت الزيتون. ويذكر هذا الرحالة المولج في القدس، أنَّ أكثر الأشجار زراعة حول المسجد الأقصى أكبر المساجد على وجه الأرض حينها، هو الزيتون. وتكثر هذه الأشجار بصفةٍ خاصة في الساحاتِ الشرقية للمسجدِ الأقصى والتي تكاد تخلو من معالمَ كبيرة.وذكر الرحالة الخرساني ناصر خسرو الذي زار فلسطين عام 1047م أن زراعة الزيتون انتشرت على طول ساحل البحر حول عكا وعلى طول الطريق من قيصرية إلى الرملة. وكتب الدمشقي في عام 1300 أنه على الرغم من الأضرار التي ألحقها الصليبيون (1099-1291م)، فإن نابلس ظلت محاطة بأشجار الزيتون.
خلال الحكم العثماني (من 1517 إلى 1918 م)، كانت زراعة شجرة الزيتون تخصصا محليا لفلسطين كمقاطعة تابعة للدولة العثمانية والتي ركزت على الزراعة الأحادية لزراعة الزيتون. ولما كان زيت الزيتون محصولا تجاريا، فقد دأبت القرى الفلسطينية على دفع ضرائبها بزيت الزيتون. ومن أجل السيطرة على صناعة زيت الزيتون وزيادة الإنتاج، طبقت الإدارة العثمانية قوانين صارمة منعت الفلاحين من مغادرة قراهم والعيش في أماكن أخرى دون الحصول على إذن من المسؤولين المحليين.
للغذاء والدواء والإضاءة والتجميل استخدامات متعددة لزيت الزيتون
يُزرع الزيتون بصورة أساسية للحصول على زيته الذي كان يستخدم يوميا للإضاءة والاستهلاك الغذائي. كما كان يستخدم منذ القدم في التجميل والعناية بالجسم، وفي الطب الشعبي لعلاج العديد من الأمراض. إلى جانب ذلك جرى استخدامه لصناعة الصابون باعتباره المادة الخام الرئيسية في إنتاجه. وقد وصف الدمشقي منطقة جبل نابلس عام 1300م وذكر أن زيت زيتونها يُحمل إلى جميع أراضي مصر والشام وجزيرة العرب. ومن الزيت المنتج يُصنع في نابلس الصابون ذو النوعية الجيدة، ويصدر إلى جميع الأراضي، وإلى جزر البحر الأبيض المتوسط.
وكان زيت الزيتون يستخدم في إنارة المساكن والمساجد والكنائس. وفي القرن الثامن كان استهلاك زيت الزيتون في المسجد الأقصى يصل إلى 100 قسط في اليوم. يوقد هنا في كل ليلة ألف وخمسمائة قنديل، وفي قبة الصخرة ثلاثمائة قنديل كانت مضاءة. وجامع عكا الكبير كان يزوّده بالزيت الخاص به كما وصفه المقدسي. كما كان يُرسل إلى دمشق حيث يستخدم في إضاءة الجامع الأموي الكبير
أهمية اقتصادية ورمزية ثقافية
في فلسطين اليوم، تزرع أشجار الزيتون في الغالب لإنتاج الزيت الذي يعتبر محصولا زراعيا وتجاريا رئيسيا، تعول عليه العديد من الأسر في معيشتها. وتشير التقديرات إلى أن إنتاج الزيتون يمثل 57% من الأراضي المزروعة في الأراضي الفلسطينية، حيث بلغ عدد أشجار الزيتون المثمرة أكثر من 7.8 مليون شجرة في عام 2011، وتشير أرقام محدثة إلى أن هذا العدد فات 9 ملايين في السنوات الأخيرة. ويعتمد حوالي 100 ألف أسرة على الزيتون في دخلهم الأساسي. ويوجد العديد من أصناف الزيتون المحلية المهمة في فلسطين مثل السوري، والحواري والمحسن النبالي والبلدي النبالي والرومي، بعضها يزرع منذ آلاف السنين.
قد لا توجد شجرة في أي مكان من العالم تحمل نفس القدر من المعنى مثل شجرة الزيتون في فلسطين. وهي ليست مجرد شجرة مثمرة ودائمة الخضرة ومعمرة بل أكثر من ذلك بكثير، فإلى جانب كونها شجرة مقدسة مذكورة في الكتب السماوية الثلاثة، فإنها تحتل مكانة خاصة في الوعي الجماعي للفلسطينيين، وتحمل أهمية ثقافية فريدة تعادل، إن لم تكن تفوق، أهميتها في المجالين الزراعي والاقتصادي. وقد زودت السنوات الطويلة من مقاومة الفلسطينيين للاحتلال الإسرائيلي هذه الشجرة بوفرة من المعاني وجعلتها رمزا لصمودهم وتشبثهم بهذه الأرض المباركة.
المراجع
– INTRODUCING OLIVE CULTURE IN PALESTINE
– البيئة الفلسطينية « ضحية منسية » في مرمى جرائم الاحتلال
– EFFECT OF BIOCLIMATE FACTORS ON OLIVE (OLEA EUROPAEA L.) YIELD: TO INCREASE THE ECONOMY AND MAINTAINING FOOD SECURITY IN PALESTINE
تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com
يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة