.
في مقالتنا السابقة “هل تفكر النباتات” طرحنا تساؤلًا علميًا بدا غريبًا للبعض: هل يمكن أن نصف سلوك النباتات تجاه البيئة المحيطة بأنه نوع من التفكير؟ لقد أظهرت دراسات عديدة أن النبات لا يعيش حياة ساكنة كما نتوهم، بل يمتلك أنماطًا من الاستشعار، والاستجابة، واتخاذ القرار، تكشف عن مستوى مدهش من “الذكاء البيولوجي”.
وفي هذه المقالة نتابع عرض الأدلة التي تؤكد أن النبات لا يكتفي بالتفاعل السلبي مع بيئته، بل “يفكر” ويتدبر ويختار.
نباتات تصطاد بفكرها
ليست جميع النباتات وديعةً كما نراها في الحدائق. فهناك أنواع مفترسة تجذب الحشرات بخداعٍ محسوب ثم تلتهمها لتقتات منها. من أشهرها نبات فينوس آكلة الذباب (Dionaea muscipula)، الذي تغري أوراقه المزدوجة الحشرة برائحةٍ زكية، وما إن تلامسها حتى تنطبق عليها في لحظة، لتتحول إلى وجبة غنية بالنيتروجين. أما نبات الدروسيرا (Drosera) فيفرز مادة لاصقة على أوراقه تلمع كالندى فتغري الفريسة بالهبوط، لكنها سرعان ما تُحتجز وتُهضم. هذه الحيل الحيوية ليست أفعالًا عشوائية، بل استراتيجيات محسوبة تحاكي التفكير، تنفذها خلايا النبات بذكاء كيميائي مدهش.
نباتات تدافع عن نفسها
كما تُهاجم، فإن النباتات تعرف كيف تدافع عن نفسها. فهناك مقاومة تركيبية سلبية منحها الخالق لبعض الأنواع، مثل الأوراق المغطاة بطبقة كيوتين تمنع تراكم الماء الحر وتُعيق إنبات جراثيم الفطريات. وهناك شعيرات وزوائد ببشرة النبات تعمل كدرعٍ طبيعي. أما المقاومة الإيجابية، فهي سلوك أقرب إلى التفكير الواعي؛ إذ تبني بعض النباتات حواجز خلوية (مثل خلايا الاسكلرانشيم) حول موضع العدوى لمنع انتشار الممرض. وبعضها يضحّي عمدًا بجزءٍ من أنسجته المصابة عبر عملية “الموت المبرمج للخلايا” لحماية باقي الجسد، وهو سلوك دفاعي يشبه تضحية الوزغ (أبو بريص) بذيله للنجاة بحياته. بل إن بعض النباتات تسد أوعيتها الخشبية بخلايا تُعرف بـ “التيلوزات” كي تمنع انتقال العدوى داخلها، في تفاعل فيزيولوجي محسوب يعبّر عن ذكاء خلوي متطور.
نباتات تُفرز سموماً ذكية
من بين أكثر مظاهر «تفكير» النبات إثارة، قدرته على إنتاج مركبات كيميائية دفاعية متخصصة تُعرف بلفايتوألكسينات Phytoalexins، وهي مواد تفرزها الخلايا النباتية فور استشعارها للهجوم الميكروبي. هذه السموم توقف نمو الفطريات والبكتيريا وتدمّر أنزيماتها، أو تحيّد سمومها الضارة. بل تذهب بعض النباتات إلى أبعد من ذلك؛ فهي “تحلل” السموم الغازية عبر أنزيمات مخصّصة، وكأنها تدرك آلية العدو وتبتكر مضادها. وقد أثبتت بحوث Mancuso & Viola (2015) وTrewavas (2014) أن هذه الاستجابات لا تتم عشوائيًا، بل عبر شبكات معقّدة من الإشارات الكهربائية والكيميائية داخل النبات، تماثل في بعض جوانبها عمل الجهاز العصبي في الحيوان.
ذكاء في التواصل والتخطيط
لم يعد الذكاء في النباتات مفهومًا مجازيًا فقط. فقد ثبت أن النباتات تتبادل المعلومات فيما بينها باستخدام المركبات العضوية المتطايرة (VOCs) التي تعمل كإشارات إنذار. فعندما تهاجم اليرقات نبات الذرة، يُرسل النبات إشارات كيميائية تجذب الدبابير المفترسة لتهاجم اليرقات! كما يمكن للنباتات المجاورة التقاط هذه الإشارات وتفعيل دفاعاتها مسبقًا، وهو ما يُعرف بـ«التعلم النباتي الجماعي. (Group Plant Learning)، وقد أظهرت تجارب Gagliano et al. (2014) أن بعض النباتات تتعلم تكرار السلوك بناءً على الخبرة السابقة، مثل توجيه أوراقها أو جذورها استجابةً لمحفزات صوتية أو ضوئية، مما يعكس وجود ذاكرة قصيرة المدى على مستوى الخلايا.
حين يفكر الغزاة أيضًا
إذا كان النبات يفكر، فالفطريات والفيروسات التي تغزوه ليست أقل دهاءً. فالفطريات، لافتقارها إلى اليخضور (الكلوروفيل)، لا تستطيع تصنيع غذائها بالتمثيل الضوئي، فتضطر للتطفل على الأحياء أو الترمم على الأموات. وهي تستخدم استراتيجيات دقيقة لاختراق أنسجة النبات، منها الدخول عبر الثغور أو الجروح، أو إفراز أنزيمات تحلّل الجدر الخلوية. وفي المقابل، يرد النبات بإغلاق الثغور أو تعزيز الجدار الخلوي أو إفراز مضادات فطرية.
إنها حرب خفية تدور في صمت، تحكمها إشارات وجزيئات وأوامر خلوية معقدة، وكأننا أمام عقول غير بشرية تتصارع في صمت الأرض.
أممٌ أمثالكم
صدق الله العظيم حين قال: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ الأنعام:( 38)
فالنباتات أممٌ مثلنا: تفكر، وتتعلم، وتتواصل، وتدافع عن نفسها. وكلها تسبّح بحمد الخالق الذي أودع فيها هذا النظام المعجز من الوعي الحيوي. إن فهم ذكاء النبات لا يقلل من خصوصية الإنسان، بل يزيدنا إدراكًا لعظمة الخلق ووحدة الحياة على الأرض. فالنبات، الذي نظنه صامتًا، يحمل في خلاياه قصة أخرى من قصص الإدراك والنجاة. ربما آن الأوان أن ننظر إليه لا ككائن صامتٍ ساكن، بل كـ«كائن مفكر» بلغته الخاصة، يعلّمنا دروسًا في التكيّف، والصبر، والتوازن مع الطبيعة.
.
المراجع
Calvo, P., & Keijzer, F. (2011). Adaptive Behavior, 19(3), 155–171.
Gagliano, M. et al. (2014). Oecologia, 175(1), 63–72.
Lee, S., & Kim, J. (2024). Frontiers in Plant Science, 15:1372489.
Mancuso, S. & Viola, A. (2015). Brilliant Green: The Surprising History and Science of Plant Intelligence. Island Press.
Trewavas, A. (2014). Plant Behaviour and Intelligence. Oxford University Press.
Volkov, A. G. (2019). Plant Electrophysiology. Springer.
Witzany, G. (2023). Progress in Botany, 84, 171–189.
.
البريد الإلكتروني للكاتب: k.z.ahmed@minia.edu.eg
دكتور قاسم زكي أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة، جامعة المنيا؛ ورئيس اللجنة الوطنية للعلوم الوراثية بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، والرئيس الأسبق للجمعية العلمية الأفريقية لعلوم المحاصيل، واحد مؤسسي المجلس العالمي للنبات (GPC)؛ عضو اتحاد كتاب مصر، وعضو اتحاد الأثريين المصريين.
.
هل تفكر النباتات؟