.
تشهد المنطقة العربية في العقود الأخيرة تحولات مناخية غير مسبوقة، اتسمت بتسارع وتيرة الظواهر المتطرفة، كالعواصف المطرية المفاجئة والفيضانات والانزلاقات الأرضية، مما جعلها من أكثر مناطق العالم هشاشة أمام تقلبات المناخ. هذه الظواهر ليست مجرد أحداث جوية عابرة، بل هي نتيجة تفاعل معقد بين العوامل المناخية والجيومورفولوجية والأنشطة البشرية التي غيرت وجه الأرض وأضعفت قدرتها على التوازن الطبيعي.
يركّز الدكتور عادل الصالحي في دراسته على ظاهرة “المنخفضات المعزولة” المعروفة علميًا باسم DANA، وهي اضطرابات جوية شديدة تتكون نتيجة انفصال كتل هوائية باردة عن التيار النفاث في الطبقات العليا من الغلاف الجوي، فتلتقي بالهواء الرطب الدافئ فوق البحر المتوسط، مسببة عواصف مطرية كثيفة في زمن قصير. ومع ارتفاع حرارة سطح البحر بأكثر من درجتين مئويتين في العقدين الأخيرين، ازدادت هذه الظاهرة تواترًا، وامتدت آثارها إلى السواحل الجنوبية والشرقية للمتوسط، حيث شهدت بلدان عربية عديدة مثل ليبيا والمغرب والسعودية والإمارات فيضانات مفاجئة مدمرة. وقد مثّلت عاصفة درنة في سبتمبر 2023 مثالًا مأساويًا على ذلك، إذ حصدت آلاف الأرواح خلال ساعات قليلة.
من خلال تحليل بيانات الأقمار الصناعية والبيانات الضخمة بين عامي 2001 و2023، توصلت الدراسة إلى أن أكثر من 15% من الأراضي العربية المعرضة للهطول الغزير دخلت نطاق الخطر المتوسط إلى العالي، نتيجة فقدان الغطاء النباتي وتدهور التربة والتوسع العمراني غير المستدام. وأظهرت خرائط التحليل الفضائي أن الأحواض الساحلية في شمال إفريقيا والمشرق العربي باتت بؤرًا محتملة للفيضانات، وأن هشاشة الأنظمة البيئية تفاقمت إلى حد خطير.
تؤكد الورقة أن مواجهة هذه التحديات لا يمكن أن تقتصر على الأساليب التقليدية لإدارة الكوارث، بل تتطلب انتقالًا نوعيًا نحو “حوكمة استباقية للأخطار”، تقوم على التنبؤ المبكر، والاعتماد على العلم الدقيق والبيانات المفتوحة والتخطيط طويل المدى. فإدارة الخطر، في نظر الباحث، تبدأ قبل الكارثة لا بعدها، وتستند إلى تحليل دينامي لتغير المناخ وربطه بالعوامل البيئية والاجتماعية والاقتصادية التي تضاعف أثره.
ولتحقيق هذا التحول، يقترح الصالحي إنشاء “مرصد عربي للمخاطر المناخية والبيئية” يتولى جمع البيانات من شبكات الأرصاد والأقمار الصناعية والمؤسسات البحثية في قاعدة موحدة مفتوحة الوصول. هذا المرصد سيكون أداة لتوجيه السياسات العامة، ومصدرًا لتحديث الخرائط المناخية، ومركزًا لتبادل المعلومات بين الدول العربية، مما يسهم في بناء وعي إقليمي مشترك بأبعاد الخطر.
غير أن الدراسة لا تكتفي بالبُعد العلمي، بل تنبه إلى أن الكوارث المناخية هي أيضًا نتاج ضعف الحوكمة وغياب الوعي المجتمعي. فالفيضانات لا تقتل لأنها تمطر، بل لأن المدن بُنيت في مجاري الأودية دون تخطيط، ولأن الناس لا يتلقون الإنذارات بجدية، ولأن القرارات تبقى حبيسة الأوراق. لذلك يدعو الباحث إلى إشراك المجتمع المحلي في منظومة الوقاية من الأخطار، عبر التعليم البيئي، وبرامج الإنذار المبكر، والمشاركة المدنية في رصد الظواهر الطبيعية. فالمواطن الواعي هو جزء من نظام الوقاية، لا مجرد متلقٍ للكارثة.
كما تبرز الورقة ضرورة إصلاح البنية المؤسسية للدول العربية التي ما تزال تعمل في جزر متفرقة. إذ غالبًا ما تنفصل مؤسسات الأرصاد عن أجهزة الدفاع المدني، وتعمل وزارات البيئة بمعزل عن البلديات، مما يؤدي إلى ضعف التنسيق خلال الأزمات. ويقترح الصالحي تأسيس هيئة عربية مشتركة لإدارة الكوارث، تُوحد بروتوكولات الإنذار، وتنظم تدريبات ميدانية تحاكي الكوارث الكبرى، وتؤسس لثقافة وقائية تتجاوز حدود كل دولة.
في موازاة ذلك، تدعو الدراسة إلى تبني الحلول القائمة على الطبيعة Nature-Based Solutions مثل إعادة تأهيل الغابات والمنحدرات، وتثبيت التربة، وتوسيع المساحات الخضراء داخل المدن فيما يُعرف بـ”المدن الإسفنجية” التي تمتص مياه الأمطار وتخفف ضغط الفيضانات. فالتعامل مع الطبيعة لا يجب أن يكون صراعًا ضدها، بل تعاونًا معها، يعيد التوازن بين الإنسان وبيئته.
وترى الورقة أن تغير المناخ ليس مجرد تحدٍ بيئي، بل هو تحدٍ حضاري يمسّ نمط عيش الإنسان في المنطقة العربية وطريقة تعامله مع الأرض والماء والمدينة. ومن ثمّ، فإن الحل لا يقتصر على السياسات أو التقنيات، بل يمتد إلى بناء وعي جديد يقوم على ثلاثة أسس مترابطة: العلم الدقيق، والحكم الرشيد، والوعي المجتمعي. فالعلم يحوّل الفهم إلى قرار، والحكم يحوّل القرار إلى سياسة، والمجتمع يحوّل السياسة إلى سلوك يومي واقٍ.
ويخلص الدكتور الصالحي إلى أن الانتقال من ثقافة الطوارئ إلى ثقافة الاستباق هو جوهر المشروع العربي لمواجهة المناخ. فالمناخ لا يعرف حدودًا سياسية، والكوارث لا تفرق بين شمال وجنوب. وما تحتاجه المنطقة العربية اليوم ليس مزيدًا من التقارير، بل إرادة تنفيذ تعيد للعقل العربي دوره الريادي في فهم الطبيعة والتفاعل معها. فحين تُدار البيئة بالعلم، تُصبح الكارثة درسًا للتقدم لا سببًا للهلاك، وحين تُبنى المجتمعات على الوعي والمسؤولية المشتركة، يتحول الخطر إلى فرصة للحياة.
.

الورقة البحثية كاملة تجدونها عبر موقع البحوث والدراسات نبراس


© 2025 نبراس | nBRAS