مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

فيزياء الإيمان

الكاتب

المحرر

منظمة المجتمع العلمي العربي

الوقت

09:19 صباحًا

تاريخ النشر

03, نوفمبر 2025

.

كلمة ألقاها الدكتور رائد سليمان أستاذ الفيزياء الفلكية في مركز هارفارد سميثسونيان للفيزياء الفلكية (سي اف ايه)، في حفل افتتاح المدرسة العربية الخامسة المتقدمة في الفيزياء الفلكية والتي نُظمت في مرصد القطاميّة الفلكيّ بمصر في الفترة من 17 إلى 23 أكتوبر 2025.

.

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

السادةَ الحضور، الضيوف الكرام، أبنائي وبناتي الطلبةَ الأعزاء،

السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته.

يسرّني أن أعبّر عن بالغ شكري وتقديري للدكتورة هادية وللّجنة المحليّة.

عندما نتأمّل المشهدَ العالميّ اليوم نجد أنفسنا أمام تحدّيات متشابكة ومعقّدة: اضطرابات سياسية واقتصادية حادّة، وانقسامات اجتماعيّة مقلقة. وغالبًا ما تدفعُنا طبيعتُنا البشرية إلى البحث عن «الحلّ الكبير» الذي يُصلحُ كلّ شيء دفعةً واحدة: ما التغييرُ الجذريُّ الذي سيُنقذُنا؟ وأيُّ جهةٍ ستتولّى هذا الإصلاح؟ لكنّ الإجابة الأعمق تبدأ من زاويةٍ أخرى:

من الإنسان نفسه، من الفرد الذي يُشكّل حجرَ الأساس في بناء أيّ مجتمع قويّ ومتوازن.

إنّ القوّة الحقيقيّة للأمم لا تُستمدّ من القِمم، بل من الجذور؛ من التزام كلّ فرد بأن يكون أفضل وأكثر كفاءة وعطاء. فالمجتمعُ المتماسك هو حاصلُ جمع طاقات أفراده، لا قرارات مؤسّساته فحسب.

ارفعوا أبصارَكم إلى السماء؛ كلُّ نجم وكوكب ومجرة يخضع لقوانين دقيقة أودعها الخالقُ العظيم سبحانه، وهي التي نسمّيها «الفيزياء». والذرّات التي تُكوّن أجسادنا خُلِقت في قلب نجوم عظيمة احتضرت منذ مليارات السنين. نحن، حرفيًّا، غبار نجوم صنعه الله بقدرته. فإذا كان الله جلّ وعلا قد سخّر هذا الكون الهائل ليخلقك أنت، فماذا ستصنعُ أنت بما أودع فيك من طاقة وعقل وإمكان؟

إنّ أعظمَ مجهولٍ في هذا الوجود ليس أسرار الكون البعيدة، بل: ماذا ستفعل بالإمكانات اللامحدودة التي أودعها الله في عقلك؟ إن القوانين الأساسيّة للكون لا تحكم حركة الكواكب فحسب، بل تحكم كذلك سنن السعي والجهد في حياتنا.

ولإطلاق العنان لإمكاناتنا، نحتاج إلى زخم مستمدٍّ من اليقين. ولعلّ قوانينَ الفيزياء نفسها تحمل دروسًا بليغة لحياتنا:

القانون الأوّل (القصور الذاتيّ)

«يبقى الجسم الساكن ساكنًا، والمتحرّك متحرّكًا ما لم تؤثّر فيه قوّةٌ خارجيّة».

هذا القصور الذاتيّ هو ما نشعر به كلّما واجهنا صعوبة خطوة البداية، مقاومة النهوض للفجر، فتح الكتاب، البدء في مشروع يبدو عسيرًا. تحتاج تلك «القوّة الخارجية» التي تحركك، وليست أحدًا سواك: قرارك أنت بالتحرك، بالبدء والسعي. وما إن تبدأ الحركةَ وتبني الزخمَ حتى يغدو الاستمرارُ أيسر.

القانون الثاني: (القوة والتسارع)

القوة =الكتلة´التسارع (العجلة)، أي أنّ التقدّمَ (التسارع) لا يكون إلا بقوّةٍ تُبذَل، وكلما عظم التحدي (كتلةً) احتاجُ قوّةً أكبر (جهدًا أعمق)، وأنّ التحديات الكبرى تحتاجُ إلى جهودٍ أعظم. قال الله تعالى:

﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ﴾ [النجم: 39–40].

خُذْ بالأسباب، وأحسِنْ توجيهَ الجهد واتّساقَه، ثم توكّل على الله، فكلّ جهد مخلص تُقدّمه يُثمر أثرًا بإذن الله.

القانون الثالث (الفعل وردّ الفعل)

«لكلّ فعلٍ ردّ فعلٍ مساوٍ له في المقدار ومعاكسٌ في الاتجاه»

كلّ عملٍ صادقٍ تؤدّيه(فعل) سيعود عليك بأثرٍ طيّبٍ في الدنيا والآخرة (رد فعل).

قال النبي ﷺ: «لو أنكم تتوكّلون على الله حق توكّله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خِماصًا وتروح بطانًا».

فالتوكّل ليس تواكلًا، بل سعيٌ واعٍ يتبعه رزقٌ من الله، فالطير تغدو (تقوم بفعل) ثم تأتي بالرزق (رد الفعل).

هذا ما أسمّيه «فيزياءُ الإيمان والمقاومة والاجتهاد العلمي»: يقين يحرّك، وجهد منضبط، وتوكّل يفتح أبواب التيسير، بإذن الله.

على مستوى البنية الدقيقة، تتألّف الذرّة من فراغٍ واسع بين النواة الالكترونات حولها، والعِبرة ليست بما هو صلب ظاهر فحسب، بل بالإمكان الكامن في ذلك «الفراغ». فلا تدعوا «الفجواتِ» في معرفتكم ومهاراتكم تُحبطكم؛ فما لا تعرفونه اليوم، والمعادلاتُ التي لم تستبين بعد، هي المساحةُ المنتظرةُ أن تُملأ بالتعلّم والإحسان. وقد قال ﷺ: «إنّ اللهَ يحبُّ إذا عملَ أحدُكم عملًا أن يُتقنَه»، فالإتقانُ هو فنّ ملءِ الفراغِ بالعملِ الجيّد.

وإذا بدا لكم الفشل ثقبا أسود يبتلعُ طاقتكم، فتذكّروا أن الثقب الأسود في الفيزياء تركيز هائل للمادة والطاقة؛ وكذلك الابتلاءُ في الإيمان هو تركيزٌ للتجربة وصقلٌ للإرادة. قال تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الانشراح: 5–6].

أيها الحضور الكريم،

أنتم حملةُ أمانةِ الاستخلاف في الأرض، ولديكم القدرة على إحداث الفرق. قد تهزّ القوى الخارجيّة الدولَ والمجتمعات، لكنّ الذي يُقيمها ويجعلها تصمد وتتكيّف وتزدهر هو القوّةُ الداخليّة في الأفراد. فلنكفّ عن انتظار «الحلول الكبرى» من الآخرين، ولنجعل قرارنا، اليوم، أن نبدأ من أنفسنا، من المكان الوحيد الذي نملك السيطرة عليه.

إنّ التزامنا الشخصي بالتميّز والإتقان واجب دينيّ وأخلاقيّ، وحين نرتقي بأنفسنا نرتقي بأمتَنا.

فلنتعاهد جميعًا على أن نكون الأسس القويّة لبناء مجتمع علميّ مرنٍ مزدهر، ولنبدأ العمل معًا لصنع مستقبل زاهر يليق بنا وبأمّتنا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

.

رابط صفحة المدرسة: https://www.nriag.sci.eg/fifth-aras-advanced-arab-astrophysics-school/

فيديو الكلمة: youtube.com/watch?v=O7oo_91Df-8&feature=youtu.be

تواصل مع الدكتور رائد سليمان: drsamirabdulhamid@gmail.com

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x