مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

الذرة الرفيعة الجازانية

بين إرث المائدة الجازانية ومحاصيل المستقبل الذكية
الكاتب

الدكتور نزار حداد

مدير برنامج منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) في السعودية

الوقت

12:20 صباحًا

تاريخ النشر

07, أكتوبر 2025

.

بمنطقة جازان جنوب المملكة، تعدُّ الذرةُ الرفيعةُ جزءاً من الذاكرةِ المُجتمعيةِ والمائدة الشّعبية. وثّق الباحثُ الدكتور عبد الله الهندي هذا الإرثَ بعَيْن العارِفِ وعِشقِ المُحِبِّ، مُستعرِضاً أطباقاً متنوعةً بقيَت حاضرةً في الحياة اليومية للأجيال؛ مثل حلوى “المرسا” المحضّرة من طحين الذّرة والموز، وطبق “الحيسية” القديم الذي يعود اليومَ ليلقى إعجاباً من الشباب. وخبز “اللحوح” الليّنُ الرقيق، والخمير الأكثرِ صلابةً والمرتبط بالوجبات الريفيّة اليوميّة، و”الخضير” المحضّر من الحبوب الخضراء مع الحليب والعسل ليكون غذاءً غنيّاً ومُحبّباً. بهذه الصور، لا يكتفي الدكتور الهندي بالوصف، بل يعيدُ رسمَ علاقةِ إنسان جازان بمحصوله؛ فيكشف عن حبٍّ صادقٍ لحبوبٍ غذّت الأجدادَ وتُلهِم الأجيال.

الذرةُ الرفيعةُ (Sorghum bicolor) من أقدم محاصيل الحبوب المعروفة للبشرية. نشأت في أفريقيا قبل آلاف السنين، ثم انتقلَت إلى آسيا والجزيرة العربية لتصبحَ جزءاً أصيلاً من النُظم الزّراعيةِ والغذائيةِ في المِنطقة. وشكّلَت عبر التاريخ مصدراً رئيسياً لغذاء المُجتمعات الريفية، بفضل تكيُّفِها الفائقِ مع البيئات الجافّةِ وشُحّ المواردِ المائيةِ. وفي ظل تصاعد تحدّيات المُناخ والضغوط على الأمن الغذائيّ، تبرز الذرةُ الرفيعةُ مجدداً كمحصولٍ ذكيٍّ مُناخيّاً ومورِدٍ استراتيجيٍّ لإنتاج الغذاء والطاقة، مؤكِّدةً قيمتَها المتجددة في بناء مستقبلٍ أكثرَ تكيُّفاً مع التحدّيات العالمية(1).

تحضُر الذرةُ الرفيعةُ في ذاكرة جنوب المملكة بأسمائها المحليّة في عسير، كما وثّقها الدكتور الهندي، مثل “المِطيان” و “الأماطي”، وبأطباقٍ جازانيةٍ أصيلةٍ كـ “الخمير” و “اللحوح”، وبطقوسٍ موسميةٍ متوارَثةٍ كـ “الخُضير” وعروض الحصاد التقليدية (الخبيط)، بما يعكس هويّةَ المكانِ وتكيُّفَ أهلِه مع المُناخِ الحارِّ الرّطْب(2).

ولا تقتصر أهمية الذّرةِ الرفيعة على حضورِها الثّقافيّ، بل في خصائصِها الفريدة كمحصولٍ ذكي ملائمٍ للمُناخات القاسية. فهي تتحمّل الجفافَ بفضلِ جذورها العميقة(3)، وغنيةٌ بالبروتينات والمعادن كالحديد والزنك مقارنةً بالقمح والأرز، وتخلو من الجلوتين ما يجعلها بديلاً صحيّاً(4). وتتمتع بكونها محصولاً ثنائي الغرَض يخدم الإنسانَ غِذاءً والحيوانَ علَفاً، ما يعزّز مكانتَها في النُظم الزراعيّة المتكاملة.

تُزرع الذرةُ الرفيعةُ في مساحاتٍ واسعةٍ في المملكة تتركّز في جازان، ضمن الزراعة المطرية مع ريّاتٍ تكميليةٍ محدودةٍ. وتشير بياناتُ الهيئة العامة للإحصاء إلى أن المساحةَ المزروعةَ بلغَت نحو (58.3) ألف هكتار، والمساحة المحصودة (55.5) ألف هكتار بإجمالي إنتاجٍ قُدِّرَ بـ (165) ألف طنّ(5). هذه الأرقامُ تعكس الدورَ المحوريَّ للمملكة في الحفاظ على هذا المحصول، كموروثٍ غذائي، ومورِدٍ واعدٍ لمستقبلِها الزراعيِّ.

ويبلغُ الإنتاجُ السنويُّ العالميُّ للذرةِ الرفيعةِ نحو (60) مليون طنّ، ويزداد باطّرادٍ مع توسُّع استخداماتِها الغذائية والطاقيّة(6). ففي الولايات المتحدة، يُحوَّل جزءٌ كبيرٌ لإنتاج الإيثانول الحيوي، ما يعزز دورَها في الاقتصاد الدّائريّ وجهودِ تقليلِ الاعتماد على الوقود الأحفوري. ومن منظورِ البحث العلمي، تبرزُ جهودٌ لتطوير أصنافٍ جديدةٍ أكثرَ إنتاجيةً ومقاوَمةً للأمراض ومُعزّزَةٍ بالحديد والزنك(7)، بينما تشيرُ دراساتُ المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة إلى تفوُّق الذّرةِ الرفيعةِ على القمح والذّرة في كفاءة استخدام المياه؛ فتنتج حوالي (2.5) كغم من الغلّة لكل مترٍ مكعبٍ من المياه، مقابل (0.9) كغم فقط في القمح(8).

وقد أسهم التعاونُ بين وزارة البيئة والمياه والزراعة ومنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، عبْر برنامج ريف السعودية، في إحداثِ حِراكٍ زراعيٍّ إيجابيّ في قطاع الذّرة الرفيعة، من خلال إدخال مُمارسات الإنتاج الجيّدة وإدارة الري في عدة مَزارعَ تجريبية، وتقييم عشراتِ السُّلالات الجديدة في ظروف جازان وعسير، ما وسّع قاعدة المعرفة حول الأصناف الواعِدة. ومن أبرزِ النّجاحات، تحقيقُ زيادةٍ استثنائيةٍ في إنتاجيّة سُلالة الذّرةِ الرفيعة “موجان (ICSR 14001)” فارتفعَ متوسطُ إنتاجِها من (2) إلى (5.2) طنّ للهكتار، بزيادةٍ تجاوزَت (100%) وبقيمةٍ مُضافةٍ بلَغَت (25) ألف ريال للهكتار. وازدادت إنتاجيةُ المادة العلَفية من (1) إلى (25) طنّ للهكتار، بقيمةٍ مُضافةٍ قدرُها (19) ألف ريال للهكتار. هذا التطوّرُ يعكس أهميةَ الدّمجِ بين إنتاج الحبوب والثروة الحيوانية وتعزيز الحصاد المائي في المناطق الزراعية، وهو ما يعمل عليه فريقُ البرنامج مع الوزارة لبناء نظم زراعيةٍ متكاملةٍ ومستدامةٍ(9).

تُزرع الذرةُ الرفيعةُ في أكثرَ من 17 دولةً ضمن ظروفٍ مُناخيةٍ قاسيةٍ، تتجاوز فيها الحرارةُ (30)° ويقلّ فيها المطر عن (600) ملم، ومنها السعودية التي حققت إنتاجيةً مُعتبرةً رغم التحديات(10). وتشير تحليلاتٌ عالميةٌ إلى أن ارتفاع درجةٍ مئويةٍ فوق المتوسط المُناخي، قد يقلل الغلّةَ بنسبة (10%)، بينما قد ينخفض الإنتاجُ بنسبة (57%) إذا ارتفعت الحرارةُ (5) درجات(11). هذه النتائجُ تبرِز أهميةَ الاستثمار في البحث والتّطوير الوراثيّ لتعزيز أصنافٍ مقاومة للحرارة.

لا يقتصر الأمر على البُعد العلمي، بل تحمله قصصٌ محليةٌ مُلهِمةٌ، مثل مبادرة المزارع “حسن حبيبي” الذي أطلق اسم “موجان (ICSR 14001)” على أحد الأصناف المحسّنة، مجسِّداً شراكةً حقيقيةً بين المُزارع والباحث، ومؤكداً أن الابتكار الزراعي ينبع من التفاعل الحيّ مع الأرض، لا من المختبرات وحدها.

ويكتملُ المشهدُ بجهود التّعاون المؤسسي بين الوزارة ومنظمة (الفاو) عبر برنامج ريف السعودية، الهادف إلى تمكين المُزارعين الصّغار وتعزيز دور النّساء والشباب في الزراعة، وتوسيع نطاق المحاصيل الذكيّة مُناخياً تماشياً مع مُستهدَفات رؤية السعودية 2030، ليكون نموذجاً للتكامل بين المعرفة العالمية والتجربة المحليّة في بناء نظمٍ غذائيةٍ أكثرَ استدامةً، ويعكس توجُّهاً استراتيجياً يجعل الذّرةَ الرفيعةَ جزءاً من الحلول الوطنيّة لمكافحة التصحُّر وتعزيز الأمن الغذائي.

تقف الذرةُ الرفيعةُ اليوم كجسرٍ بين الماضي والمستقبل، إذ تجمع بين إرث المجتمعات وأطباقها التقليدية، وبين دورها الحديث في مواجهة التغير المناخي وتعزيز الأمن الغذائي والطاقة المتجددة. الاستثمار فيها هو رهانٌ على الاستدامة، حيث يتحول التّراثُ المحليُّ إلى مُنطَلَقٍ لحلولٍ عالميةٍ، ويستمر حضورُ “حبوب الصّمود” في كتابة فصلٍ جديدٍ من حكاية الإنسان بأرضه.

.

المراجع

  1. FAO. (2003). Sorghum: Post-Harvest Operations. Food and Agriculture Organization of the United Nations. http://www.fao.org/3/x0039e/x0039e00.htm
  2. Saudipedia. (2023). زراعة الذرة في السعودية. https://saudipedia.com/articles/zr-lthrr-fy-lswdyt
  3. IAEA. (2023). Improving Resilience to Drought in Rice and Sorghum through Mutation Breeding. International Atomic Energy Agency. Improving Resilience to Drought in Rice and Sorghum through Mutation Breeding Improving Resilience to Drought in Rice and Sorghum through Mutation Breeding | IAEA
  4. FAO. (2023). Millets and Sorghum Production Trends. FAO Statistics.
    https://www.fao.org/faostat/
  5. General Authority for Statistics (GASTAT). (2024). Grain Statistics Report 2023. Riyadh: GASTAT. https://www.stats.gov.sa/en/indicators/141
  6. Smart Food Initiative. (2022). Millets & Sorghum Production Trends. SmartFood.
    https://www.smartfood.org/millets-sorghum-production-trends/
  7. Reddy, B.V.S., et al. (2010). Recent Advances in Sorghum Improvement Research at ICRISAT. Agricultural Sciences. https://www.researchgate.net/publication/228480737_Recent_advances_in_sorghum_improvement_research_at_ICRISAT
  8. ICARDA. (2025). From Neglect to Necessity: Utilizing Underutilized Crops. International Center for Agricultural Research in the Dry Areas.
    https://icarda.org/media/blog/neglect-necessity-utilizing-underutilized-plants
  9. FAO & MoEWA. (2024). REEF Saudi Programme Field Reports on Sorghum and Cereal Crops in Saudi Arabia. Riyadh.
  10. Khalifa, M. (2023). Assessment of Global Sorghum Production, Tolerance, and… Frontiers in Sustainable Food Systems. https://www.frontiersin.org/journals/sustainable-food-systems/articles/10.3389/fsufs.2023.1184373/full
  11. Tack, J., Jagadish, K. (2017). Global warming could cause yield of sorghum crops to drop substantially. Carbon Brief, August 14. https://www.carbonbrief.org/global-warming-could-cause-yield-sorghum-crops-drop-substantially/

.

البريد الإلكتروني للكاتب: Nizar.Haddad@fao.org

الدكتور نزار حداد من الكفاءات العربية في مجالي الزراعة والابتكار الزراعي، وكاتب متخصص في قضايا البيئة والتنمية الزراعية المستدامة، إذ يجمع بين خلفية أكاديمية رصينة تشمل دكتوراه في الهندسة الزراعية، وماجستير في النظم الزراعية وأخر في الإدارة والدراسات الاستراتيجية، إضافة إلى دبلوم عالي في إدارة الموارد الوطنية.

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
1 تعليق
Inline Feedbacks
View all comments
محمد الرفاعي
محمد الرفاعي
10/20/2025 6:56 مساءً

تحياتي د نزار حداد

شكرا على المقال الجميل الجامع لاوصاف الاستخدام المحلي للذرة الرفيعة.

احببت الاسهام باضافة تحمله للملوحة سواء بالتربة او بالري بالمياه المالحة (٥٠٠٠ جزء بالمليون) كما انه مناسب للحش الاخضر لحد ٣ مرات قبل ان يتم دورة حياته لانتاج البذور.

فبما سبق و في بلاد الشام كان يخلط مع القمح وعلى ما اذكر ينتج منه ما يسمى كراديش.

الطيور من محددات انتاجه لكون بذوره مكشوفة مقارنة بالذرة العادية ويستلزم زراعة مساحات كبيرة للحد من هجوم الطيور لانتاج محصول مربح للمزارع.

اتمى لكم التوفيق

عنوان التعليق
محصول مهم وواعد
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
1
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x