.
في هذه السلسلة من المقالات نعيد قراءة تراث الطب في حضارات بلاد الرافدين، اعتمادًا على مصادره الأصيلة: الألواح المسماريّة وما صدر من تحقيقاتٍ أكاديميّة حديثة. وستُعالج المقالات محاورَ متخصصة (طبّ العيون، وأمراض البطن والباطنية، وغيرها)، مع شرح المصطلحات وبيان السياق العلمي والمؤسسي لتدوين المعرفة في تلك الحضارات. وتُعدّ النصوص الطبيّة المسماريّة، مخطوطاتٍ أصليّة لا نسخًا متأخرة، وهو ما يمنحها قيمةً فريدة لفهم تاريخ الطب. فهي تعتبر نصوص تقنيّة متراكمة عبر قرون، تُسجّل الأعراض والعلاجات وطرائق التحضير، وتُظهر كيف فُهِم المرض في بيئةٍ تتداخل فيها الملاحظة الحسّيّة مع التصوّر الكوني. والأهمية هنا مزدوجة:
1- تاريخ العلم: هذه النصوص من أقدم ما وصلنا من (مدونة طبيّة) مكتوبة.
2- تاريخ المجتمع: لأنها تكشف علاقة الجسد بالبيت والمدينة والدين والاقتصاد (الأدوية، المواد، التجارة، المهن).
كما تُظهر هذه الموسوعة الطبيّة «تقليدًا طويلًا» يمتدّ من شذرات مبكرة في الألف الثالث والثاني قبل الميلاد إلى النصوص الموسوعيّة في الألف الأول ق.م.
ونفتتح السلسلة هنا بطبّ العيون من خلال “سلسلة IGI” (رسالة نينوى لأمراض العين) المحفوظة ضمن ألواح مكتبة آشوربانيبال، مع إرفاق صورة مفتوحة الوصول من مصدرها وتوثيق ترخيصها.
تُطلق الدراسات الحديثة اسم “مكتبة آشوربانيبال”[i] على مجموعة الألواح المسماريّة المكتشفة في خرائب نينوى (كويونجك قرب الموصل). وقد عُثر فيها على أكثر من 30 ألف لوح وشظية، ويُحفظ نحو 30 ألفًا منها اليوم في المتحف البريطاني (لندن)، مع عرض نماذج مختارة ضمن قاعة الشرق الأدنى (Room 55).

صورة لوح طبي من نينوى
Plate 1: IGI Tablet I – Manuscript NA (BAM 510)
مصدر الصورة: Source: Geller & Panayotov 2020، Mesopotamian Eye Disease Texts، PDF ص. 417 (ضمن ترخيص CC BY‑NC‑ND 4.0).
1- مقدمة: الإطار التاريخي والعلمي
يُعَدّ الطبّ في حضارات بلاد الرافدين (سومر، بابل، آشور) من أقدم النظم المعرفيّة المدوّنة في التاريخ الإنساني. فقد ترك الأطباء والكَتَبة آلاف الألواح المسماريّة التي تتناول تشخيص الأمراض ووصف العلاجات والعقاقير، ما يجعل هذا التراث أقدم تجسيدٍ لما يمكن تسميته اليوم «الطب التجريبي الموثَّق». ومن بين فروع الطبّ تلك، تبرز العيون بوصفها أحد أهم مجالات الملاحظة والتجريب في الطب الرافديني، إذ ترد أوصافُ أمراضها وعلاجاتها في عشرات النصوص، أبرزها سلسلة IGI المكتشفة في مكتبة آشوربانيبال بنينوى في القرن السابع قبل الميلاد.
تشكّل هذه النصوص “كما يوضح كلٌّ من ماركهام غيلر وستراهيل بانايطوف (2020)” أقدم مجموعة طبيّة متخصّصة في أمراض العين، وقد كُتبت بأسلوب منظم يجمع بين الوصف السريري والعلاج الدوائي والتعويذة العِلّية (من علّة أي سبب)، مما يكشف عن منهجٍ علميٍّ مبكر في التعامل مع المرض.
2- البيئة العلمية في بلاد الرافدين
تميّزت بلاد الرافدين ببنية معرفيّة مؤسسيّة سبقت العصور الكلاسيكيّة بزمن طويل. فقد ضمّت المدن الكبرى – مثل نيبور وأور وبابل ونينوى – معابد ومكتبات تُعنى بتعليم الكَتَبة ونسخ النصوص العلميّة. وفي مقدمتها مكتبة آشوربانيبال التي حُفظت فيها أوسع مجموعة من النصوص الطبيّة والفلكيّة والرياضيّة في العالم القديم.
لقد كانت الممارسة الطبيّة تُدار عبر نظام مزدوج يقوم على تعاون الطبيب (asû؛ ويقارب نطقه: آسو)، والمعالج الشعائري/ الرقّاء (āšipu؛ ويقارب نطقه: آشيبو)، والمعزِّم/الطارد (mašmaššu؛ ويقارب نطقه: ماشماشّو).
الطبيب هو المسؤول عن التشخيص ووصف الأدوية والعلاجات الماديّة. أما المعالج الشعائري فكان يتولى الجانب الرمزي أو الطقسي، من خلال تعاويذ ودعوات تهدف إلى إسناد العلاج بسلامة روحيّة. غير أنّ النصوص العلاجيّة في نينوى، وخاصة في سلسلة IGI، تُظهر غلبة الجانب السريري التجريبي على الجانب الطقسي، مما يجعلها وثيقةً انتقاليّة نحو الطب العقلاني القائم على الملاحظة.
3- النصوص الطبيّة بوصفها علماً منظَّماً
يُقسّم الباحثون اليوم التراثَ الطبي الرافديني إلى ثلاث مجموعات رئيسة:
– النصوص التشخيصيّة (Sakikkû): تُعنى بملاحظة الأعراض وربطها بالأسباب المحتملة.
– النصوص العلاجية (Bīt Mēseri): تتضمن وصفات دوائية ووسائل علاجيّة عمليّة.
– النصوص الشعائريّة أو التفسيريّة (Udug-hul, ÉN-series): تشرح العوامل الروحيّة أو الكونيّة المسببة للمرض.
وتتفرع عن هذه المجموعات نصوصٌ متخصّصة، من أهمها:
1- سلسلة IGI (العين) – موضوع هذا المقال.
2- سلسلة UGU (الرأس).
3- سلسلة ŠÀ (القلب والبطن).
ويبدو من ترتيب هذه النصوص أن البابليين سعوا إلى إنشاء موسوعة طبيّة مرتَّبة حسب أعضاء الجسم، وهو ما يُسمّى حديثًا (موسوعة نينوى الطبيّة) أو الموسوعة الطبيّة النينويّة.
4- الطب الرافديني ومنهجه العلمي
تكشف نصوص IGI وغيرها عن سماتٍ واضحة للمنهج العلمي في الطب البابلي – الآشوري:
– الملاحظة الدقيقة للأعراض والعلامات الظاهرة.
– التجريب وتكرار الوصفة في حالاتٍ مشابهة.
– القياس الكمي للمواد بالشكل والمكاييل، ما يدلّ على حسٍّ مخبريٍّ متقدّم.
– التمييز بين السبب والمظهر، وهو ما يظهر في مصطلحات مثل «يد الإله» أو «يد الروح»، التي فُسّرت لاحقًا كمجازٍ سريريٍّ عن “المتلازمة المرضية”.
– تدوين النتائج في صيغة متكررة تسهّل الاستعمال، بما يشبه النمط المنهجي الذي اعتمدته المدارس الطبيّة اليونانيّة بعد قرون.
يصف غيلر هذا النظام بأنه أول شكلٍ من أشكال الطب النصّي المنهجي، حيث تتداخل الملاحظة العلميّة بالتفسير الفلسفي دون تعارضٍ بين التجربة والإيمان.
5- من الأرشفة إلى التدوين الموسوعي
أدّت وفرة النصوص الطبيّة في مكتبة آشوربانيبال إلى ما يمكن اعتباره نقلة من الطب الممارس إلى الطب المدوَّن. فالألواح ليست وصفات فردية فحسب، بل تُظهر تنظيمًا إداريًا للنصوص حسب الجهاز العضوي (العين، الرأس، البطن…)، ما يوحي بوجود عملية «تحرير» وتبويب لاحق، أشبه بما سيفعله أطباء الإسكندرية وبغداد وقرطبة في عصورٍ لاحقة.
هذا التبويب يعكس وعيًا علميًا مبكرًا بـ:
– أهمية تجميع المعرفة وتصنيفها.
– اعتماد اللغة الأكّدية بوصفها وسيلةً معياريّة لتدوين المصطلحات.
– التعامل مع الطب كمجالٍ معرفي مستقلّ يمكن نقله وتعليمه.
الخلاصة
يمثّل الإطار العلمي في بلاد الرافدين المرحلة التأسيسية الأولى في تاريخ الفكر الطبي العالمي. فالنصوص المسماريّة التي تناولت أمراض العين وسائر الأعضاء تكشف عن نظامٍ معرفيٍّ متكاملٍ سبق الطبّ الهلنستي والمصري، ووفّر الأساس الذي ستبني عليه الحضارة الإسلامية لاحقًا مفهوم الطب التجريبي. ومن هنا تأتي أهمية سلسلة IGI التي نعرضها في المقالات التالية من هذه السلسلة، باعتبارها النموذج الأكثر اكتمالًا لهذا الفكر العلمي القديم في منطقتنا العربية.
البريد الإلكتروني: mmr@arsco.org
.
للتعريف بالمرجع الأساس للسلسلة (BAM 10) وبمراجعة الكتاب، راجع هذه الورقة المرجعية
_______________________________________
[i] تُطلق الدراسات الحديثة اسم “مكتبة آشوربانيبال” على مجموعة الألواح المسماريّة المكتشفة في خرائب نينوى (كويونجك قرب الموصل). وقد عُثر فيها على أكثر من 30 ألف لوح وشظية، ويُحفظ نحو 30 ألفًا منها اليوم في المتحف البريطاني (لندن)، مع عرض نماذج مختارة ضمن قاعة الشرق الأدنى (Room 55).