اُستخدمت أسلحة اليورانيوم المنضب المشعة لأول مرة في تاريخ الحروب الحديثة من قبل القوات المسلحة الأمريكية والبريطانية ضد العراق منذ حرب الخليج الأولى عام 1991. وقُدرت كميات المقذوفات التي تم استخدامها من 320 إلى 800 طن على القوات العراقية التي كانت تنسحب من الكويت إلى شمال مدينة البصرة ثم إلى الناصرية وبغداد.
أشارت الدكتورة روزالي بارتيل الاختصاصية في التلوث الإشعاعي، أن التلوث بهذه الأسلحة يتلخص بنقطتين مهمتين:
- فحال ارتطام هذه القذائف بالهدف تنفجر وتتشظى لآلافٍ من الشظايا المشعة، وتنتشر لمسافات تزيد على 100 متر حول كل هدف تم تدميره بهذه القذائف، وتبقى هذه الشظايا مصدراً دائما للتلوث الإشعاعي في تلك المنطقة.
- أما آلية التلوث الثانية والتي تعتبر أخطر من الأولى، فتنشأ بعد الانفجار الأولي، حيث يتولد حريق هائل بدرجات حرارة تصل إلى( 3000 – 6000) درجة مئوية، ويتحول حوالي 70% من حشوة القذيفة التي هي من اليورانيوم المنضب أيضا إلى أكاسيد اليورانيوم المتطايرة بفعل شدة الحرارة، لأن حجم دقائق هذه الأكاسيد أقل من 5 مايكرون لذلك تندفع كغازات إلى أعالي الجو لتنقلها الرياح لمسافات قد تزيد عن 26 ميلا بعيداً عن مصدر الهدف المدمر، مع العلم أن دقائق أكاسيد اليورانيوم المتناهية في الدقة قد تبقى عالقة بالجو لمدة غير قليلة ولا تترسب إلا بسقوط الأمطار أو بالتصاقها بدقائق الغبار الأكبر حجماً، مما يعرض السكان إلى مخاطر استنشاق هذه الأكاسيد المشعة أثناء وجودها في الجو. وفي حال ترسبها على سطح التربة والنباتات أو المباني فإنها تصبح مصدراً إشعاعياً إضافيا يزيد من جرعات التعرض الإشعاعي الذي يتعرض له السكان من الخلفية الطبيعية للمنطقة، ويزيد من مخاطر إصابتهم بالأمراض ذات العلاقة بالتلوث الإشعاعي.
وباستنشاق أكاسيد اليورانيوم مع الهواء ودخولها للحويصلات الرئوية للإنسان أو بقية الأحياء في المنطقة فإنها ستخترق أغشية هذه الحويصلات إلى مجرى الدم كون حجمها أصغر من 5 مايكرون، ومن مجرى الدم تنتقل لأعضاء الجسم الداخلية الأخرى مثل العظام والكبد والكلية الجهاز الهضمي وغيرها من الأعضاء. إن التأثيرات الإشعاعية والسمّية لليورانيوم المنضب داخل الجسم قد تظهر بعد ستة أشهر من استنشاق أو تناول أكاسيد اليورانيوم من خلال السلسلة الغذائية اعتمادا على قيمة الجرعة الإشعاعية. إن مليغراماً واحداً من(U-238) يطلق1,007,000 من جسيمات ألفا في اليوم الواحد ، وكل جسيمة ألفا تطلق 4 مليون إلكترون فولت (MeV) وفي حال استنشاق أو ابتلاع أكاسيد اليورانيوم فإن هذه الكمية من الطاقة ستؤثر على ما لا يقل عن ست من الخلايا المجاورة للعضو الذي استقرت فيه أكاسيد اليورانيوم. علماً أن (6-10) الكترون فولت (eV) من الطاقة تكفي لتفسخ نواة جدائل ال (دي أن أي) DNA في خلايا الإنسان.
بعد استنشاق اليورانيوم المنضب تقوم الجسيمات الدقيقة (نانو) باختراق غشاء الحويصلات الرئوية وصولاً إلى مجرى الدم، مما يفسح لها المجال بالدخول إلى الخلايا وتكوين شوارد حرة. وكمعدن ثقيل تؤثر قابليته السمية على بروتينات الخلايا التي من واجباتها مقاومة الشوارد الحرة، وبذلك تتولد شوارد حرة إضافية، تسبب إجهاد أكسدة كلي في جسم الإنسان، وهذا الإجهاد يؤدي إلى فشل في أنزيمات حماية الجسم وضعف الجهاز المناعي تاركا الخلايا عرضة للفايروسات والمسببات المرضية الأخرى، مع أضرار في أجهزة الاتصالات الخلوية أو المايتوكندريا.
وكمعدن ثقيل تقوم أيونات اليورانيوم المنضب بالتبادل الأيوني في جسم الإنسان مع المغنيسيوم في خلايا الأعضاء والتي تعمل كمضاد للأكسدة، مما يؤدي إلى تدمير قابلية الجسم على الإصلاح وتعويض الخلايا التالفة، ونتيجة لذلك يصاب الجسم بالأمراض المزمنة والأورام السرطانية. كذلك تقوم الشوارد الحرة المنتشرة في الخلايا باعتراض عملية تصنيع وطي بروتينات الجزيئات الخاصة بتكوين ال DNA، وهذه العملية تؤدي إلى الإصابة بأمراض خطيرة مثل التليف الكيسي وكذلك مرض السكري الكاذب وأنواع أخرى متعددة من الأمراض السرطانية. بعبارة أخرى فإن المناطق التي تلوثت باليورانيوم المنضب في العراق منذ عام 1991 ولم يتم تنظيفها أدت إلى تعرض السكان المستمر في تلك المناطق إلى جرع إشعاعية إضافية، سببت ارتفاعا ملحوظاً بعد عدة سنوات في نسبة الأمراض السرطانية وتشوهات الأجنة الخلقية والعقم والإجهاضات، ولا سيما في مناطق البصرة والزبير والناصرية وغيرها من المناطق الجنوبية.
إن استمرار وجود اليورانيوم المنضب في المناطق السكانية يعتبر مصدر تلوث إشعاعي مستمر حيث أنه يؤدي إلى تعرض السكان مع مرور الوقت لمزيد من الجرع الإشعاعية والسمّية من خلال المسالك البيئية المختلفة مثل الهواء فكلما هبت عواصف ترابية في المنطقة يستنشق السكان ويتعرضون لمزيد من الجرع الإشعاعية وكذلك من خلال السلسلة الغذائية والماء. مما يعني زيادة وتراكم للجرع الإشعاعية في جسم الإنسان وهذا بحد ذاته يمكن اعتباره بمثابة هجمات منهجية مستمرة على المدنيين في النزاعات المسلحة.
سيتم في هذه الدراسة استعراض الجهود العلمية الحقيقية للعلماء والباحثين العراقيين الذين حاولوا بشكل جدي إثبات وجود التلوث باليورانيوم المنضب وتحديد المناطق الملوثة في جنوب العراق مع تقدير الجرع الإشعاعية ومعاملات الخطورة المتوقعة لهذه المستويات من التعرض وعواقبها الصحية في الفترة (1991 – 2003) والتي فرضت خلالها على العراق عقوبات اقتصادية وثقافية وتكنولوجية وصحية الغرض منها عزل العالم عن ما يجري من اجحاف وتجويع وإبادة لأكبر عدد ممكن من السكان المدنيين في العراق بحجة اضعاف الامكانات العسكرية للدولة في العراق. علماً بأن معظم هذه الأبحاث لم تجد طريقها إلى المجلات العلمية العالمية والدوريات بسبب العقوبات الشاملة التي فرضت على العراق، واقتصر نشرها على المجلات العلمية المحكّمة للجامعات العراقية والتي كانت تطبع بأعداد قليلة ومحدودة بسبب الوضع الاقتصادي في تلك الفترة..
ولابد من الإشارة هنا بأننا ملزمون بأن نُعلم العالم أن بعض هذه البحوث كلفت بعض الباحثين العراقيين حياتهم، على سبيل المثال. د. عالم عبد الحميد يعقوب الذي قتل مع ابنه، عندما أجبرت شاحنة كبيرة سيارته على الخروج من الطريق السريع في طريقه إلى مسقط رأسه في البصرة بعد تعرضه لهجوم مرتين في بيته من قبل الميليشيات الموالية للاحتلال وتهديده بالقتل قبل أسبوعين من وفاته. وكلف الباحثين الآخرين حريتهم، مثل الدكتورة هدى عماش التي اتهمت بأنها (سيدة الأنثراكس) كذباً وظلماً وسجنت من قبل قوات الاحتلال الأمريكي دون توجيه أي اتهام حقيقي لمدة ثلاث سنوات لا لشيء إلا لأنها أنجزت بحثاً مهماً يربط الفحوصات المختبرية والسريرية بالأمراض التي ظهرت على القوات العراقية المنسحبة من الكويت والتي قصفت بأسلحة اليورانيوم المنضب بالتعرض الإشعاعي لهذه الأسلحة.
- الدراسة كاملة للقراءة والتحميل في ملف الـ PDF أعلى الصفحة
البريد الإلكتروني للكاتب: souad.al.azzawi@gmail.com