.
يشهد العالم في العقود الأخيرة ثورة علمية غير مسبوقة في مجال التكنولوجيا الحيوية؛ ثورة تداخلت فيها علوم الوراثة والهندسة الجزيئية والمعلوماتية الحيوية مع تقنيات الذكاء الاصطناعي (AI). لقد أصبح الذكاء الاصطناعي أداة استراتيجية لتسريع الاكتشافات وتبسيط المعقد منها، بحيث لم يعد مجرد تقنية مساعدة، بل تحول إلى محرك رئيسي للتطور في علوم الحياة.
فمن التنبؤ ببنية البروتينات إلى تصميم محاصيل معدلة وراثياً مقاومة للظروف البيئية القاسية، يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقاً رحبة لمستقبل الغذاء والصحة والبيئة.
الذكاء الاصطناعي والبيولوجيا الجزيئية
من أبرز تطبيقات الذكاء الاصطناعي تحليل التتابعات الجينية؛ إذ تسمح الخوارزميات الحديثة بمعالجة كميات هائلة من بيانات الجينوم في وقت قصير، مما يساعد الباحثين على تحديد الجينات المسؤولة عن أمراض معينة أو صفات زراعية مرغوبة. المثال الأشهر هو برنامج AlphaFold الذي طورته شركة “ديب مايند”، وتمكن من التنبؤ بالبنية ثلاثية الأبعاد لعشرات الآلاف من البروتينات بدقة مذهلة، وهو ما اختصر سنوات من التجارب المعملية.
كما يُستخدم الذكاء الاصطناعي في تقنيات CRISPR-Cas9 لتوجيه قصاصات الحمض النووي بدقة أعلى، حيث تستطيع البرامج الذكية التنبؤ بمواقع القطع المثلى وتقليل احتمالية حدوث أخطاء أو تأثيرات جانبية غير مرغوبة.
التطبيقات الزراعية
في القطاع الزراعي، يساهم الذكاء الاصطناعي في تطوير أصناف جديدة من المحاصيل تتميز بقدرتها على تحمّل الجفاف والملوحة والأمراض. فالخوارزميات قادرة على تحليل ملايين البيانات الخاصة بأداء النباتات في بيئات مختلفة، واختيار الأنماط الوراثية الأكثر ملاءمة لعمليات التربية والتعديل الجيني.
على سبيل المثال، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بكيفية استجابة صنف من الذُرة المعدلة وراثياً لظروف مناخية متغيرة، أو اقتراح تعديلات جينية لتحسين إنتاجية القمح مع تقليل استهلاك المياه. كما تعتمد تقنيات الزراعة الدقيقة (Precision Agriculture) على الذكاء الاصطناعي من خلال ربط بيانات الاستشعار عن بُعد والطائرات بدون طيار بالتحليل البيولوجي للنباتات. هذا التكامل يساعد على تحديد أفضل توقيت للري والتسميد والمكافحة الحيوية، مما يحقق إنتاجية أعلى مع تقليل الأثر البيئي.
التطبيقات الطبية والصيدلانية
يُعد الطب الحيوي من أكثر المجالات التي استفادت من الذكاء الاصطناعي. فقد أصبح بالإمكان تصميم أدوية جديدة بسرعة كبيرة عبر محاكاة تفاعلات الجزيئات مع الأهداف الحيوية في الخلية. وبدل أن تستغرق عملية تطوير دواء جديد 10–15 سنة، يمكن للذكاء الاصطناعي اختصارها إلى بضع سنوات فقط.
كذلك، تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي في الطب الشخصي (Personalized Medicine)، حيث يتم تحليل الجينوم الفردي للمريض لتحديد العلاج الأمثل له. هذه المقاربة تضمن فعالية أكبر وتقليل المخاطر الجانبية. ومن أمثلتها: استخدام الذكاء الاصطناعي لاختيار بروتوكولات العلاج المناعي لمرضى السرطان استناداً إلى خصائصهم الوراثية والبروتينية.
البيوتكنولوجيا الصناعية والبيئة
يمتد دور الذكاء الاصطناعي إلى الهندسة الميكروبية، حيث يمكن تصميم ميكروبات معدلة لإنتاج مواد كيميائية نظيفة أو وقود حيوي متجدد. وبفضل الخوارزميات الذكية، يمكن التنبؤ بمسارات الأيض في الكائنات الدقيقة وتعديلها لتصبح أكثر كفاءة. كما يساعد الذكاء الاصطناعي في تطوير تقنيات لمعالجة الملوثات البيئية باستخدام إنزيمات أو بكتيريا مُصممة خصيصاً لذلك.
التحديات الأخلاقية والعلمية
رغم الإمكانات المبهرة، يطرح استخدام الذكاء الاصطناعي في التكنولوجيا الحيوية تحديات أخلاقية وقانونية معقدة. فالتدخل في الجينوم البشري أو تعديل الكائنات الحية قد يثير مخاوف حول الأمان البيولوجي وإمكانية إساءة الاستخدام. كما أن الاعتماد المتزايد على الخوارزميات قد يقلل من الشفافية العلمية إذا لم تُفهم آليات اتخاذ القرار بوضوح. ومن هنا تبرز الحاجة إلى تشريعات دولية ومعايير أخلاقية توازن بين التطور العلمي وحماية المجتمعات والبيئة.
المستقبل الواعد
من الواضح أن التكامل بين الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية سيقود إلى ثورة جديدة في القرن الحادي والعشرين. فمن المتوقع أن نشهد خلال السنوات المقبلة انتشاراً أوسع للتقنيات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي في التشخيص الطبي، والزراعة الذكية، وإنتاج البروتينات الصناعية، بل وحتى في تصميم كائنات حية جديدة لأغراض بحثية أو صناعية.
خاتمة
إن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تقنية حديثة، بل أصبح شريكاً أساسياً في تطوير التكنولوجيا الحيوية. فهو يمكّن العلماء من النظر إلى ما وراء حدود المختبر، ويفتح الطريق نحو حلول مبتكرة لأصعب تحديات البشرية: من الأمن الغذائي إلى علاج الأمراض المستعصية. غير أن هذه القوة الهائلة تضع على عاتق المجتمع مسؤولية كبرى لضمان أن يُستخدم هذا التقدم في خدمة الإنسان والطبيعة، لا في تهديدهما.
.
المراجع
1- Highly accurate protein structure prediction with AlphaFold. Nature, 596, 583–589.
2- Beyond editing to writing large genomes. Nature Reviews Genetics, 18(12), 749–765.
3- Machine Learning in Agriculture: A Review. Sensors, 18(8), 2674.
4- High-performance medicine: the convergence of human and artificial intelligence.
5- Can AI help reduce disparities in general medical and mental health care?.
6- A comprehensive metabolic map for production of bio-based chemicals.
7- Artificial Intelligence and the Public Sector—Applications and Challenges.
.
البريد الإلكتروني للكاتب: k.z.ahmed@minia.edu.eg
دكتور قاسم زكي أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة، جامعة المنيا؛ ورئيس اللجنة الوطنية للعلوم الوراثية بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، والرئيس الأسبق للجمعية العلمية الأفريقية لعلوم المحاصيل، واحد مؤسسي المجلس العالمي للنبات (GPC)؛ عضو اتحاد كتاب مصر، وعضو اتحاد الأثريين المصريين.
