رحلة في فلسفة العلم وتاريخ المعرفة

.

يُعدّ كتاب “محادثة مع رشدي راشد” من الإصدارات النادرة التي تجمع بين العمق الفلسفي، والدقّة التاريخية، والسرد الإنساني. فهو لا يقدّم فقط سيرة مفكّر بارز في تاريخ العلوم، بل يعيد طرح أسئلة أساسية حول طبيعة المعرفة، وأصول العلم، وحدود المركزية الغربية في فهم العقلانية العلمية. أهميّة هذا العمل تكمن في قدرته على الجمع بين التجربة الذاتيّة والمسار المعرفي، ليشكّل مرآةً لتاريخ طويل من الاجتهاد العربي في العلم والفلسفة.

رحلة باحث نحو المعرفة

ولد د. رشدي راشد في القاهرة عام 1936، وبدأ مبكرًا مسيرته التعليمية وسط بيئة اجتماعية متباينة، شهد فيها الفوارق الطبقية والتغيّرات السياسية، ما أثّر في تشكيل وعيه النقدي. درس الفلسفة في جامعة القاهرة، ثم انتقل إلى باريس في منتصف الخمسينيّات ليكمل دراسته في مناهج العلوم وفلسفتها، وارتبط بفكر جورج كانغيلام وأطروحاته حول تاريخ العلوم والإبستيمولوجيا.

لاحقًا، أصبح من أبرز مؤرّخي العلوم العرب، وأستاذًا في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي (CNRS)، ومحرّرًا لسلسلة ضخمة من النصوص العلمية العربية القديمة، حيث جمع بين التحقيق الدقيق، والتحليل الفلسفي الرصين.

تعدد العقلانيات وتفكيك المركزية الغربية

يناقش د. راشد من خلال هذا الحوار أطروحته المفصلية حول “العقلانيّات الممكنة”، وهي فكرة تفتح مجالًا لفهم العقل العلمي بوصفه منتجًا حضاريًا غير أحاديّ النشأة أو المسار. يرفض من خلالها اختزال العلم في التجربة الأوروبية، مؤكّدًا أنّ الحضارة العربية الإسلامية وغيرها من الحضارات قدّمت نماذج عقلانية متميّزة.

في هذا السياق، ينتقد السرديّة الغربية المهيمنة التي تبدأ العلم من اليونان وتنقله إلى أوروبا عبر “النهضة”، متجاهلة قرونًا من الإسهام العربي والإسلامي في تطوير مفاهيم علمية جديدة، لا سيّما في الرياضيات، والبصريات، والمنطق، والفلك. ويطرح أمثلة متعدّدة، أبرزها أعمال ابن الهيثم، التي لم تكن مجرّد ترجمة أو شرح، بل تأسيسًا لبرنامج بحثٍ علميّ قائمٍ بذاته، له مناهجه ومفاهيمه الخاصة.

رحلة العقل بين التجريد الرياضي والتأمل الفلسفي

يُظهر الحوار عمق تداخل اهتمام د. راشد بين الرياضيات وفلسفة العلوم، ليس فقط كمجالات بحث، بل كأدوات لفهم تطوّر العقل العلمي. يوضّح كيف أسهمت الرياضيات في تشكيل مناهج التفكير في العصور الإسلامية، خاصّة عبر أعمال الخوارزمي وابن سينا وغيرهم، كما يوضّح الحدود الفلسفية لاختزال المعرفة الإنسانية في أدوات رياضية أو نماذج صورية.

كذلك يناقش موقفه النقدي من الترميز الرياضي للعلوم الاجتماعية، مشيرًا إلى خطورة محاولات فرض مناهج العلوم الدقيقة على الظواهر الإنسانية دون مراعاة تعقيداتها. كما يعرض تصوّره لدور المؤرّخ الفيلسوف، الذي لا يكتفي بجمع النصوص وتحقيقها، بل يعمل على تفكيكها ضمن أطر تحليلية دقيقة، تربط السياق بالمفهوم.

دعوة لإعادة اكتشاف الذات العلمية

إن كتاب “محادثة مع رشدي راشد”  ليس مجرّد سيرة ذاتية، ولا مجرّد دراسة في تاريخ العلوم، بل وثيقة فكرية مركّبة، تشجع القارئ العربي على إعادة التفكير في موقعه ضمن الخريطة المعرفية العالمية. فهو يقدّم نموذجًا للمفكّر العربي القادر على المشاركة النقدية في إنتاج المعرفة العلمية، وعلى مساءلة المركزيات المعرفية السائدة.

.

المصدر: © نبراس | nBRAS 

محادثة مع رشدي راشد

.

قراءة هذا الحوار ليست فقط نافذة على فكر أحد كبار المؤرّخين المعاصرين، بل دعوة صادقة لإعادة التفكير في ما نظنّه بديهيًا، وفرصة للتأمّل في تاريخٍ علميٍّ عربي يستحق أن يُستعاد، ويُكتب من جديد، بعين ناقدةٍ وعقل مفتوح.

>

تواصل معنا: info@arsco.org