.
يوم غد الأحد تنطلق فعاليات “أسبوع الكيمياء العربي” تحت مظلة اتحاد الكيميائيين العرب حيث تقوم العديد من الجمعيات الكيميائية وأقسام الكيمياء بالجامعات العربية بتنظيم العديد من المحاضرات والندوات والفعاليات والتي قد تشترك بها بعض المدارس الحكومية والأهلية بتوجيه من وزارات التعليم في مختلف الدول العربية. في الواقع هذه الفعالية الكيميائية المميزة تقع دائما في الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر والذي يتزامن تماما مع (أسبوع الكيمياء الوطني) في الولايات المتحدة بينما هذه الفعاليات الكيميائية يقع أسبوعها في بريطانيا في الأسبوع الثاني من شهر نوفمبر القادم.
في الأيام الماضية تردد كثيرا اسم (جامعة بيركلي) بالقرب من مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا وذلك بسبب حصول عالم الكيمياء عمر ياغي على جائزة نوبل وما تلا ذلك قبل أسبوع من قيام وزير الاتصالات وتقنية المعلومات السعودي المهندس عبدالله السواحة بزيارة خاصة لجامعة بيركلي لكي يشارك الطلاب السعوديين الاحتفاء والاحتفال بالدكتور عمر ياغي. بالنسبة لنا كسعوديين فوز عمر ياغي بجائزة نوبل وزيارة الوزير السواحة لجامعة بيركلي حدث مميز خصوصا في وجود عدد كبير من الطلاب السعوديين المبتعثين للدراسة في أمريكا (قادة المستقبل) ومن ضمنهم المبتعث عبد الله الغامدي الذي يعمل حاليا ضمن الفريق البحثي لعمر ياغي. بالمناسبة حصل في عام 1962م أن قام الرئيس الأمريكي جون كينيدي تقريبا في نفس هذا التوقيت من شهر أكتوبر بزيارة جامعة بيركلي وفي ملعب الجامعة خطب في حشد ضخم من طلاب تلك الجامعة العريقة ووصفهم بأنه (قادة المستقبل). خطاب الرئيس كينيدي في يوم تأسيس جامعة بيركلي Charter Day واحد من أشهر خطاباته وربما لا يفوقه إلا خطابه في مدينة برلين ضد الشيوعية أو خطابه مدينة هيوستن والإعلان الشهير عن تدشين برنامج الهبوط على القمر.
على كل حال توجد لقطة فوتوغرافية على درجة عالية من الأهمية التاريخية للرئيس جون كينيدي عند زيارته لجامعة بيركلي وحوله لفيف من أشهر العلماء في فترة الستينيات مثل عالم الكيمياء الأمريكي جلين سيبورج الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1951م وعالم الفيزياء الأمريكي إدوارد تيلر الملقب بأبي القنبلة الهيدروجينية وعالم الكيمياء الأمريكي إدوين ماكملين الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1951م والمتعاون كذلك في مشروع مانهاتن لتصنيع القنبلة الذرية.
والمقصود أن جامعة بيركلي لها أهمية بالغة في تطور تاريخ العلوم الحديثة وكما حاولت الإشارة في مقال سابق بعنوان (مصادفات غريبة في روزنامة العلم والعلماء) إن جامعة كامبريدج هي أهم جامعة في تاريخ علم الفيزياء الحديث فكذلك في هذا المقال وبمناسبة (أسبوع الكيمياء العربي) أحاول أن أثبت أن جامعة بيركلي التي يعمل بها حاليا عمر ياغي هي ربما أهم جامعة من ناحية التأثير في علم الكيمياء المعاصر.
ولنبدأ بالحديث أن أغلب الكيميائيين العرب البارزين لهم ارتباط بجامعة بيركلي فبالإضافة لعمر ياغي نجد أن أحمد زويل رحمة الله الحاصل على جائز نوبل عام 1999م قد عمل في جامعة بيركلي لمدة سنتين كباحث ما بعد الدكتوراه في الفترة ما بين عامي 1974 و 1976 ميلادي. وكذلك نجد أن عالم الأحياء الجزيئية اللبناني أرديم باتابوتيان (من أصول أرمنية) والحاصل على جائزة نوبل في الطب عام 2021م هو في الأصل حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة بيركلي عام 1984 ميلادي. وأخيرا، أود أن أشير أن العالم المصري البارز مصطفى السيد الحاصل على جائزة الملك فيصل للعلوم في مجال الكيمياء عام 1990م (هو أول عالم عربي يحصل على جائزة الملك فيصل في التخصصات العلمية أو الطبية) وكذلك الحاصل في عام 2007م على قلادة العلوم الوطنية الأمريكية أحد أبرز الجوائز العلمية في أمريكا والتي يسلمها رئيس الولايات المتحدة (هو أول عربي يحصل على هذه الجائزة العلمية المرموقة)، ولهذا لا غرابة أن نعلم الآن أن له ارتباط بجامعة بيركلي، حيث عمل فيها كأستاذ زائر في عام 2007 ميلادي.
جامعة بيركلي .. علماء نوبل مروا من هنا
وبعد أن رصدنا أن أبرز العلماء العرب المعاصرين لهم ارتباط وثيق بجامعة بيركلي أود أن أشير بشكل عام إلى أن هذه الجامعة العريقة تعتبر في الوقت الحالي أكثر جامعة دولية ارتبط بها العلماء الحاصلون على جائزة نوبل في الكيمياء. في الواقع عدد علماء الكيمياء العاملين بجامعة بيركلي أو المتخرجين منها والحاصلين على جائزة نوبل يبلغ عددهم 21 فائزا منهم ثلاث نساء وهن نصف السيدات الحاصلات على جائزة نوبل في الكيمياء. والغريب أن عدد علماء الفيزياء المرتبطين بجامعة بيركلي والحاصلين على جائزة نوبل في الفيزياء يبلغ عددهم كذلك 21 فائزا، ولكن من دون نساء هذه المرة.
وللدلالة على التميز البحثي والعلمي المذهل لهذه الجامعة يكفي أن نشير أن أربعة من العلماء الفائزين بجوائز نوبل العلمية لهذا العام لهم ارتباط بجامعة بيركلي فبالإضافة لعمر ياغي في الكيمياء نجد أن كل العلماء الثلاثة الفائزين بجائزة نوبل في الفيزياء لهذا العام هم من منسوبي جامعة بيركلي وكذلك العالم الماضي 2024م أحد الفائزين في جائزة نوبل الكيمياء وأحد الفائزين بها في مجال الطب هما من خريجي جامعة بيركلي.
بالمناسبة عدد الحاصلين على جائزة نوبل في كل المجالات (الكيمياء والفيزياء والطب والاقتصاد بل وحتى الأدب) الذين عملوا بجامعة بيركلي أو تخرجوا منها يبلغ عددهم رقما مذهلا يصل إلى (63 فائز) وفي حين أننا قد نفخر أن أحد الفائزين بجوائز نوبل قد زارنا وألقى لدينا محاضرة نجد هذه الجامعة المذهلة تناطح (بعدد منسوبيها الحاصلين على جوائز نوبل) الجامعات العلمية فائقة الشهرة مثل جامعة هارفرد أو الجامعات البريطانية العريقة والعتيقة مثل كيمبردج وأكسفورد.
بقي أن أقول إن أول شخص له علاقة بجامعة بيركلي وحصل لها على جائزة نوبل هو الكيميائي الأمريكي هارولد يوري والحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1934م وله مع ذلك قصة طريفة تستحق أن تروى.
من وجهة نظري أهم عالم كيمياء عمل في جامعة بيركلي هو الكيميائي الأمريكي البارز جيلبرت لويس G. Lewis الذي يعرفه جميع طلاب العلوم في المدارس لأنه صاحب (أشكال لويس) حيث يتم رسم الروابط الكيمائية في المركبات والجزئيات الكيميائية بنقاط لويس الشهيرة. وبالإضافة لمفهوم (تعريف لويس للأحماض والقواعد) فلهذا العالم الفذّ إسهامات كيميائية متعددة مرتبطة بعلم الثيرموديناميك ونظرية الرابطة التساهمية والكيمياء الضوئية وطبيعة الإشعاع الكمي وفصل النظائر والماء الثقيل ومن هذه وذلك ليس بالمستغرب أن نعلم أنه تم (ترشيحه) لجائزة نوبل حوالي 41 مرة. ومع ذلك الغريب جدا أن نعلم أن 14 عالم كيمياء ممن تتلمذوا ودرسوا على يد جيلبرت لويس حصلوا على جوائز نوبل في الكيمياء ومع ذلك لم يحصل أستاذهم الأسطورة على جائزة نوبل بالرغم من أنه توفي عام 1947 أي بعد حوالي نصف قرن من ظهور تلك الجائزة العريقة من جهة والمثيرة للجدل من جهة ثانية.
وهنا تدخل قصة الكيميائي هارولد يوري على الخط حيث إنه كان أول تلميذ من طلاب جيلبرت لويس الذين حصلوا على جائزة نوبل في الكيمياء وبحكم أن هارولد يوري حصل على جائزة نوبل لاكتشافه النظير الثقيل لعنصر الهيدروجين أي نظير (الديوتيريوم) فهنا ثارت ثائرة السيد جيلبرت لويس. والسبب طبعا واضحا فهو منذ عام 1916م توصل لوضع نظرية الرابطة التساهمية ومنذ عام 1923م توصل لتعريفه الشهر للأحماض والقواعد ومع ذلك لم يمنح جائزة نوبل وكذلك هو له أبحاث مشهورة عن (الماء الثقيل) وطبعا تلميذه هارولد يوري توصل لاكتشاف نظير الهيدروجين الثقيل الموجود في الماء الثقيل اعتماد أصلا على أبحاث جيلبرت لويس وبالعمل في مختبره وتحت أشرافه ولهذا كان من الواجب أن يشترك الأستاذ لويس والتلميذ يوري في الفوز سويا بجائزة نوبل. ولهذا يقال إن جيلبرت لويس استاء وغضب كثيرا من حصول تلميذه هارولد يوري على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1934م بل وصل الأمر أنه في تلك السنة استقال من أكاديمية العلوم الأمريكية كتعبير عن احتاجاه وسخطه.
وبعيدا عن هذه القصة الغريبة عن الشحناء والحسد بين الأستاذ والتلميذ أرجو أن ينتبه القارئ الكريم للمعلومة التي ذكرتها في الأعلى أنه بلغ عدد تلاميذ جيلبرت لويس الذين حصلوا على جوائز نوبل في الكيمياء حوالي 14 عالما وهذا غير العشرات من علماء الكيمياء البارزين الذين استقطبتهم وجذبتهم الشهرة العلمية الطاغية لجيلبرت لويس للحضور إلى قسم الكيمياء بجامعة بيركلي. وهذا ربما يفسر لماذا كان ولا يزال قسم الكيمياء بجامعة بيركلي أحد أهم وأبرز أقسام الكيمياء على مستوى العالم ولهذا استحقت جامعة بيركلي التنويه والإشادة بها في أسبوع الكيمياء العربي بمناسبة حصول عمر ياغي على جائزة نوبل.
أعظم تكريم علمي .. اسم على الجدول الدوري
سبق وأن أشرنا أن علماء الكيمياء المرتبطين بجامعة بيركيلي والحاصلين على جائزة نوبل في الكيمياء يصل عددهم إلى 21 عالما وأن عدد تلاميذ الكيميائي جيلبرت لويس الحاصلين على جوائز نويل يصل عددهم إلى 14 فائزا ومن هذا الكم الغفير سوف ننهي الحديث عن جامعة بيركلي بذكر واحد منهم فقط هو غلين سيبورغ والذي تتلمذ على يد لويس وتخرج من جامعة بيركلي ثم عمل بها خلال أغلب مسيرته المهنية. السبب في تميز هذا الرجل أنه كان أول شخص في تاريخ العلم يطلق اسمه على عنصر من عناصر الجدول الدوري بينما هو ما زال على قيد الحياة ولهذا توجد صورة فوتوغرافية مشهورة له وهو يشير بأصبعه إلى العنصر الذري رقم 109 (سيبورغيوم Sg) والذي يحمل اسمه. سبب هذا التكريم أن عالم الكيمياء سيبورغ وفريقه البحثي تمكنوا عبر سنوات طويلة وباستخدام المسرع الدوراني (السيكلوترون) للجسيمات الأولية النووية من تحضير وتصنيع 16 عنصر كيميائي غير موجودة في الطبيعة وهي العناصر التي تسمى عناصر ما بعد اليورانيوم. وهذه العناصر هي العنصر رقم 93 وحتى العنصر رقم 109 وبعض هذه العناصر الثقيلة والمشعة على درجة عالية من الأهمية مثل العنصر رقم 94 البلوتونيوم الذي يدخل في تصنيع القنبلة الذرية ولهذا اشترك سيبورغ في مشروع مانهاتن لتصنيع القنبلة الذرية.
الجدير بالذكر أن العرف العالمي في السابق في المجتمعات العلمية كان على مبدأ أن من يكتشف أي عنصر من عناصر الجدول الدوري له الشرف والأحقية في اختيار اسم هذا العنصر ولهذا قام سيبورغ وفريقه البحثي وكنوع من التقدير والتكريم لجامعة بيركلي (اسمها الرسمي جامعة كاليفورنيا – بيركلي) بإطلاق اسم هذه الجامعة العريقة على اثنين من العناصر التي حضروها وهما العنصر رقم 97 (بيركليوم Bk) والعنصر رقم 98 (كاليفورنيوم Cf). ليس هذه فحسب، ولكن لأن كل هذه العناصر الكيميائية المستحدثة تم تحضيرها في مختبر لورانس في جامعة بيركلي حيث توجد مسرعات الجسيمات التي يحصل في داخلها تحطيم الذرات الخفيفة وإنشاء الذرات الثقيلة الجديدة، وبحكم أن عالم الفيزياء الأمريكي أرنست لورانس كان هو أول من اخترع أجهزة المسرعات cyclotrons لهذا منح جائزة نوبل في الفيزياء عام 1939م وكذلك تم إطلاق اسمه على عنصر الجدول الدوري أي العنصر رقم 103 (لورانسيوم Lr).
وبحكم أن مختبر لورانس في جامعة بيركلي استمر في الأبحاث العلمية المعقدة في تصنيع المزيد من عناصر الجدول الدوري وبحكم أن عنصر الجدول الدوري رقم 116 والعنصر رقم 118 تم تصنيعها أو اكتشافها في فرع جامعة بيركلي في مدينة ليفرمور بولاية كالفورنيا لهذا أطلق على العنصر رقم 116 اسم (ليفرموريوم Lv).
ومن هذه العناصر الـ 18 من عناصر الجدول الدوري المحضرة اصطناعيا في مختبرات جامعة بيركلي ومن وجود خمسة عناصر كيميائية أسمائها مرتبطة بالجامعة وكذلك من وجود 23 عالم من منسوبي الجامعة أو خريجيها ممن حصلوا على جائزة نوبل في الكيمياء من آخرهم عمر ياغي، بهذا تترسخ مكانة جامعة بيركلي بأنها دون منازع أهم جامعة في العالم مرتبطة بعلم الكيمياء.
.
تواصل مع الكاتب: ahalgamdy@gmail.com
.
اقرأ ايضاً
نوبل للفيزياء 2025 تذهب لكمية الأجسام الكبيرة
البروفيسور عمر ياغي يفوز بجائزة نوبل للكيمياء لعام 2025
مصادفات غريبة في تاريخ العلم والعلماء