صدرت في عام 1988 رواية بديعة للكاتب الأمريكي مايكل بليك حملت عنواناً جذاباً (الرقص مع الذئاب Dances with Wolfs)، و التي تحولت لفلم سينمائي مشهور حقق نجاحاً ملحوظاً لدرجة أنه حصد سبعة من جوائز الأوسكار. جزء من الحبكة الدرامية للرواية تدور حول مفارقة نشوء حالة النشوة و السعادة الداخلية مع أشياء و أمور في ظاهرة مجهولة و ربما تكون خطرة، كما حصل مع الجندي الأمريكي (بطل الرواية) الذي وقع في علاقة تألف و صداقة مع ذئب بري و مع أفراد قبيلة من الهنود الحمر.
في الواقع، حالة الارتباط و التعلق مع الأشياء (المجهولة) و (الخطرة) هي حالة معروفة و شائعة للعديد من الباحثين و العلماء في مجال الكيمياء حيث كثيراً ما يقعون في حب و هيام مواد و ظواهر كيميائية غالباً ما تكون (خطرة) و (مجهولة). و كما عبّر الجندي الأمريكي عن غبطته لكسر حاجز المجهول باللهو مع الذئب البري لدرجة أن أفراد القبيلة الهندية سمّوه (الراقص مع الذئاب)، نجد كذلك العديد من مشاهير العلم و التقنية يعبّرون عن بهجتهم و سعادتهم الغامرة بتوصلهم لاكتشاف علمي مميز بالرقص و الدبك في المختبر بصحبة و معية أنابيق و دوارق و أجهزة المختبر العلمي. و في الواقع، يبدوا أن العلماء عندما يعبرون عن سرورهم البالغ بتحقيق إنجاز علمي خالد إنما هم يتمثلون بصورة واقعية و حيّة قول الأديب الانجليزي جون راي (من يبتسم له الحظ يجيد الرقص).
من أطرف الأمثلة لحالة النشوة والحبور التي تصيب العلماء عند لحظة تحقيق اكتشاف علمي مميّز ما حصل مع الكيميائي الانجليزي الشهير همفري دافي Davy الذي توصّل في بدايات القرن التاسع عشر لمجموعة من الاكتشافات العلمية الجوهرية أثمرت اكتشافه لحوالي ثمانية من عناصر الجدول الدوري. أما التجربة الكبرى في حياته على حد وصف همفري نفسه كما خط ذلك في مذكراته، فقد كانت تجربة عزل و اكتشاف عنصر البوتاسيوم من مادة مصهور البوتاس بواسطة تفاعل التحلل الكهربائي electrolysis و عندما شاهد دافي حبيبات البوتاسيوم النقية تتكون و تشتعل بسبب ملامستها للرطوبة لم يستطع السيطرة على مشاعره و فرحته (كما يصف ذلك قريبة و مساعده السيد إدموند دافي ) حيث قام يرقص كالمجنون و يدور حول المعمل و هو في غاية الحبور، و لشدة ابتهاجه الانفعالي هذا احتاج لبعض الوقت و هو في قمة هذه النشوة قبل ان يتمالك نفسة و يعود ليكمل تجربته.
الغريب في الأمر أنه من شدة حماسة همفري دافي و بسبب الدافع المعنوي الكبير الذي شعر به استطاع ان يعزل عنصر الصوديوم بعد يومين فقط من اكتشاف عنصر البوتاسيوم حيث كما هو معلوم في الغالب يحتاج الباحث لعدة شهور و ربما سنوات أخرى لاكتشاف عنصر كيميائي جديد. الجدير بالذكر أنه كان لهمفري دافي حالات أخرى من الرقص في المختبر من شدة النشوة و لكن ليس بسبب الفرحة بنجاح التجارب الكيميائية هذه المرة و إن كانت حالة الابتهاج تلك سببها الكيمياء و تأثير بعض المواد الكيميائية. فكما هو مشهور في قصة حياته همفري دافي أنه بدأ مشواره العلمي في السنوات القليلة التي سبقت نهاية القرن الثامن عشر عن طريق دراسة أثر الغازات الكيميائية على جسم الإنسان، و لهذا كان دافي يستنشق بعض الغازات الكيميائية و التي كان منها غاز أكسيد النيتروز أو الغاز الضاحك، و كما يوحي الاسم الشائع لهذا الغاز، لذا لا غرابة أن نجد دافي يصف تأثيره علية بأنه يتسبب في جعله يرقص جذلاً و نشوة داخل المختبر.
وتقريباً في نفس الوقت الذي كان ذلك الكيميائي البريطاني همفري دافي يكتشف العناصر الكيميائية و يرقص مع دوارق و أنابيق مختبره، نجد أن معاصره و منافسه الشرس الكيميائي الفرنسي البارز جاي لو ساك Gay Lussac (الشهير بقانونه عن الغازات) ليس فقط يدخل في جدل و تنافس محموم مع همفري دافي حول أسبقية أيّ منهما في اكتشاف عناصر البوتاسيوم و الكلور و اليود، و لكنه أيضاً كان يشاطر همفري دافي في عادته الغريبة في الرقص في المختبر عند تحقيقه لأي إنجاز علمي مميز. ومن ذلك مثلاً، نجد أن جاي لوساك يقوم في عام 1822م مع تلميذه المعروف الكيميائي الألماني جوستوس ليبيغ Liebig (أبو تطوير تعليم الكيمياء الحديث) بالرقص سوياً في مختبر جاي لوساك كلما وفقا في إجراء تجربة كيميائية ناجحة، و يبدو أن عادة هذا الرقص الاحتفالي قد ورثها جاي لوساك من معلمه الكيميائي الفرنسي لويس ثينارد Thenard الذي كان يرقص مع تلميذه جاي لوساك كلما اكتشافا شيء ما ذا قيمة علمية.
رقصة التانجو مع الذرات
و قبل هذه الرقصات الكيميائية من مشاهير علم الكيمياء و التي تمت في بداية القرن التاسع عشر نجد العالم البريطاني المشهور جوزيف بريستلي Priestley مكتشف عنصر الأوكسجين يقوم عام 1774 بمحاولة التأكد من اكتشافه لعنصر الأوكسجين (الذي أكتشفه عبر تجربته الشهيرة بتسخين أحد مركبات الزئبق بأشعة عدسة مكبرة مما سبب تفكك ذلك المركب و بدء تصاعد غاز الأوكسجين منه). و لهذا قام بريستلي بتصميم تجربة إضافية لـتأكيد اكتشافه العلمي التاريخي من خلال قيامه بتسخين قطعة من الرصاص في الهواء لمدة من الزمن حتى تكون مسحوق أحمر. بعد ذلك قام بريستلي مرة أخرى بمعالجة هذا المسحوق الأحمر بنفس الطريقة التي عالج فيها المسحوق الأحمر للزئبق.
وهنا نجد بريستلي يرقص فرحاً و طرباً (dance with glee) عندما لاحظ مرة ثانية تصاعد غاز الأوكسجين من مسحوق الرصاص كما في مسحوق الزئبق و هذا يفسر أن عملية التكلس للمعادن سببها غاز الأوكسجين مما يؤكد اكتشاف بريستلي لهذا الغاز. مثال آخر للرقص طرباً و جذلاً عند تحقيق اكتشاف علمي تاريخي يمكن استشفافه من بطل قصتنا الجديدة و هو عالم الفيزياء النيوزلندي الأشهر إرنست رذرفورد Rutherford الحاصل علي جائزة نوبل في الكيمياء عام 1908 حيث نجده عندما كان يجري في عام 1909 تجربته الشهيرة في جامعة مانشيستر الانجليزية لتحديد تركيب الذرة بتسليط حزمة من أشعة ألفا على شريحة رقيقة من الذهب (حتى الآن يعتبر رذرفورد العالم الوحيد الذي توصل لأشهر اكتشافاته العلمية بعد حصوله علي جائزة نوبل)، لم تخلو قصته من رقصة علمية فريدة.
وكما هو معلوم من تفاصيل قصة هذا الاكتشاف العلمي الخالد استطاع رذرفورد من خلال رصده لأي انحراف (و لو بسيط) حاصل للأشعة ألفا أن يستشف و يتعرف على تركيب الذرة و من ثمّ وضع نموذجه الشهير لتركيب الذرة المكونة من نواة كثيفة موجبة الشحنة و الكترونات سالبة تدور حولها. يقال أن رذرفورد عندما لاحظ النتائج الأولية التي تثبت انحراف أشعة ألفا بعد تسليطها على الشريحة الرقيقة للذهب عرف أنه توصل لاكتشاف علمي باهر، و لذلك من شدة فرحه بنتائج هذه التجربة قام بأداء رقصة فلوكلورية تدعى هاكا haka تشتهر بها الشعوب الاصلية التي كانت تقطن نيوزلندا بلده الأصلي.
ولمعرفة سبب الفرحة الغامرة لرذرفورد عن نتائج هذه التجربة نذكر بمقولته الشهيرة التي تصف مقدار الدهشة لغرابة النتائج المتحصل عليها حيث قال: (لقد كان الأمر غريباً، تماماً كما لو أطلقت قذيفة مدفع من عيار 15 بوصة على ورقة رقيقة فلم تنفذ خلالها و إنما ارتدت إليك لتصيبك أنت). و بعد ذلك بعدة سنوات (و بالتحديد في عام 1932 ميلادية) و في تجربة علمية هامّة و لكن هذه المرة في مختبر كافنديش بجامعة كامبريدج عندما قام رذرفورد واثنين من تلاميذه (جون كوكروفت Cockroft وإرنست والتون Walton) و لأول مرة في التاريخ باستخدام أجهزة المسرعات accelerator لتحطيم نواة الذرة (و هو أمر صعب بشكل كبير مقارنة بتحطيم الذرة نفسها و لهذا حصل كلاً من كوكروفت و والتون على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1951)، و على كل حال نجد أن رذرفورد مرة أخرى يدفعه الجذل و البهجة بهذا الانجاز العلمي الباهر و لهذا قام بالمشي كمشية عسكرية و هو يصرخ محفزاً و حاثاً تلاميذه الموهوبين (إلى الأمام أيها الجنود).
الرقص مع الكلاب .. والعظام أيضاً !!!
بعد أن بدأنا هذا المقال بذكر حادثة الرقص مع الذئاب و بعد ذكر أداء الرقصات العلمية في المختبر لعلماء الكيمياء و الفيزياء، يجدر أن لا نغفل ذكر رقصة علماء الاحياء و التي نفذها بالنيابة عنهم العالم و الطبيب الروسي الشهير إيفان بافلوف Pavlov الذي لم يرقص مع الذئاب و إنما مع بني عمومتهم أي الكلاب. حدث ذلك عندما ظل بافلوف يكرر تجربته الشهيرة عن إجراء فتحة في معدة الكلاب حتى يراقب عملية الهضم في أجسام الكائنات الحية و كانت جميع تجاربه الأولية تلك تمُنى بالفشل. و لم تنجح إلا المحاولة رقم واحد و ثلاثين، و هنا طفق بافلوف يعبر عن فرحه و سروره العظيم بهذا الانجاز حيث بدأ كعادته بالرقص بمرح و حماسة داخل مختبره، و حق له ذلك، فبهذه النتائج و التجارب تأهل بافلوف للحصول على جائزة نوبل في الطب في عام 1904. و إذا ذكرت الكلاب تتبادر للذهن في العادة العظام و هذا يفتح مجال لتسطير و بيان أمثلة إضافية على فرح و رقص و(هيصة) العلماء و الباحثين عند لحظة الاكتشاف العلمي، نجد أن العالم الأمريكي دونالد جوهانسون Johanson الذي يعتبر من أشهر علماء الأحافير المعاصرين حيث تمكن في عام 1974 من اكتشاف الكائن الأحفوري الشهير المسمى لوسي Lucy و ذلك في صحراء عفار بأثيوبيا.
واكتشاف لوسي يعتبر من اللحظات المفصلية في تاريخ علم تطور الكائنات الرئيسية حيث يعتقد أنه كان بإمكانه المشي بشكل مستقيم، و بالرغم من أن هذا الكائن قد عاش قبل حوالي ثلاثة ملايين سنة إلا أن الغريب في الأمر أن حوالي أربعين في المئة من الهيكل العظمي لهذا الكائن تم اكتشافها في حالة سليمة بينما في حالات مشابهة لم يكتشف إلا أجزاء فقط من الجمجمة أو قطعة من عظمة الفخذ. و لهذا أصيب جوهانسون و مساعده توم جاري بذهول كبير عندما وجدوا القطع الصغير و المتناثرة لهيكل هذا الكائن. وبوصف دونالد لما حدث و حالة الفرحة العارمة التي اصابتهم نجده يسجل هذه اللحظة التاريخية لهذا الاكتشاف الأثري بقولة: (ذهبت الى مساعدي وبدأنا نقفز أعلى و أسفل .. حضنته و حضنني بالرغم من عرقنا و رائحتنا. كنا نصرخ و نتعانق فوق الحصى الملتهب يلفنا من كل الجهات الرفات البني لذلك الكائن الذي أصبحنا شبه متأكدين أنه يعود لإنسان بدائي. قلت له في النهاية: يجب أن نتوقف عن القفز فربما ندهس و نحطم بعض تلك العظام).
بقي أن نذكر بالحقيقة المتوصل لها بالاستقراء أن الغالبية العظمى من العلماء يغلب على سلوكهم الانضباط و السمت الحسن و السلوك المهذب و إن كان يند عنهم في حالة نادرة جداً لبعض التصرف الطائش بدافع من الابتهاج الغامر. و في هذا النسق نذكر قصة الكيميائي الالماني الشهير أدولف باير Adolf Baeyer الحاصل علي جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1905 و الذي يعتبر من عمالقة علماء الكيمياء في نهاية القرن التاسع عشر و قد اتسم دائماً بتحليه بالشخصية هادئة الطباع و اللبقة في التعامل مع الآخرين لدرجة أنه عندما ينجح في أداء بعض تجاربه الكيميائية يعبر عن حالة السرور والرحابة النفسية لاكتشافاته الكيميائية بأن يرفع قبعته تكريماً و احتراماً للجزيئات الكيميائية و المركبات العضوية التي نجح في تحضيرها. و لكن في المقابل قد يصاب بحالة من النشوة المعرفية الصارخة التي دفعته في أحدى المرات عندما تبين له صحة أحدى تجاربه الكيميائية بأن أخذ يجري ذهاباً وإياباً داخل مختبره العلمي مستعيضاً حالة الرقص مع الأنابيق بحالة السباق مع الدوارق و الاقماع.
وختاما نشير أنه إذا كان بعض العلماء و الباحثين و المكتشفين استخفتهم البهجة و الحبور عند الاكتشافات العلمية و تسببت في رقص و اهتزاز اطرافهم واجسامهم بينما نجد علماء و مكتشفين آخرين ترقص و تهتز كلماتهم بل و حتى نظراتهم و عيونهم. ومن أمثلة التراقص بالكلمات و العبارات عند لحظة الاكتشاف ما يذكر عن عالم الفلك الالماني يوهانس كبلر (الشهير بقوانينه الفلكية الثلاثة التي تصف حركة الكواكب حول الشمس) فنجده يصف بهجته عند التمكن من حل إحدى المعضلات الفلكية (أشعر أن الحماس يستخفني و ان نشوة لا توصف تتملكني إزاء المشهد الرائع لهذا التناسق السماوي). أما تراقص النظرات لحظة نشوة الاكتشاف العلمي فقد كانت من نصيب العالم الانجليزي الاسطورة مايكل فارداي و الذي عندما نجح في اثبات أن للتيار الكهربائي مجال مغناطيسي يؤثر على تحرك إبره البوصلة أو سلك من النحاس المعلق بواسطة خيط داخل كوب من الزئبق، وصل لدرجة النشوة العلمية القصوى بهذا الاكتشاف.
وكما يصف السيد جورج برنارد شقيق زوجة فارداي مجريات و أحداث ذلك الحدث العلمي التاريخي بقوله: لقد صاح فارداي فجأة عندما بدأ السلك بالدوران (هل ترى، هل ترى، هل ترى يا جورج) و يقول جورج برنارد معلقاً كذلك على هذه الحادثة (لن أنسى ما حييت السعادة التي غمرت وجهه ولا بريق عينيه).
البريد الالكتروني للكاتب : ahalgamdy@gmail.com