.
في القرن العشرين كان الصراع بين الدول يدور حول الأرض والنفط والحدود. أما اليوم فقد أصبحت البيانات هي الثروة الجديدة، والمعلومة هي مركز القوة. ومع تطور علم الجينوم، وانتقال الشفرة الوراثية من المعامل إلى قواعد بيانات عالمية، دخل العالم مرحلة جديدة من المنافسة: مرحلة الأمن الجيني. فالبيانات الوراثية لم تعد مجرد معلومات مخبرية تُستخدم في البحث العلمي أو تشخيص الأمراض، بل أصبحت موردًا استراتيجيًا يمكن أن يُستغل لحماية الشعوب أو للسيطرة عليها.
لقد دخلت البشرية عصرًا يمكن فيه قراءة الإنسان من داخله، وتحديد نقاط ضعفه الصحية وميوله واستجاباته، وكذلك قابليته للإصابة بأمراض معينة. ومن هنا يبرز السؤال الحاسم: من يملك حق الوصول إلى هذه الشفرة؟ ومن يملك القدرة على استخدامها؟ ومن يحميها من التسرب أو السرقة أو التلاعب؟
الجينوم… بصمة أعمق من بصمة الإصبع
في الماضي كانت البصمة التقليدية وسيلة للتعرف على الهوية. أما اليوم فقد أصبحت البصمة الوراثية أكثر دقة وعمقًا، إذ يكشف الجينوم عن هوية الشخص وسلالته وأصله الجغرافي واستعداده الوراثي للأمراض وقدرته على الاستجابة لأنواع معينة من الأدوية وسماته المناعية والأيضية. وإذا جُمعت هذه البيانات على مستوى السكان، أصبح بالإمكان رسم صورة وراثية لشعب بأكمله، تتضح فيها نقاط قوته وضعفه البيولوجية. وهنا تكمن الخطورة.
من التعاون العلمي إلى التجسس البيولوجي
تقوم بعض الدول والمؤسسات والشركات بجمع بيانات جينية تحت مظلة البحث العلمي أو برامج الكشف المبكر أو التحاليل المجانية أو الاختبارات التجارية مثل تحديد السلالة والأصل. لكن في كثير من الأحيان تُنقل هذه البيانات إلى شركات دواء عملاقة أو معاهد أبحاث خاصة أو مخازن بيانات خارج الحدود أو منصّات يستخدمها مستثمرون أو جهات استخباراتية. ويمكن استغلال هذه البيانات في تصميم أدوية موجّهة لسكان محددين، أو معرفة الاستعدادات المرضية العامة لشعب ما، أو تطوير أدوات بيولوجية موجهة، وهو ما يحمل مخاطر علمية وأمنية واسعة تتجاوز حدود البحث العلمي لتصل إلى استخدامات ذات طابع سياسي أو اقتصادي أو حتى عدائي.
لم يعد التجسس البيولوجي يهدف إلى سرقة أسرار الصناعات الدوائية فقط، بل أصبح جزءًا من منظومة الأمن القومي للدول وهويتها الوراثية.
مخاطر فقدان السيطرة على البيانات الجينية
إذا خرجت البيانات الوراثية من نطاق الدولة وفُقد التحكم في تداولها، يمكن أن تحدث سيناريوهات خطيرة، مثل استغلال نقاط الضعف المناعية لدى شعب ما، أو التأثير في توجيه الأدوية والأسواق الصحية، أو التحكم في برامج التغذية والزراعة والدواء، أو استخدام البيانات لتصميم عوامل بيولوجية موجهة. إن الجينوم ليس ملفًا طبيًا عاديًا، بل يمثل مستقبل أمة بأكملها.
نحو مفهوم الأمن الجيني الوطني
الأمن الجيني يعني حماية الشفرة الوراثية للأفراد والتركيب الوراثي للمجتمع والمخزون الوراثي للنباتات والحيوانات المحلية. وتحتاج الدول إلى بناء منظومات تشريعية وتقنية تحافظ على هذه الثروة الحيوية عبر إنشاء بنوك جينات وطنية محمية، وسن قوانين تمنع نقل العينات الوراثية خارج البلاد دون إذن، ومراقبة شركات التحليل الجيني، وبناء قدرات حوسبية محلية لاستضافة قواعد بيانات الجينوم، وتأهيل خبراء في الأمن البيولوجي والوراثي، ودمج الأمن الجيني ضمن استراتيجيات الأمن القومي. فالجينوم يجب أن يصبح سيادة وطنية.
الأمن الجيني لا يقتصر على الإنسان
لا يتعلق الأمر بالإنسان وحده؛ فالنباتات المحلية والحيوانات الأصيلة تحمل موارد وراثية لا تُقدر بثمن. فقدان بذرة مقاومة للجفاف أو سلالة حيوانية نادرة قد يعني خسارة القدرة على الزراعة في أوقات الأزمات أو إنتاج الغذاء محليًا أو الصمود أمام تغير المناخ. وهكذا تصبح بنوك الجينات ليست مجرد مخازن، بل صروحًا لحماية الأمن الوطني.
بين الخصوصية الفردية والسيادة الوطنية
هناك توتر دائم بين حق الفرد في الخصوصية الوراثية وحق الدولة في حماية الأمن الجيني القومي. ولا يكمن الحل في التضييق أو الإهمال، بل في تنظيم جمع البيانات، وتشفير تخزينها، ووضع سياسات واضحة للوصول إليها، وضمان الشفافية العلمية والأخلاقية. فالأمن الجيني لا يتحقق بالقوة، بل بالحوكمة والوعي والمسؤولية.
الخلاصة
لقد دخل العالم عصرًا جديدًا يمكن فيه قراءة الإنسان كما تُقرأ المعادلات، وتحليل الشعوب كما تُحلل البيانات. وفي هذا العصر تصبح الشفرة الوراثية موردًا ينبغي حمايته مثل حماية الحدود والموارد الطبيعية. فامتلاك الجينوم يعني امتلاك الصحة والزراعة والغذاء والتنمية والسيادة. ومن ثم فإن الأمن الجيني ليس ترفًا علميًا، بل ضرورة وجودية لمستقبل الأمم.
.
1. Genomic sovereignty and global health. Imperial College London.
2. Routes for breaching and protecting genetic privacy.
3. Genetic resources and climate resilience. FAO Publishing.
4. The state of the world’s plant genetic resources for food and agriculture.
5. Public views on the use and sharing of genetic information
.
البريد الإلكتروني للكاتب: k.z.ahmed@minia.edu.eg
دكتور قاسم زكي أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة، جامعة المنيا؛ ورئيس اللجنة الوطنية للعلوم الوراثية بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، والرئيس الأسبق للجمعية العلمية الأفريقية لعلوم المحاصيل، واحد مؤسسي المجلس العالمي للنبات (GPC)؛ عضو اتحاد كتاب مصر، وعضو اتحاد الأثريين المصريين.