.
وُلِد البروفيسور رُشدي راشد في القاهرة عام 1936، وحمَل شغَفَه بالمعرفة إلى باريس، حيث اعتلى كُرسي تاريخ العلوم العربيّة، ليُصبِح أحد أبرز الأصوات العالميّة في هذا المجال. ورغم أنّ اسمه لم يلقَ ما يستحقّه من تقدير في بلده الأمّ، إلّا أنّ العواصم البعيدة والقريبة احتفَت به، ومنحتْه مكانة تليق بعِلمه وإسهاماته.
لم يكُن رُشدي راشد مجرّد باحِث في المخطوطات أو مُؤرِّخًا يُسجِّل الأحداث ببرود، بل كان عاشِقًا يُبعث الحياة في نصوص التّراث. أعاد الاعتبار للعلم العربيّ باعتباره عقلانيّة أصيلة لا مجرّد جسر بين اليونان وأوروبا الحديثة. كشف أنّ عُلماء العرب أسَّسوا للجبر والمُثلّثات والبصَريّات، وأدخلوا التّجريب إلى قلب المعرفة.
رأى في ابن الهيثم رائدًا للتّجريب العلميّ، وفي كمال الدّين الفارسي شاهدًا على أنّ قوس قزح مختبَر حيّ، وأضاء على إسهامات الخوارزمي والطّوسي وابن سهل بوصفها إضافات تأسيسيّة لصناعة ما سمّاه “العِلم الكلاسيكي”.
نال البروفيسور رُشدي راشد جوائز عالميّة مرموقة، منها: جائزة الملك فيصل العالميّة؛ وِسام جوقة الشَّرف الفرنسيّة؛ ميداليّة ألكسندر كوير في تاريخ العلوم؛ جائزة مؤسّسة الكويت للتقدّم العلميّ؛ ميداليّة أفيشينا الذهبيّة من اليونسكو؛ جائزة الشَّيخ زايد للكتاب؛ جائزة سلطان بن علي العويس الثّقافيّة؛ جائزة Kenneth O. May في تاريخ الرياضيّات.
لكن قيمته “كما شهِد كلّ من عرفه” لم تختصرها الأوسمة، بل تجلَّت في أثره العميق على وعي الباحثين، وفي يقينه بأنّ التّاريخ العلميّ العربيّ فصل أصيل في كتاب الإنسانيّة.
شهادة شخصيّة
أتذكّره في قطر، حين دعوته إلى الدَّوحة. كان اللّقاء معه حدثًا استثنائيًّا، يفيض علمًا وطمأنينة. تولَّيت نشر كتابه عن الجبر عند الخلاطي، وشعرت أنّني لا أراجع أوراقًا، بل أضع جوهرة في عقد تراثنا. وحين كتب في مجلتنا “رواق التّاريخ والتّراث” مقالته البديعة عن ابن الهيثم، أيقنت أنّ المجلّة لم تعُد محلّيّة، بل نافذة مشرعة على ذاكرة كونيّة حيّة.
التقينا مرارًا في باريس والدَّوحة. كان يستحضر ذكريات قريته، وأستحضر قريتي، وكان بيننا حنين مشترك وانتماء صادق، رغم الفارق الكبير: هو العَلَم الكبير، وأنا العاشق الصّغير.
علَّمني رُشدي راشد أنّ التّراث ليس أوراقًا صفراء، بل طاقة حيّة تمنحنا مفاتيح المستقبل. وعلَّمني أنّ العلماء الجسور التي لا تنكسر بين الحضارات. كنت أجلس إليه كما يجلس التّلميذ إلى أستاذه، أتشبَّع من حكمته وأخرج بيقين أنّ العلم نور لا يُضيء إلّا لمن أحبَّه بصدق.
واليوم، أكتب عنه كما يكتب التّلميذ عن أستاذه، والصّديق عن رفيقه، والعاشق عن حبّه الكبير. لقد ترك في قلبي نورًا لا ينطفئ، وأعاد إليّ يقينًا أنّ العلم العربيّ لم ينقطع يومًا، وأنّنا جزء أصيل من مسيرة الحضارة الإنسانيّة.
إلى رُشدي راشد… أستاذي الكبير وصوت التّراث العربيّ في العالم: علَّمتني أنّ العلم عشق لا ينتهي، ورسالة لا تموت.

.
تواصل مع الكاتب: mhammamf@gmail.com
محادثة مع رشدي راشد
رشدي راشد مدخل إلى فكره وأعماله
تاريخ العلوم العربية: مشروع رشدي راشد نموذجاً