.
قبل عقدين من الزمن، كان الإنترنت مجرد مساحة نبحث فيها عن المعلومة ونغادرها بعد أن نجد ما نريد. كان عالمًا من النصوص الثابتة والمواقع الصامتة، نقرأه أكثر مما نتفاعل معه. ومع مرور الزمن، تطورت الشبكة لتصبح ساحة للحديث، ثم للتفاعل، ثم للمشاركة. لكن ما الذي ينتظرنا الآن؟ يبدو أننا على أعتاب عصر جديد، لا يكون فيه الإنترنت مجرد أداة، بل كيانًا “واعياً سياقيًا” يتعلّم ويفهم ويتكيّف معنا: عصر الويب الرابع (Web 4.0).
يُنظر إلى Web 4.0 على أنه الجيل الذي سيتجاوز حدود الذكاء الاصطناعي في خدمته للإنسان، ليبدأ في التفكير معنا، لا من أجلنا. فإذا كان Web 2.0 هو عصر المشاركة الاجتماعية، وWeb 3.0 هو عصر اللامركزية والبلوكتشين، فإن Web 4.0 سيكون عصر “الإنترنت الإدراكي”؛ شبكة قادرة على فهم السياق، وتوقّع احتياجاتنا، واتخاذ قرارات بناءً على تفضيلاتنا الشخصية وسلوكنا الرقمي. إنه الإنترنت الذي يعرفك أكثر مما تعرف نفسك.
تخيل أن تدخل إلى شبكة الإنترنت فلا تحتاج إلى البحث عن شيء، لأن النظام قد تعلّم مسبقًا ما تبحث عنه. تخيل أن المتصفح نفسه لا يعرض لك الروابط فقط، بل يقدّم محتوى مُعدًّا خصيصًا لك، بناءً على لحظتك الحالية: مزاجك، مكانك، وحتى حالتك الصحية. هذا هو جوهر الويب الإدراكي، ذكاء تفاعلي يتجاوز الأوامر إلى الفهم.
لكن الثورة الأعمق لا تتعلق بالمعلومات، بل بالوجود ذاته. فمع الويب الرابع، لم تعد الشبكة مجرد شاشة، بل عالم موازٍ يتقاطع مع الواقع المادي. هنا يظهر مفهوم الميتافيرس (Metaverse) بوصفه البيئة التي تدمج العالمين: الواقعي والافتراضي. في الميتافيرس، يمكن للطالب أن يحضر درس الكيمياء داخل مختبر افتراضي يرى فيه الجزيئات تدور حوله، ويمكن للطبيب أن يتدرّب على عملية جراحية داخل جسم رقمي يحاكي نبض الحياة، ويمكن للمهندس أن يصمم مدينة كاملة وهو يسير في شوارعها المصممة بالحاسوب.
الميتافيرس ليس مجرد لعبة أو منصة ثلاثية الأبعاد، بل هو نظام بيئي جديد يغيّر طريقة تفاعلنا مع البيانات والعمل والتعليم وحتى الهوية. فالعالم الافتراضي القادم لن يكون شاشة أمامنا، بل مساحة نعيش فيها. وربما لهذا، بدأت شركات كبرى مثل “Meta” و“Microsoft” و“NVIDIA” في سباق محموم لتطوير تقنيات الواقع الممتد (XR) التي تمكّننا من الوجود في هذا الفضاء المتشابك بين الحقيقي والرقمي.
إلا أن هذه الثورة لا تخلو من الأسئلة المقلقة. حين يصبح الإنترنت قادرًا على فهمك بدقة، أين يبدأ وعيك وأين ينتهي؟ من سيحمي خصوصيتك حين يعرف النظام نبضاتك، ومشاعرك، وميلك إلى الشراء أو الغضب؟ فبين كل هذه الإمكانات، يلوح خطر التحول من “إنترنت يخدم الإنسان” إلى “إنترنت يراقبه”.
العالم العربي يقف اليوم أمام هذا التحول في لحظة تاريخية حاسمة. فبينما تسعى دول مثل الإمارات والسعودية وقطر إلى بناء بنية رقمية فائقة الحداثة، وتطوير مشاريع ميتافيرس حكومية وتعليمية، لا يزال الوعي الاجتماعي حول هذا المفهوم في بدايته. ثمة حاجة إلى أن نعيد صياغة علاقتنا مع التقنية، لا بوصفها رفاهية، بل كمجال للسيادة المعرفية والاقتصادية. فالميتافيرس، إذا أُحسن استثماره، قد يفتح بابًا لصناعة عربية رقمية جديدة، تمتلك المحتوى بدلاً من أن تستهلكه فقط.
إن ثورة الويب الجديدة ليست مجرد قفزة تقنية، بل تحوّل في فلسفة الوجود الإنساني داخل العالم الرقمي. نحن لا نعيش فقط في عصر المعلومات، بل في عصر “الوعي الشبكي”، حيث تتقاطع الذكاءات “البشرية والاصطناعية” في حوار متواصل حول المعنى والهوية والذاكرة.
الويب الرابع قادم، ليس كمجرّد تحديث برمجي، بل كإعادة تعريف للعلاقة بين الإنسان والمعرفة. سنجد أنفسنا أمام إنترنت يتحدث، ويحلل، ويتعلّم، وربما يحلم أيضًا. وبينما يختلط الواقعي بالافتراضي، سيبقى التحدي الأكبر إنسانيًا: كيف نحافظ على وعينا ونحن نعيش في شبكة تُفكّر معنا؟
.
المصادر
Tim Berners-Lee et al., “The Future of the Web: Towards Web 4.0 and Cognitive Computing”, Journal of Web Science, 2024.
Gartner Research, “Emerging Technologies and the Evolution of Web 4.0”, Gartner Tech Report, 2025.
IEEE Spectrum, “From Web3 to Web4: The Intelligent, Contextual Internet”, March 2025.
Dubai Future Foundation, “Metaverse Strategy and Economic Impact in the Arab Region”, 2024.
World Economic Forum, “The Metaverse Economy: Governance, Identity, and Data Ethics”, WEF Report, 2025.
Neom Tech & Digital Company, “Digital Twins and Predictive Urban Systems in The Line Project”, Technical Paper, 2024.
Meta Reality Labs, “Metaverse Infrastructure and Human Interaction Models”, 2025.
.
تواصل مع الكاتب: mohamedmouradgamal@gmail.com
.
العصر الجديد للذكاء الاصطناعي العربي
شات جي بي تي وتمكين الباحثات من المعرفة
