.
من سلسلة UGU إلى دليل التشخيص سَكِّكّو Sakikkû
بعد أن وقفنا في المقالات السابقة عند «موسوعة نينوى» لطبّ العيون (سلسلة IGI) وبنية الوصفة بين الوصف والعلاج والتعليل؛ يحسُن أن نُوسّع العدسة قليلًا: فالعَيْن في الطبّ الرَّافِدَيْنيّ ليست عضوًا معزولًا دائمًا، بل قد تظهر بوصفها عَرَضًا داخل أمراض أكبر، خصوصًا أمراض الرَّأس، أو بوصفها علامة تشخيصيّة تُقرأ ضمن «قواعد» أكثر صرامة في كتب التشخيص. لهذا ضمَّ كتاب غيلر وبانايُوتوف (BAM 10)، وهو كتابٌ مفتوح الوصول ــ فصلين يحرّران مقاطع تتعلّق بالعين من سلسلتين أوسع: UGU (أمراض الرَّأس) وسَكِّكّو (الدليل التشخيصي).
1) ما هي سلسلة UGU؟ ولماذا تهمّنا في سياق طبّ العيون؟
تذكر المراجعة الألمانيّة أنّ سلسلة UGU تضمّ إلى جانب مادّتها الأصليّة في أمراض الرَّأس، وصفاتٍ ضدّ علل العين، لكنّ أعراض العين فيها ليست هي (الموضوع الأوّل)، بل تأتي غالبًا بوصفها أعراضًا ثانوية ضمن مقاطع تعالج أمراض الرأس أساسًا. وهنا تكمن الدلالة: هذا (التداخل) يوحي بأن الطبيب البابليّ/الآشّوريّ كان يرى الجسم شبكةً مترابطة؛ فالرَّأس، بما فيه العين والأنف والأذن، حقلٌ واحدٌ كثيرًا ما تتقاطع فيه الأعراض.
ومن الناحية النصّية، يوضح الكتاب أن مادّة UGU التي يحرّرها هنا تعود إلى نينوى (القرن السابع ق.م) ضمن بيئة المكتبة الملكيّة، وهو ما يمنحنا وثيقةً حيّة عن طبّ القصر وطبّ المدارس.
2) من العلاج إلى التشخيص: لماذا نحتاج سَكِّكّو (Sakikkû)؟
إذا كانت نصوص IGI/UGU تعطيك “كيف نُعالِج”، فإن سَكِّكّو يقترب أكثر من سؤال: «كيف نُشخِّص؟». وتنبّه المراجعة إلى أنّ أوصاف أعراض العين في سَكِّكّو أدقّ وأكثر تفصيلًا من النصوص العلاجيّة، كما أنّها تستخدم مفردات مختلفة؛ ويُعزى ذلك إلى أنّ المجموعتين خرجتا من «دوائر علمية» مختلفة داخل الثقافة الرَّافِدَيْنيّة.
وبكلمات بسيطة: أمامنا مدرستان في الكتابة الطبية:
– مدرسة «العلاج والوصفة» (مختصرة، عملية، مباشرة).
– ومدرسة «العلامة والتشخيص» (أدق في رسم العَرَض، أشد تنظيمًا في التصنيف).
3) ماذا تكشف لنا مقاطع سَكِّكّو عن فهمٍ «سريريّ» مبكّر؟
من أجمل ما في مادّة سَكِّكّو أنّها لا تكتفي بالعين وحدها؛ بل تُدرجها ضمن حزمة أعراض قد تشمل التنفّس والأذن والدوار. ويُشير محقّقو الكتاب، في ملاحظاتهم على فصل «الأمارات التشخيصية الخاصة بالعيون»، إلى أمثلة من قبيل:
– محاولة ترميم عَرَض يتعلّق بالمنخر (الذي لا يدخل الهواء/الريح)، مع ملاحظة أنّ صلة الرئة بالتنفّس لا تُذكر بوضوح في بعض النصوص.
– تفسير فعل قد يدلّ على (صوت غير طبيعي في الأذن).
– والتنبيه إلى أن تعبير (العين التي تدور) قد يُقرأ اصطلاحًا بوصفه دلالة على الدُّوار، مع تعليقٍ طبيّ نقديّ أورَدته آني أتّيا حول طريقة فهم ذلك.
هذه اللمحات تُرينا طبًّا لا يكتفي بوصفٍ سطحيّ، بل يجرّب أن يربط العلامات ببعضها، وأن يميّز بين ما يُرى بالعين وما يُحسّ به المريض، وأن يفتّش عن «نمَط» وراء العرض.
4) كيف يخدمنا الجمع بين UGU وسَكِّكّو في قراءة الطبّ البابلي؟
عندما نضع النصّين جنبًا إلى جنب، يحدث شيءٌ مهمّ:
– UGU يقول لك: هذه العين قد تتألم لأن الرأس مريض، فتُدرج لها وصفة ضمن «ملفّ» الرأس.
– سَكِّكّو يقول لك: لا تكتفِ بذكر «ألم العين»، بل صف العلامة وصفًا دقيقًا، لأن وصف العلامة هو مفتاح الحكم.
ومن هنا نفهم لماذا أدرج الكتاب هذين الفصلين بعد تحقيق ألواح IGI: لأن تاريخ الطبّ لا يقوم على الوصفة وحدها، بل على طريقتين معًا: طريقة العلاج، وطريقة التشخيص.
خاتمة
إذا كان طبّ العيون في سلسلة IGI يريك «وصفة الطبيب» وهو يعمل، فإن UGU يريك «ملفّ الرأس» الذي تُدمَج فيه العين كعَرَضٍ ضمن سياقٍ أوسع، بينما يريك سَكِّكّو «عقل الطبيب» وهو يُحاول أن يُسمّي العلامة ويُصنّفها. ومن هنا تتضح قيمة هذا التراث: إنّه تاريخُ طبّ مكتوب لا يروي قصةً فقط، بل يترك لنا أدوات القراءة: علاجًا وتشخيصًا معًا.

Diagnostic Medical Omens (رقم المتحف: BM 121063) ضمن قسم اللوحات
المصدر:
Geller & Panayotov, Mesopotamian Eye Disease Texts: The Nineveh Treatise (De Gruyter, 2020), (Plate 42( Diagnostic Medical Omens, BM 121063. (Open Access) CC BY-NC-ND 4.0
للتعريف بالمرجع الأساس للسلسلة (BAM 10) وبمراجعة الكتاب، راجع هذه الورقة المرجعية
.
المراجع:
1- Markham J. Geller & Strahil V. Panayotov, Mesopotamian Eye Disease Texts: The Nineveh Treatise. )Die babylonisch-assyrische Medizin in Texten und Untersuchungen 10,( De Gruyter, 2020. Open Access (CC BY-NC-ND 4.0).
2- Marvin Schreiber, مراجعة علمية لكتاب: Geller & Panayotov 2020، في: Orientalistische Literaturzeitung 118(6) (2023): 378–391.
.
البريد الإلكتروني: mmr@arsco.org
من أمراض العين إلى أمراض الرأس
مدخل إلى الطب في بلاد الرافدين
الطب في حضارات بلاد الرافدين