مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

كيف يغيّر العلاج الجيني وجه الطب

أمل العلاج الجيني للأمراض النادرة
الكاتب

د. سمير عبد الحميد

أستاذ مشارك في معهد التقنيات الحيوية - مصر

الوقت

10:03 صباحًا

تاريخ النشر

03, نوفمبر 2025

.

منذ أن توصّل العلماء إلى أن البكتيريا تمتلك نظامًا جزيئيًا داخليًا لمحاربة الفيروسات، انفتح أمام البشرية بابٌ واسعٌ نحو فكرة تحرير الجينات كأداة للتغيير الجذري. هذا الاكتشاف أطلق شرارة تقنية التحرير الجيني الحديثة، التي تتصدّر اليوم طليعة الطب الحيوي، وتزرع في نفوس المرضى والمختصّين أملًا عميقًا بأن يقف يومٌ ما الوراثةُ نفسها حاجزًا أمام المرض وليس سببًا له.

في جوهرها، تقوم استراتيجية العلاج الجيني على إدخال تعديل وراثي ضمن خلايا المريض، إما بتصحيح جين معيَّب أو بإدخال نسخة صحيحة تعوّض النقص. ومع ظهور أنظمة أكثر دقة مثل CRISPR-Cas9 وغيرها، أصبح بوسع الأطباء توجيه التعديل إلى موقع محدّد ضمن الحمض النووي، ومن ثمّ يباشر الخلايا بآليات الإصلاح الطبيعية في نفوذها لتثبيت التغيير. البساطة النسبية لهذا الأسلوب مقارنة بأساليب التحرير السابقة، مثل ZFNs أو TALEN، جعلته أسرع وأرخص وأكثر فعالية، وفتح المجال أمام علاجات لم تكن أكثر من حلم حتى بضع سنوات قليلة.

ولإبراز هذا التأثير في الواقع، أُشير إلى مراجعة حديثة نُشرت في عام 2025 تحمل عنوان «Current perspectives on gene therapy and its involvement in curing genetic disorders»، والتي تُعدّ من أحدث الأعمال البحثية في المجال. هذه المراجعة توضح كيف أن تقنيات التحرير الجيني دخلت في تجارب سريرية نشطة، مستهدفةً أمراضًا وراثية نادرة كانت حتى الأمس القريب تُعتبر غير قابلة للعلاج.

إن المرضى الذين يعانون من طفرات جينية وحيدة يمكن أن تصل تجاربهم إلى نقطة فاصلة بفضل هذا التقدم. فعلى سبيل المثال، بدأ الطب يعالج أمراضًا كانت تُعرَّف بأنّها «يتيمة» أو نادرة جدًا، حيث إن تكلفة تطوير العقار لكل مريض كانت تفوق الأموال التي يجلبها السوق عادةً. لكن بفضل تصميم ناقلات جينية أجريت لتصل إلى الأنسجة المعنية، والتقنيات الصاعدة في التغليف والتصوير الجزيئي، بدأ الأمل يتجلّى. وفي هذا إطار، مراجعة أخرى نُشرت في 2024 تشير إلى أن استخدام ناقلات AAV وتقنيات mRNA أصبح خيارًا واعدًا لعلاج العلل الوراثية ذات الأصل الأحادي.

لكن لماذا تُعدّ هذه الثورة حقيقية؟ لأنّها لا تقتصر على تخفيف الأعراض فقط، بل على معالجة السبب الجذري: الجين نفسه. عندما يُعاد تصنيع أو تصحيح الجين المعيب، تنخفض الحاجة إلى الأدوية مدى الحياة، وتزداد فرص حصول مريضٍ ما على «علاج واحد» يبقى في الأنسجة أو يبدأ سلسلة شفاء متواصلة. إننا أمام تحول ليس في «ما نقول» أو “ما نفعل”، بل في بنية العلاج نفسها.

غير أن الطريق ليس مفتوحًا بلا عقبات. تبقى قضية “الآثار غير المقصودة” (off-target effects) مصدر قلق مستمر. قد يؤدي توجيهنا لتعديل جيني إلى تغييرات في مواقع أخرى من الجينوم، ربما لا نعرف بالكامل نتائجها بعد. فضلاً عن ذلك، هناك التحديات التقنية في إيصال الناقلات الجينية إلى الموقع الصحيح داخل الجسم، وضمان أن العضو المستهدف فقط يتلقى التعديل دون أن تصل إلى أعضاء أخرى غير مرغوبة. مستعرضةً هذا الواقع، مقالة حديثة أكدت أن الاعتماد على الموافقة السريعة للتجارب الجينية أصبح نهجًا متداولًا، لكنّ ذلك يثير أسئلة حول السلامة طويلة المدى، والتقييم الكامل للآثار الجانبية.

من منظورٍ إنساني، تبدو العوائق أكبر من التقنية أو التمويل: فهي تشمل المسائل الأخلاقية، وقابلية الوصول، وتوزيع العلاج بعد أن يصبح مُتاحًا. ففي حين قد يُقدّم علاجٌ شخصيًا لمريضٍ واحد، يبقى السؤال: ماذا عن مَن يعاني في بلدانٍ ذات بنى تحتية ضعيفة؟ كيف نضمن أن «ثورة» العلاج الجيني لا تصبح امتيازًا لعدد قليلٍ مميّز؟ هذا ما تجعلنا نتذكّر أن مهمة الطب ليست مجرد إنجازات تقنية، بل هي رحمةٌ وعدالة.

وعندما ننظر إلى المستقبل، يمكننا تخيّل محاولات تحرير جيني تجري في بيئات الزراعة: محاصيل تُعدل جينيًّا لتحمّل الجفاف أو تقاوم الآفات بطريقة طبيعية، بلا إدخال جينات أجنبية ما يُعرف بالتعديل الدقيق. لكن أيضاً، في الطب البشري، قد نرى تحولات أكبر: أعصابٌ صَلُبَت لدى مريض مشلول تعود للحركة، أو خلايا جذعية مُعدّلة تضيف وظيفةً إلى كبدٍ متدني الأداء، أو علاجٌ جينيٌّ يُقدّم لجنينٍ داخل الرحم.

في نهاية المطاف، ما يغيّر قواعد اللعبة ليس الأداة وحدها، بل روح الإنسان التي تنقل التقنية إلى معنى. إنّ العلاج الجيني ليس مجرّد بحثٍ مختبريّ، بل هو وعدٌ بأن يُصبح المرض الوراثي جزءًا من الماضي، وأن يتحول الضعف إلى قوة، والشوق إلى أداء، والألم إلى بصمة شفاء. في عالمٍ تتنازعه الأمراض والمحدودية، يُعدّ هذا التقدم رسالة أمل لكلّ إنسانٍ ينتظر أن يُكتب له فصلٌ جديدٌ من الحياة.

.

المصادر

Current perspectives on gene therapy and its involvement in curing
https://link.springer.com/article/10.1007/s00439-025-02757-7

Advances in Gene Therapy for Rare Diseases: Targeting Functional “MDPI”
https://www.mdpi.com/1422-0067/26/2/578

Accelerated Approval as the New “Norm” in Gene Therapy for Rare Diseases
https://globalforum.diaglobal.org/issue/may-2025/accelerated-approval-as-the-new-norm-in-gene-therapy-for-rare-diseases

.

تواصل مع الكاتب: drsamirabdulhamid@gmail.com

تحرير الجينات وثورة الطب والزراعة

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x