.
في ظل تغيرات مناخية متسارعة، وتقلص الموارد المائية، يواجه العالم تحديًا حيويًا يتمثل في كيفية الحفاظ على الإنتاج الزراعي في بيئة أصبحت أكثر قسوة وجفافًا.
ومع تكرار موجات الحرارة وندرة الأمطار، لم تعد الطرق التقليدية في الزراعة كافية، ما دفع العلماء والمزارعين والحكومات إلى طرق أبواب العلم الحديث، وعلى رأسها الهندسة الوراثية، بحثًا عن حلول جذرية ومستدامة.
أزمة الجفاف تهدد الأمن الغذائي
وفقًا لتقارير منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، فإن ما يقرب من 40% من الأراضي الزراعية حول العالم تتعرض حاليًا لأشكال مختلفة من الجفاف(1). وفي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – وهي من أكثر المناطق تأثرًا – بات الجفاف عاملًا محددًا للإنتاج الزراعي وقدرة الدول على تحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الأساسية.
إن التغير المناخي لا يعني فقط ارتفاع درجات الحرارة، بل ينعكس في أنماط غير مستقرة من الهطول المطري، وزيادة في تبخر المياه من التربة، ما يؤدي إلى تدهور خصوبتها، وجفاف الجذور، وضعف المحصول، بل وفشل الزراعة أحيانًا في بعض المناطق.
ماذا تقدم الهندسة الوراثية؟
الهندسة الوراثية، أو التكنولوجيا الحيوية الحديثة، تمكّن العلماء من إدخال أو تعديل جينات معينة في النباتات بهدف تعزيز صفات محددة، مثل تحمل الحرارة، ومقاومة الجفاف، والكفاءة العالية في استخدام المياه (2).
من خلال نقل جينات من نباتات مقاومة للجفاف إلى أخرى أكثر إنتاجية، أصبح من الممكن تطوير سلالات زراعية تحتفظ بقدرتها الإنتاجية حتى في ظل ظروف بيئية قاسية. على سبيل المثال، أُنتجت سلالات من القمح والذرة تستطيع تقليل فقدان الماء عبر الأوراق، أو تطوير جذور أعمق تصل إلى مصادر مياه جوفية.
ومن أبرز النجاحات في هذا المجال:
– نبات الأرز المعدل وراثيًا والذي أُدخلت عليه جينات من نبات “الذرة الرفيعة” لزيادة تحمله للجفاف.
– قمح “HB4” المقاوم للجفاف، والذي طُور في الأرجنتين عبر إدخال جين من دوار الشمس، ليصبح أكثر قدرة على الإنتاج في البيئات الجافة.
هل تأقلمت النباتات بالفعل؟
النجاحات المعملية باتت واضحة، لكن التأقلم الحقيقي يُختبر في الحقول. وقد أظهرت التجارب الميدانية أن بعض النباتات المعدلة وراثيًا تحقق إنتاجية جيدة تحت ظروف جفاف معتدلة، إلا أن فاعليتها تتراجع عند تعرضها لجفاف حاد ومطوّل. وهنا يظهر التحدي: فالهندسة الوراثية ليست “عصا سحرية” لحل كل المشاكل، لكنها أداة فعالة ضمن حزمة من الحلول، تشمل تحسين إدارة المياه، وتعديل أنظمة الري، والزراعة في الأوقات المناسبة، إلى جانب تبني أصناف محسّنة تقليديًا أو وراثيًا.
تحديات ومخاوف أخلاقية
رغم الآمال المعلقة على المحاصيل المعدلة لتحمل الجفاف، إلا أن المسار ليس خاليًا من العقبات. فهناك مخاوف بيئية تتعلق بتأثير هذه المحاصيل على التنوع البيولوجي، واحتمال انتقال الجينات المعدلة إلى أنواع نباتية برية مجاورة، ما قد يخلّ بالتوازن البيئي. كما يثير البعض تساؤلات حول تبعية الدول النامية للشركات الكبرى التي تمتلك براءات اختراع هذه المحاصيل، ما يهدد السيادة الزراعية وحقوق المزارعين التقليديين.
من جانب آخر، لا تزال بعض المجتمعات – ومنها مجتمعات عربية – تتحفظ على تناول أو زراعة هذه المحاصيل لأسباب ثقافية أو دينية أو صحية، رغم أن الهيئات العلمية العالمية (مثل هيئة سلامة الأغذية الأوروبية، ومنظمة الصحة العالمية) لم تُثبت حتى الآن أي مخاطر صحية مباشرة من هذه المحاصيل (3).
فرصة للمناطق الجافة.. ولكن بشروط
في الدول العربية، حيث الجفاف شبه دائم، يمكن أن تلعب الهندسة الوراثية دورًا محوريًا في تأمين الغذاء، إذا ما تم توجيه البحوث لتطوير سلالات محلية تراعي خصوصيات البيئة والثقافة الزراعية (4). فبدلًا من استيراد تقنيات جاهزة، يمكن الاستثمار في مراكز أبحاث وطنية أو إقليمية تعمل على تكييف النباتات المعدلة مع ظروف التربة والمناخ المحلي.
ويشترط نجاح هذا التوجه بوجود تشريعات واضحة وآمنة، ونظم رقابة صارمة، وسياسات تحمي المزارعين من الاحتكار التجاري، وتضمن الشفافية في تداول البذور وتقييم آثارها.
وخلاصة القول ان الهندسة الوراثية ليست رفاهية علمية، بل أصبحت ضرورة زراعية في مواجهة الجفاف المتفاقم. لكن تأقلم النباتات مع الجفاف لن يكون ممكنًا إلا بتكامل المعرفة العلمية مع الحكمة البيئية، والإرادة السياسية، وقبول مجتمعي يقوم على الشفافية والمشاركة.
وفي النهاية، فإن قدرة النباتات على التأقلم ليست مجرد مسألة جينات، بل قصة تتعلق بكيفية تأقلمنا نحن مع الطبيعة، وكيف نوظف العلم لخدمة الاستدامة لا لمزيد من الهيمنة على الأرض.
.
المرجع
1- Human impact on the environment
2- Genetically engineered crops for sustainably enhanced food production systems.
3- هل تساعد الهندسة الوراثية في مواجهة نقص الغذاء؟
4- قاسم زكي (2014) آمـال الهندسة الوراثية والتقنيات الحيوية، رغم العوائق والتحدِّيات.
.
البريد الإلكتروني للكاتب: k.z.ahmed@minia.edu.eg
دكتور قاسم زكي أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة، جامعة المنيا؛ ورئيس اللجنة الوطنية للعلوم الوراثية بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، والرئيس الأسبق للجمعية العلمية الأفريقية لعلوم المحاصيل، واحد مؤسسي المجلس العالمي للنبات (GPC)؛ عضو اتحاد كتاب مصر، وعضو اتحاد الأثريين المصريين.