مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

معجزة المانغروف على اطراف الصحراء السعودية

من أعظم الكنوز البيئية
الكاتب

د. نزار جمال حداد

مدير برنامج منظمة (الفاو) بالمملكة العربية السعودية

الوقت

09:38 صباحًا

تاريخ النشر

25, أغسطس 2025

.

غابات المانغروف من أعظم الكنوز البيئية في بعض المناطق الساحلية؛ تحمي الإنسانَ والبيئةَ بحفاظها على التنوع البيولوجي، وتشكّل ملاذاً طبيعياً لأكثر من (4.1) مليون من صغار الصيادين في مصائد الأسماك البحرية حول العالم؛ وتحمي السواحلَ من العواصف والفيضانات، وتُسهم عالمياً في تفادي خسائرَ عقاريةٍ بنحو (65) مليار دولار، وتحمي نحو (15) مليون شخص في كافة أصقاع المعمورة.

وغابات المانغروف من أكفأ النظم البيئية في احتجاز ثاني أكسيد الكربون؛ إذ تخزِّن نحو (22.86) مليار طن، معظمها كـ “كربون” في التربة، ما يجعلها حليفاً طبيعياً في مواجهة تغير المُناخ. إلا أنها تواجه تهديداتٍ متسارعةً، أبرزُها تحويلُ الأراضي للزراعة، والاستخراج غير المستدام للموارد، والتلوث، وبالتالي فقدان نحو (30%) منها عالمياً خلال الأربعين عاماً الماضية.(6)

تسلّط منظمةُ الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) الضوءَ على الوضع الحرج للغابات، مُشيرةً لخضوع (42%) منها حالياً للحماية. وفي إطار الالتزام العالمي بالتنمية المستدامة، تبنّت (71) دولةً حلولاً طبيعيةً قائمةً على النظُم البحرية والساحلية ضمن اتفاق باريس للمُناخ، تماشياً مع الهدف “14” من أهداف التنمية المستدامة، الهادف للحفاظ على النظُم البحرية وتعزيز قدرة المجتمعات الساحلية على مواجهة تغير المُناخ. ومنذ عام 1996، يقود التحالفُ العالميُّ للمانغروف جهوداً لوقف فقدان هذه الغابات واستعادة المناطق المتضررة، وتتواصل المبادراتُ الدوليةُ مثل “عقد الأمم المتحدة لاستعادة النظم البيئية” لتعزيز جهود الحماية، إدراكاً لدور المانغروف في التكيّف المُناخي وصحة البيئة العالمية.(18)

وفي تحوُّلٍ بيئيٍّ لافتٍ، تعيد المملكةُ العربيةُ السعوديةُ رسم ملامحِ قصّتِها البيئية، متجاوزةً صورتَها النمطية لعقود كأرضٍ صحراويةٍ غنيةٍ بالنفط، لتكشف اليومَ عن وجهٍ حيويٍ أخضرَ على سواحلها، تحرسه غاباتُ المانغروف طبيعياً لمواجهة تغير المُناخ وتآكل السواحل وفقدان التنوع الأحيائي.

تخزّن أشجارُ المانغروف (4) أضعاف كمية الكربون مقارنةً بالغابات الأرضية، بفضل تربتها العميقة الغنيّةِ بالمواد العضوية. وعلى امتداد سواحل البحر الأحمر والخليج العربي، تُشكّل هذه الغاباتُ دعامةً حيويةً لاستقرار النظُم البيئية الساحلية، وتوفِّر موائلَ غنيةً للحياة البحرية، وتُعدُّ من أكفأ مصائد الكربون الأزرق عالمياً؛ بفضل الرواسب العضوية، وعمليات إذابة الكربونات الفريدة المُعزِّزة لامتصاص ثاني أكسيد الكربون بما يتجاوز الآليات التقليدية للدفن، لتكون حليفاً استراتيجياً في المعركة العالمية ضد تغير المُناخ.(1)(2)(3)(4)

مؤخراً، كشف فريقُ علماء، بالتعاون مع التحالف العالمي للمانغروف، أن هذه الغابات تختزن نحو (6.23) جيجا طن من الكربون في تربتها وكتلتِها الحيوية، لتكون خطَّ الدفاع الأول في مواجهة تغيّر المُناخ. لكن قيمتَها البيئية لا تتوقف هنا؛ فبحسب الاتحاد الدولي لصون الطبيعة، تُعد هذه الغابات حاضناتٍ طبيعيةً وملاذاً آمناً لصغار الأسماك والقشريات من المفترِسات، وتسهم في تعزيز إنتاجية المصائد الساحلية. كما تُعد نقاطاً ساخنةً للتنوع الأحيائي، ومواقعَ مثاليةً لمراقبة الطيور خاصةً الأنواع المهاجرة التي تتخذها كمحطاتٍ للراحة والتغذية. وتعتبر غاباتُ المانغروف وجهاتٍ ترفيهيةً فريدةً تجمع الغطاء النباتي الكثيف ونسمات البحر العليلة، كمنتزه أرامكو البيئي للمانغروف في رأس تنورة، نموذجاً للتفاعل المجتمعيّ مع الطبيعة، والتوعية والتعليم البيئي. وفي المملكة، يضطلع المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية بدور محوري لحماية الكائنات في بيئة المانغروف، من الطيور الساحلية للافقاريات البحرية، ببرامجَ علميةٍ دقيقةٍ وفق أسسٍ وطنيةٍ راسخةٍ في مجال الحفظ البيئي.(1)(5)(12)(13)(16)(17)

وتواجه هذه النظمُ البيئيةٌ تهديداتٍ متزايدةً؛ ففقد العالمُ نحو (284.000) هكتار من غابات المانغروف بين عامي 2000 و2020، نتيجةً للتوسع العمراني الساحلي والتلوث والرعي الجائر. وفي منطقة البحر الأحمر وحدَها، تدهور أكثرُ من (70%) من الغابات بفعل الرعي غير المنضبط والبناء وتصريف مياه الصرف الصحي، مما يُعرّض الطبيعةَ والمجتمعاتِ الساحلية المجاورة لمخاطرَ بيئيةٍ جسيمةٍ.(6)(7)

ولمواجهة التحديات البيئية المتسارعة، أطلقت المملكةُ مبادرةً لإحياء غابات المانغروف، يقودُها المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر، بنهجٍ علميٍّ دقيقٍ ورؤيةٍ بيئيةٍ بعيدة المدى. فمنذ عام 2020، غُرسَت أكثرُ من (37) مليون شتلة مانغروف، ضمن خطة طموحة للوصولَ لـ (100) مليون شتلة بحلول عام 2030. وتُركز هذه الجهود على أنواع المانغروف المحلية المُتكيّفة بفرادةٍ مع أنماط المدّ والجزْر في البيئة الساحلية للمملكة، مع نسب بقاءٍ تجاوزت (90%) في مواقع الاستزراع في تبوك وجازان وأملج والمنطقة الشرقية.(8)(9)

ولا يقتصر أثرُ هذه النهضة الخضراء بيئياً، بل بات لها قيمةٌ اقتصاديةٌ. ففي عام 2023، نجح مُربّو النحل السعوديون بحصاد (6) أطنان من عسل المانغروف النادر، بإدارة أكثر من (47.000) خلية نحل. وحظي هذا العسل العضوي باعترافٍ دوليٍّ ، بالفوز بالميدالية الذهبية في جوائز باريس الدولية للعسل.(9)(11)

وتعزيزاً للتنمية الريفية المستدامة، أطلق برنامج “ريف السعودية” والمنفذ بين وزارة البيئة والمياه والزراعة ومنظمة (الفاو)، سلسلة برامج تدريبيةٍ متخصصةٍ في إنتاج العسل العضوي لأكثر من (114) مُربّي نحل، في مؤشرٍ واضحٍ على تنامي الاهتمام بالممارسات الزراعية المستدامة. هذه المبادراتُ تُعيد رسمَ ملامح الاقتصاد المحلي، وتفتحُ مساراتٍ جديدةً للرزق والتمكين الاقتصاديّ، خاصةً للشباب والنّساء وروّاد الأعمال، بدعم مشاريعَ قائمةٍ على الطبيعة تعزّز اقتصادات المناطق الساحلية.(12)

 الصور مستخدمة بتصريح من المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر، وتخضع لحقوق النشر

.

نهضة المملكة في استزراع المانغروف ليست إنجازاً محلياً؛ بل نموذجٌ عالميٌ يُحتذى به لاستعادة النظم البيئية الساحلية في المناطق الجافة. وبدعمِ القيادة الوطنية والاستناد للخبرات الفنية كمنظمة (الفاو)، تجسّد هذه المبادرةُ مُخرجات رؤية المملكة 2030، وتحقق أهداف التنمية المستدامة.(13) (14)

رسالة هذه الجهود، تحمل رؤيةً عميقةً لمستقبل أكثرَ استدامةً: “حين نُعيد إحياءَ الطبيعة، فإننا نُعيد بناءَ مستقبلنا”. وعبر هذه الثورة الخضراء، تُحوّل المملكةُ سواحلَها لنظمٍ بيئيةٍ حيويةٍ، لا تحمي البيئة فحسب، بل تمتد لتشمل تمكينَ المجتمعات، وتعزيزَ الأمل في عالم أكثر مرونةً وقدرةً للتكيّف مع التحديات البيئية.

.

المراجع

1- Food and Agriculture Organization of the United Nations. (2023).

2- Donato, D., Kauffman, J., Murdiyarso, D. et al. (2011). Mangroves among the most carbon-rich forests in the tropics.

3- Mangroves among the most carbon-rich forests in the tropics | Nature Geoscience.

4- Blue carbon and the role of mangroves in carbon sequestration.

5- Financial Times. The potential of blue carbon in the Red Sea.

6- PERSGA/GEF (2020). State of the Marine Environment Report for the Red Sea and Gulf of Aden Region.

7- Leal, Maricé and Spalding, Mark D (editors), (2024). The State of the World’s Mangroves 2024. Global Mangrove Alliance.

8- The State of the World’s Forests 2020. Forests, biodiversity and people.

9- National Center for Vegetation Cover Development and Combating Desertification (NCVC) (2024).

10- Ministry of Environment, Water and Agriculture (MEWA) (2024).

11- MEWA & FAO (2024). Mangrove Honey Production Impact Assessment.

12- Sustainable Agricultural Rural Development Programme (REEF) Monitoring Data.

13- Environmental Sustainability and Economic Diversification.

14- United Nations Sustainable Development Goals (SDGs).

15- Mangroves for Biodiversity and Livelihoods. IUCN Global Report.

16- National Center for Wildlife (NCW). (2024). Mangrove Fauna Conservation Annual Report.

17- ARAMCO Ras Tanura Mangrove Eco Park.

18- Remote sensing techniques for mapping and monitoring mangroves at fine scales. Rome, FAO.

 

.

البريد الإلكتروني للكاتب: Nizar.Haddad@fao.org

الدكتور نزار حداد من الكفاءات العربية في مجالي الزراعة والابتكار الزراعي، وكاتب متخصص في قضايا البيئة والتنمية الزراعية المستدامة، إذ يجمع بين خلفية أكاديمية رصينة تشمل دكتوراه في الهندسة الزراعية، وماجستير في النظم الزراعية وأخر في الإدارة والدراسات الاستراتيجية، إضافة إلى دبلوم عالي في إدارة الموارد الوطنية.

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x