مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

دراسة جديدة

المناخ والهجرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

الكاتب

الصغير محمد الغربي

كاتب علمي

الوقت

09:31 صباحًا

تاريخ النشر

08, سبتمبر 2025

.

يتأثر سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكل متزايد بالعديد من الظواهر الطبيعية المرتبطة بالتغيرات المناخية التي أدت إلى زيادة وتيرة الظواهر المناخية المتطرفة مثل الفيضانات وموجات الحرارة، إلى جانب ارتفاع مستوى سطح البحر وتآكل التربة والشواطئ وتسارع التصحر. هذه التغيرات تؤثر بشكل متزايد على الإنسان وتزيد من المخاطر على حياته مما يدفعه إلى الهجرة من مكان إلى آخر أكثر أمنا من غوائل الطبيعة وتقلباتها. ومع أن قضية الهجرة البيئية تُعد موضوعا ساخنا على المستوى الدولي للمجتمع العلمي والممارسين وصانعي السياسات، فإن نقص المعرفة حول كيفية تأثير التغيرات المناخية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على ظاهرة الهجرة مازال يحد من فهمها بشكل معمق.

لذلك يستقطب هذا الموضوع بشكل متزايد الباحثين المتخصصين الذي يعملون على فهم أهم العوامل المساهمة في تأثير التغيرات المناخية والبيئية على ظاهرة الهجرة البشرية في هذه المنطقة أحد أكثر المناطق المنطقة الأكثر حرارة وجفافا في العالم وأشدها تأثرا بالتغيرات المناخية.

تقصي عوامل الترابط بين تغير المناخ والهجرة

من بين آخر الدراسات التي صدرت في هذا المجال، دراسة جديدة نشرت مؤخرا في دورية (Climate Services) العلمية، ركزت على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بهدف فك رموز الآليات الدقيقة التي تدفع السكان إلى الهجرة بسبب التغيرات المناخية. هذه الدراسة التي قام باها باحثون من جامعات تركية، كشفت عن دافع غير متوقع للهجرة، فإلى جانب الجفاف وموجات الحرّ النهارية، كان ارتفاع متوسط الحرارة الدنيا بشكل مستمر خاصة خلال الليل من بين الدوافع الأساسية لقرار الهجرة. سيحسّن هذا الاكتشاف، وفق المؤلفين، فهمنا للعلاقة المُعقدة بين التدهور البيئي والنزوح البشري، ويُوجّه تحذيرا واضحا لصانعي السياسات في منطقة تشهد بالفعل توترا شديدا.

يقول المؤلفون إن مفهوم “لاجئ المناخ”، على الرغم من عدم الاعتراف به دوليا بعد، أصبح واقعا لا يمكن إنكاره في عصرنا. ففي كل عام، يُجبر ملايين الأشخاص على مغادرة ديارهم، ليس بسبب الحرب أو الاضطهاد، بل لأن بيئتهم أصبحت معادية للحياة. وتمثل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مختبرا مفتوحا لهذا الواقع الجديد وذلك بسبب مواجهتها لتهديد ثلاثي الأبعاد يتمثل في النمو السكاني السريع وعدم الاستقرار السياسي المتفشي، والأهم من ذلك كله، التعرض الشديد لمخاطر المناخ. في هذه المنطقة، لم يعد التصحر المستشري وندرة المياه وتزايد الظواهر الجوية المتطرفة مجرد توقعات بعيدة المنال، بل تحديات يومية لمئات الملايين من الناس.

وفي هذا السياق، لم تعد الهجرة خيارا لكثير من الأشخاص، بل استراتيجية التكيف الوحيدة الممكنة أمامهم. وبالنسبة للباحثين، لم يعد السؤال حول ما إذا كان المناخ يدفع الناس إلى الهجرة أم لا، بل حول كيفية تأثير التغيرات البيئية والمناخية على الهجرة، وحول إشارات التحذير التي تُحفز هذه التحركات السكانية. هذا الارتباط الوثيق والمعقد بين الهجرة وتغير المناخ هو ما سعى الباحثون إلى كشفه من خلال تقديم تحليل تنبؤي للعقود القادمة، حتى عام 2080.

تحويل بيانات المناخ إلى تحليل تنبؤي لديناميكيات الهجرة

لاستكشاف تأثير التغيرات المناخية على الهجرة في المستقبل في هذه المنطقة، اعتمد فريق البحث نهجا هجينا يجمع بين النمذجة المناخية والتحليل الإحصائي. تمثل الجانب الأول منها في استخدام نموذج مناخي إقليمي متطور قادر على محاكاة تغير المناخ المستقبلي بدقة عالية في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ثم قام الباحثون بتغذية هذا النموذج بالبيانات لتوقع سيناريوهين مستقبليين، يغطيان الفترتين الممتدتين بين 2021-2050 وبين 2051-2080. لم يكتف الباحثون بالنظر في المتغيرات التقليدية مثل درجات الحرارة العظمى أو متوسط هطول الأمطار، بل أدرجوا كذلك “مؤشرات المناخ المتطرف”، وهي مؤشرات أكثر ارتباطا بالتجربة الإنسانية، مثل عدد “الأيام الحارة”، وعدد “الأيام الجافة” المتتالية، والأهم من ذلك، عدد “الليالي الاستوائية” (وهي الليالي التي لا تنخفض فيها درجة الحرارة عن 20 درجة مئوية). وقد ساعدت هذه المرحلة الأولى في رسم صورة مفصلة لمناخ المنطقة المُستقبلي.

ولفهم كيفية تفاعل الناس مع التغيرات المناخية، استخدم الباحثون في الجانب الثاني من المنهجية المعتمدة، نموذج إحصائي متطور لتحليل العلاقة بين متغيرات المناخ (الماضية والمتوقعة) والبيانات التاريخية حول معدلات الهجرة الصافية في 65 دولة في المنطقة وحولها. بعبارة أخرى، أتاح هذا النموذج إقامة علاقات ارتباط ذات دلالة إحصائية وتحديد العلاقة بين زيادة درجة مئوية واحدة أو انخفاض مليمتر واحد في هطول الأمطار في منطقة معينة واحتمالية رحيل السكان عنها. هذا المزيج من الإسقاطات الفيزيائية والتحليل السلوكي هو ما أتاح للباحثين تحويل بيانات المناخ إلى تحليل تنبؤي للديناميكيات البشرية.

ارتفاع درجة الحرارة الدنيا من بين العوامل الرئيسية للهجرة

تكشف الدراسة عن الارتباط الإيجابي والدال إحصائيا بين ارتفاع درجة الحرارة الدنيا ومعدل الهجرة الصافي، مما يعني أن ذروة الحرارة نهارا مهما بلغت شدتها لا تعد المحفز الرئيسي والوحيد للهجرة، بل يضاف إليه كذلك عامل نقص البرودة ليلا. هذه الحرارة المستمرة خلال فترة غياب الشمس من اليوم، التي يطلق عليها “الليالي الاستوائية”، لها عواقب وخيمة، وفق الباحثين، لكونها تجعل الحياة اليومية لا تُطاق وتمنع الكائنات الحية من التعافي وتحرمها من التقاط أنفاسها بعد العرض لحرارة الشمس الشديدة في النهار، مما يفاقم المشاكل الصحية للبشر ويهدد حياة هذه الكائنات.

كما أن هذه “الليالي الاستوائية” المتواصلة تؤثر أيضا على دورات نمو العديد من المحاصيل الزراعية التي تعتمد على انخفاض درجة الحرارة ليلا، وتزيد من استهلاك الطاقة لتكييف الهواء، مما يثقل كاهل الأسر الأكثر فقرًا. وتُظهر الدراسة أن هذا الضغط الخفيف والمستمر الناتج عن ارتفاع درجة الحرارة الدنيا، يمثل حافزا قويا للهجرة إلى المناطق الأكثر برودة.

في الوقت نفسه، يؤكد الباحثون وجود علاقة سلبية بين هطول الأمطار ومعدل الهجرة، فكلما قلّ هطول الأمطار، زاد عدد الأشخاص الذين يغادرون هربا من الجفاف وانعدام الأمن الغذائي. يرسم تجميع هذه النتائج صورة واضحة للمستقبل: سيجد سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أنفسهم عالقين بشكل متزايد بين حرّ الليل المتزايد وندرة الموارد المائية، مما يدفعهم إلى البحث عن ملاذ في أماكن أخرى لا تتعرض إلى هذه الضغوط بيئية والمناخية، سواء داخل حدودهم أو خارجها.

خطوة مهمة في جهود الكشف عن العوامل البيئية المؤثرة في الهجرة

تؤكد هذه النتائج، نتائج دراسات وتقارير علمية سابقة، مثل تلك الصادرة عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) والبنك الدولي، أثبتت أن تغير المناخ هو “دافع قوي للهجرة”. على سبيل المثال، قدّر تقرير “Groundswell”  الصادر عن البنك الدولي في سيناريو متشائم، أن ما يصل إلى 19 مليون شخص قد يصبحون مهاجرين داخليين بسبب تغير المناخ في شمال أفريقيا بحلول عام 2050. وحددت بعض الدراسات عوامل مثل ندرة المياه وانخفاض الإنتاجية الزراعية وارتفاع منسوب مياه البحر كعوامل رئيسية. وتكمن أصالة هذه الدراسة، وفق مؤلفيها، في دقة تحليل الترابط بين العوامل المناخية المختلفة وديناميكيات الهجرة، ففي حين تتحدث التقارير والدراسات السابقة عن “الإجهاد الحراري” بشكل عام كعامل مؤثر في الهجرة، تُسلّط هذه الدراسة الجديدة الضوء على الدور المحدد والرئيسي لدرجات الحرارة الدنيا.

ويشير المؤلفون إلى أن الأبحاث السابقة حول الهجرة البيئية سلطت الضوء في كثير من الأحيان على صعوبة عزل عوامل المناخ عن دوافع الهجرة الأخرى (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية). ومن خلال التركيز على مؤشرات المناخ المتطرف واستخدام النمذجة الإحصائية الدقيقة، تمكنت الدراسة من إثبات وجود علاقة سببية أكثر مباشرة، مما يساعد في تجاوز العموميات التي سادت هذا المجال البحثي الديناميكي الذي يسعى إلى تزويد صانعي القرار بأدلة ملموسة وقابلة للتنفيذ لهذا الترابط بين التغيرات المناخية والبيئية والهجرة.

أهمية هذه النتائج لمنطقة الشرق الأوسط

بالنسبة لدول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يقول المؤلفون إن هناك ضرورة مُلحة لدمج النتائج التي توصلت إليها الدراسة في استراتيجياتها لاستخدام الأراضي وإدارة المياه والتنمية الحضرية. ويتعين العمل على إعداد المدن التي قد تُصبح مراكز استضافة لزيادة الضغط على بنيتها التحتية وخدماتها الاجتماعية، بينما ستحتاج مناطق المنشأ إلى استثمارات ضخمة في استراتيجيات التكيف لتعزيز قدرة مجتمعاتها على الصمود، وربما توفير بدائل للهجرة. على الصعيد الدولي، يُعزز هذا العمل الحاجة إلى إطار قانوني لـ”المهاجرين البيئيين”، وهم فئة من النازحين الذين يعيشون حاليا في حالة من الفراغ القانوني. يُعدّ الاعتراف بوضعهم خطوة أولى أساسية لضمان حمايتهم وحقوقهم.

.

المراجع

The nexus between migration and environmental degradation based on fundamental climate variables and extreme climate indices for the MENA domain

– World Bank’s Groundswell report Part 2: Acting on Internal Climate Migration

.

تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x