.
وسط ضجيج الأزْمات وأحداث عدم الاستقرار التي تتصدر عناوين الأخبار في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تمر قضايا المُناخ دون أن تحظى بالاهتمام الكافي، وتُهمَّش تحدياتٌ كالتصحر والجفاف، والفيضانات والحرائق، رغم أنها لا تقل خطورةً على البشرية عن النزاعات المسلّحة. فهذه الأزمات “الصامتة” لا تثير العناوين العاجلة، لكنها تفتك بالطبيعة والبشر والحجرِ بوتيرةٍ مضطّردةٍ. ويكفي أن نُصغي إلى معاناة أكثرَ من (500) مليون إنسان في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يواجهون يومياً واقعاً قاسياً من هذه التحديات (1).
فليست الأرضُ السليمةُ مجرد تربة، بل مصدر الحياة؛ فهي تنتج الغذاءَ، وتخزّن المياه، وتحبس الكربون، وتؤمّن سبلَ العيش. أما الأراضي المتدهورة، فهي على النقيض تماماً. ومن جبال الأطلس غرباً إلى وادي دجلةَ والفرات شرقاً، تمتد أراضٍ تُعدُّ من الأشدّ جفافاً والأسرعِ تدهوراً على وجه البسيطة. ومع ارتفاع درجات الحرارة في المنطقة بمعدّلٍ يقارب ضعفَ المعدّل العالميّ، تتفاقمُ أزمةُ المياه، وتشتدّ موجاتُ الحرّ، ويتسارع زحفُ التصحّر، لتصبح هذه التحديات جزءاً من تفاصيل الحياة اليومية(2). وفي ظلّ نموٍّ سكانيٍّ هو الأسرع عالمياً، تتضاعف الضغوطُ على الموارد الطبيعية، مما يهدّد الأمن الغذائيّ، ويقوّض الاستقرارَ الاقتصادي، ويضع التماسكَ الاجتماعيَّ على المِحكّ(3).
لكن ما تشهده منطقةُ الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا ينبغي النظر إليه كأزمةٍ محليةٍ، بل هو جرس إنذارٍ مبكرٍ لما قد يواجهُه العالمُ بأسره. فبحسب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، ارتفعت وتيرةُ الجفاف ومدتُه عالمياً بنسبةٍ تقارب (30%) منذ عام 2000، في مؤشرٍ واضحٍ على تسارع التغيّرات المُناخيّة(4). واليوم، يعيش أكثرُ من (3.2) مليار شخصٍ تحت وطأة تدهور الأراضي، فيما يفقد العالمُ سنوياً نحو (12) مليون هكتار من الأراضي الزراعية الخصبة(5).
ورغم هذا الواقع المقلق، فإن المنطقة لا تكتفي برصد التحديات، بل تقدم حلولاً مُبتَكرةً ومُلهِمةً. حيث تشهد المملكةُ العربيةُ السعوديةُ تحوُّلاً نوعيّاً في التعاطي مع التغير المُناخي، يتجاوز مجرد التكيُّف، ليصل لمحاولة عكس آثاره عبر مشاريعَ رياديةٍ طموحةٍ لإعادة تأهيل الأراضي، استعادة المراعي، زراعة الأشجار، وتعزيز القدرة على التكيف المُناخي.
وتُجسِّد مبادرةُ السعودية الخضراء(6) هذا التوجُّهَ الطموح، بتعهُّدها بزراعة (10) مليارات شجرة، وتأهيل (40) مليون هكتار من الأراضي المتدهورة. ويُعد الابتكار لُبَّ هذا المجهود وجوهرَه، حيث طُوِّرت في المنطقة الشرقيّة تقنيةٌ فريدةٌ بالتعاون بين الأذرع الفتيّة لوزارة الزراعة ومن بينها المؤسسة العامة للري (SIO) من ناحية، والخبراء العاملين في برنامج منظمة (الفاو) في المملكة من جهةٍ أخرى، تعتمد على استخدام مُخلفات مَزارع النخيل من السعف الجاف لتثبيت الكثبان الرمليّة. تحوّل هذا المورد الطبيعي من عبءٍ على الطبيعة ليصبح اليوم أداةً فعّالةً للحدّ من حركة الكثبان الرملية والتعرية الرّيحيّة، تقليل تبخُّر المياه، وتهيئة بيئةٍ مثاليّةٍ لإنبات البذور الكامنة في قطاع التربة كاسِرةً سكونَها ومانحةً لها الحياة.
هذا وتسير المملكةُ، عبر إحدى مؤسسات وزارة البيئة والمياه والزراعة (MEWA) وهي المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر (NCVC) وبالتعاون مع منظمة (الفاو)، بخطىً سريعةٍ لتنفيذ رؤية طموحة لإعادة تأهيل الأراضي، ترتكز على العلم والابتكار. فمن خلال تطوير أنظمة مراقبة الأراضي المعتمدة على بياناتٍ دقيقةٍ عبر محطات رصد الكثبان الرملية وحِراكِها، وتوسيع نطاق تقنيات الإدارة المستدامة، وتدريب الكفاءات الوطنية على الممارسات الذكيّة مُناخياً، تُبنى اليوم أسسٌ صلبةٌ لمستقبلٍ أكثرَ مرونةً. وقد تم تأهيلُ أكثرَ من (40) خبيراً وطنياً في مناطقَ عدةٍ مثل الجوف، والرياض، والمنطقة الشرقية. ورغم أن الحلول مصمّمةٌ خصيصاً لتناسب النُظُمَ البيئيةَ في المملكة، إلا أنها تحمل في جوهرِها قابليةَ التوسُّع والتطبيقِ على نطاقٍ فوق- قُطريٍّ وعابرٍ للحدود(7).
ولأن التحديات المُناخية لا تتوقف عند حدود الدول، أطلَقَت حكومةُ المملكة “مبادرة الشرق الأوسط الأخضر”(8)؛ لتعزيز التعاون الإقليميّ في مواجهة التغيّر المُناخيّ. كما تقود المملكةُ على الساحة الدولية “شراكة الرياض العالمية لتعزيز القدرة على الصمود في وجه الجفاف”(9)؛ وهي مبادرةٌ رائدةٌ تهدف إلى دعم الدول الأكثر هشاشةً في مواجهة هذه الظاهرة المتفاقمة.
ومنذ الإعلانِ عن هذه الشراكة خلال مؤتمر الأطراف الـ 16 لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (COP16)(10) الذي استضافته الرياض عام 2024، تم حشد أكثر من (3) مليارات دولار لدعم جهود التصدي للجفاف عالمياً. ويعكس هذا الزخم المتزايدُ حقيقة أن إعادة تأهيل الأراضي ليست مجرد التزامٍ بيئيٍّ، بل استثماراً استراتيجياً ذا عائدٍ مرتفع؛ إذ تُقدّر منظمة (الفاو) أن كل دولارٍ يُستثمر في هذا المجال يمكنه تحقيق عائدٍ يصل لـ (30) دولاراً من حيث الفوائد الاقتصادية والبيئية(11).
وفي قلب هذه الجهود، تلعب منظماتُ المجتمع المدنيّ والمجتمعاتُ المحليةُ دوراً متنامياً، بإنشاء مشاتلَ للنباتات المحلية، وبناء أحزمةٍ خضراءَ، وتعزيز الوعي البيئيّ بأهمية حماية النظُم البيئيّة. وتُعد جمعياتٌ مثل “سدر الجوف للأشجار البرية” في منتزه الأضارع الوطني(12) وجمعية البيئة ومكافحة التصحر وتعاونية اليسر والنباتات الصحراوية ومبادرة الأبنية الخضراء نموذجاً مُلهِماً لتعزيز الصمود البيئي وروح المُواطَنة والابتكار المحليّ. هذا التآزرُ بين العمل المحليّ، والتخطيط الوطنيّ، والتعاون الدوليّ يُعد رافعةً ومُحفِزاً يصنعُ الفارق الحقيقي، ويؤسس لنتائجَ مستدامةٍ تعزز منعَة المجتمعاتِ وقدرتَها على التكيّف مع تغير المُناخ. وهو في الحقيقة نموذجٌ رياديٌّ يحتاجُه عالمُنا اليوم.

تنفيذ ميداني لتثبيت الكثبان الرملية باستخدام مخلفات النخيل، بالتعاون مع المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي، والمؤسسة العامة للري، ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو).
.
رغم تسارع أزمةِ المُناخ، فإن الحلول تتسارع معها أيضاً؛ بفضل أولئك الذين يقفون في الخطوط الأمامية. فالدول الأكثرُ عرضةً للمخاطر المُناخية تتحول لمنصاتٍ للابتكار، ومراكزَ للقيادة البيئية. وما تبتكره المملكةُ اليوم بالتعاون مع منظمة (الفاو) وغيرها من الشركاء المحليين والدوليسن والأمميين، قد يرسم ملامحَ ما ستفعله الحكوماتُ في جنوب أوروبا، ومنطقة الساحل الإفريقي والولايات المتحدة الأمريكية في مناطق مثل كاليفورنيا للتعامل مع هذه التحديات المُناخية غداً.
.
المراجع
1. Reliefweb. (2025). Building a water-secure future in the Middle East and North Africa.
2. National Aeronautics and Space Administration, (2024), Evidence, Evidence – NASA Science .
3. United Nations. (2024). World Population Prospects 2024- Northern Africa and Western Asia. World Population Prospects.
4. United Nations Convention to combat Desertification. (2022). Drought in Numbers 2022.
5. Food and Agriculture Organization of the United Nations. (2025). agricultural land degradation in the Arab region.
6. Saudi & Middle East Green Initiatives. Saudi & Middle East Green Initiatives.
7. FAO reaffirms commitment to land restoration on World Day to combat Desertification and Drought.
8. Saudi & Middle East Green Initiatives. Information About Middle East Green Initiative.
9. Ministry of Environment, Water and Agriculture. (2024).
10. UNCCD- COP16 Riyadh (2024. (2024). UNCCD COP16 Riyadh.
11. United Nations Decade on Ecosystem Restoration. UN Decade on Restoration.
12. Food and Agriculture Organization of the United Nations.
.
البريد الإلكتروني للكاتب: Nizar.Haddad@fao.org
الدكتور نزار حداد من الكفاءات العربية في مجالي الزراعة والابتكار الزراعي، وكاتب متخصص في قضايا البيئة والتنمية الزراعية المستدامة، إذ يجمع بين خلفية أكاديمية رصينة تشمل دكتوراه في الهندسة الزراعية، وماجستير في النظم الزراعية وأخر في الإدارة والدراسات الاستراتيجية، إضافة إلى دبلوم عالي في إدارة الموارد الوطنية.