مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

بحث علمي يكشف أسرار أصول المصريين القدماء

جينوم مصري قديم يعيد رسم خريطة الهوية الوراثية

الكاتب

د. قاسم زكي

أستاذ الوراثة، كلية الزراعة - جامعة المنيا

الوقت

07:24 مساءً

تاريخ النشر

08, يوليو 2025

.

في إنجاز علمي غير مسبوق، أعلن في الثاني من يوليو 2025م، فريق دولي يضم مجموعة من الخبراء المختصين في مجالات علم الوراثة القديمة (ancient DNA)، والأنثروبولوجيا، والآثار؛ عن تحليل أول جينوم بشري كامل من مصر ينتمي إلى أحد سكان المملكة القديمة، وهو ما يُعد خطوة ثورية في فهم أصول المصريين القدماء وتاريخهم الجيني.

الدراسة تمثل تعاونًا بين جامعات ومعاهد بريطانية (Liverpool John Moores, University of Aberdeen) ومعهد (Francis Crick) في لندن، إلى جانب 21 باحثا من تخصصات مختلفة (علماء آثار، وعلماء وراثة، وأخصائيو أنثروبولوجيا مادية، على رأسهم قيادة مشتركة من كل من الدكتور “لينوس جيرلاند فلينك” (Dr LINUS GIRDLAND FLINK، جامعة أبردين= University of Aberdeen) والدكتور “‏بونتوس سكوجلوند” (‏مختبر الجينوم القديم، معهد فرانسيس كريك، لندن، المملكة المتحدة‏).   نشرت الدراسة في مجلة Nature المرموقة:

Morez Jacobs, A., Irish, J.D., Cooke, A. et al. Whole-genome ancestry of an Old Kingdom Egyptian. Nature (2025).

 ويقولون انهم نجحوا بعد سنوات من المحاولات التي أُجهضت بسبب الظروف البيئية القاسية التي تؤدي إلى تدهور الحمض النووي في المقابر المصرية.

من هو صاحب الجينوم؟

الفرد المعني تم اكتشافه في موقع أثري بمنطقة “نويرات” جنوب القاهرة بـ 265 كم (قرية النويرات على الشاطئ الشرقي لنهر النيل جنوب المطاهرة الشرقية مباشرة وشمال مقابر بني حسن الشروق بحوالي 8 كم، وتواجهها بالشاطئ الغربي للنيل قرية المطاهرة القبلية، مركز أبو قرقاص، محافظة المنيا)، ويعود هذا الفرد إلى الفترة ما بين 2855 و2570 قبل الميلاد، أي خلال حكم الأسرة الثالثة أو الرابعة، وهي الحقبة التي شُيّدت فيها الأهرامات. المثير أن الرجل دُفن داخل جرّة فخارية ضخمة داخل قبر صخري (شكل 1)، وهو نمط دفن نادر، عادة ما كان مخصصًا لأفراد ذوي مكانة اجتماعية مرموقة.

الرحلة من المقبرة إلى الجينوم

استُخرجت الرفات البشرية من مقبرة النويرات. وتبرعت بها مصلحة الآثار المصرية بين عامي 1902م و 1904م لأعضاء لجنة تنقيب بني حسن، الذين تبرعوا بها لاحقًا لمعهد الآثار بجامعة ليفربول، وصُدّرت بموجب تصريح “جون جارستانج” للتصدير. ثم تبرع بها إلى المتحف العالمي (متحف مدينة ليفربول سابقًا) عام 1950م. وحصل المتحف العالمي على تصريح أخذ العينات. تم أخذ العينات واستخراج الحمض النووي من سبعة أسنان دائمة تخص فرد نويرات في معامل الحمض النووي القديمة المخصصة في جامعة ليفربول جون مورس. واستكملت خطوات استخلاص وتنقية وقراءة تتابع قواعد الحمض النووي كما هو مذكور بالتفصيل في متن البحث المنشور.

(أ). الموقع الجغرافي لمقبرة النويرات (النقطة الحمراء) والأفراد الذين سبق تسلسلهم من الفترة الانتقالية الثالثة من أبوصير الملق  (الماسة الأرجوانية). ب)، إناء فخاري تم اكتشاف فرد النويرات فيه. (ج )، فقرات عنقية تنتمي إلى فرد النويرات مع وجود دليل على هشاشة العظام الشديدة (الأسهم)(. د)، ملخص البيانات الجينومية والكربون المشع. (هـ) ، الجدول الزمني للحضارة المصرية وتاريخ الكربون المشع لأفراد النويرات والفترة الانتقالية الثالثة.

معلومات مدهشة عن حياته ومظهره

الدراسة كشفت أن هذا الرجل عاش حتى عمر يُقدر بين 44 و64 عامًا، وهي فئة عمرية متقدمة بالنسبة لعصره. الطول التقريبي له بلغ حوالي 160 سم. وبالرغم من دفنه في قبر فخم نسبيًا، فإن فحص العظام أظهر علامات واضحة على الإجهاد البدني وأمراض المفاصل، ما يشير إلى أنه ربما عمل في مهنة شاقة كصناعة الفخار، وهو ما تدعمه الرسوم الجدارية القديمة. التحليل الجيني توقع أن لون بشرته كان داكنًا إلى أسود، مع شعر وعينين بنيين، بما يتسق مع التنوع الطبيعي في شمال إفريقيا في ذلك الزمن

أصوله الجينية… مفاجأة !

التحليل الوراثي أظهر أن نحو 78% من أصول هذا المصري القديم تعود إلى شمال إفريقيا، وبشكل خاص إلى مجتمعات النيوليت الأوسط في المغرب (العصر الحجري الحديث). أما المفاجأة الكبرى، فهي أن 22% من أصوله جاءت من ميزوبوتاميا (بلاد الرافدين)، وهي منطقة تقع اليوم في العراق وجزء من إيران. هذا يكشف أن التفاعل بين مصر وبلاد الرافدين لم يكن مقتصرًا على التجارة أو تبادل الأدوات الزراعية والنقوش، بل شمل أيضًا تفاعلات سكانية حقيقية وهجرة بشرية عبر البحر المتوسط وربما البحر الأحمر.

كيف تم التحقق من هذه النتائج ؟

استخدم الباحثون أحدث التقنيات في علم الجينوم، بما في ذلك أدوات متقدمة لتحليل تسلسل الحمض النووي المتدهور بسبب الزمن. كما خضع تحليل الجينوم لنماذج مقارنة مع آلاف الجينومات القديمة والحديثة من مناطق مثل المشرق، والقوقاز، وشمال وغرب إفريقيا. نتائج المقارنة دعمت بوضوح فرضية التمازج بين السكان المحليين ومجموعات بشرية قادمة من الشرق.

مصر القديمة ليست جزيرة معزولة

لطالما تصور البعض أن الحضارة المصرية القديمة تطورت في عزلة نسبية، بعيدة عن التفاعلات السكانية المباشرة مع الجيران. لكن هذا البحث ينفي ذلك تمامًا. فالتداخل الجيني بين المصريين القدماء وسكان الهلال الخصيب يظهر أن مصر كانت جزءًا من شبكة أوسع من التفاعل السكاني والثقافي منذ فجر التاريخ. بل إن الفريق البحثي أشار إلى أن الجينوم المصري من “نويرات” يُشبه كثيرًا سكان المشرق في العصر الحجري الحديث، ويتشابه بشكل أقل مع سكان بلاد الشام في العصر البرونزي، ما يعزز فرضية وجود موجة مبكرة من الهجرة من الشرق إلى وادي النيل قبل عصر الأهرامات.

ماذا عن المصريين المعاصرين؟

الدراسة قارنت أيضًا الجينوم القديم بجينومات المصريين المعاصرين. واتضح أن المصريين اليوم يحملون قدرًا كبيرًا من الأصول الجينية المرتبطة بمصريي “نويرات”، إلا أن هناك إضافات لاحقة من إفريقيا جنوب الصحراء وأوروبا والشرق الأدنى، جاءت عبر موجات هجرة لاحقة خلال العصور الفرعونية واليونانية والرومانية والإسلامية.

لماذا هذه الدراسة مهمة؟

هذه النتائج لا تكتفي فقط بإعادة رسم خريطة الأصول الجينية للمصريين القدماء، بل تفتح أيضًا الباب أمام تساؤلات كبرى حول حركة البشر وتكوين المجتمعات في عصور ما قبل التاريخ. كما تسلط الضوء على أهمية مصر كمركز جغرافي وثقافي كان دائمًا في قلب التفاعلات بين إفريقيا وآسيا وأوروبا. وربما الأهم من ذلك، أنها تبرهن أن “الهوية المصرية” كانت منذ نشأتها مزيجًا غنيًا من الداخل والخارج، من الجذور المحلية والروابط الإقليمية، وهو ما يُكسبها فرادتها واستمراريتها على مدى آلاف السنين.

.

قراءة نقدية عن الدراسة

رغم أهمية هذا الاكتشاف، إلا أن الدراسة لا تخلو من ملاحظات علمية يجب طرحها بحذر:

محدودية العينة: الاعتماد على تحليل جينوم شخص واحد فقط من مصر القديمة يجعل التعميم على كامل المجتمع المصري القديم غير دقيق. فربما لا يمثل هذا الفرد السكان المحليين كافة، خاصة مع كونه مدفونًا في قبر فخم.

تحديات نمذجة الأصول: أدوات التحليل مثل qpAdm تعطي نتائج تقريبية تعتمد على فرضيات أولية. اختيار “المجموعات المرجعية” لتحليل الأصول قد يستبعد تأثيرات من مناطق قريبة مثل النوبة أو الواحات أو حتى مصر العليا.

تجاهل إفريقيا جنوب الصحراء: تشير النتائج إلى غياب أصول من إفريقيا جنوب الصحراء، لكن هذا قد يعود إلى نقص البيانات أو تصميم النموذج التحليلي، خاصة أن التفاعل مع الجنوب كان جزءًا أصيلًا من التاريخ المصري.

تأويلات تاريخية جريئة: ربط الأصول الجينية بحركات هجرة واسعة من الهلال الخصيب إلى مصر يظل افتراضًا غير مثبت زمنيًا بدقة، ويجب التعامل معه كاحتمال يحتاج لتعزيز من دراسات إضافية.

لذلك، وعلى الرغم من أن الدراسة تُعد علامة بارزة، فإنها تظل “أول خطوة” في مشروع أوسع يجب أن يشمل عينات متعددة من مواقع وفترات مختلفة، لفهم أدق وأشمل لتاريخ المصريين عبر العصور.

توصيات مستقبلية:

1- توسيع قاعدة العينات لتشمل فئات متعددة من العصور والمناطق المختلفة في مصر.
2- مقارنة دقيقة مع جينومات نوبية وسودانية وأفريقية قديمة.
3- تعزيز التعاون بين علم الجينوم والأنثروبولوجيا الاجتماعية وعلم الآثار لتفسير أكثر دقة.

كلمة أخيرة

هذا البحث يمثل انطلاقة قوية في استخدام الجينوم القديم لإعادة فهم التاريخ المصري، وهذه هي المرة الأولى التي نرى فيها جينومًا كاملًا من مصر القديمة في وقت مبكر جدًا من تاريخها السياسي والاجتماعي، وتُعد النتيجة خطوة حاسمة نحو رسم خريطة أكثر دقة لهوية المصريين عبر العصور. وهو دعوة إلى تكامل علم الآثار مع علم الوراثة لبناء سردية تاريخية أكثر دقة. ولعل ما يجعل هذا الاكتشاف أكثر أهمية هو كونه ليس نهاية الطريق، بل بداية لمشاريع بحثية أوسع تُعيد كتابة تاريخ مصر من منظور جيني، جنبًا إلى جنب مع علم الآثار والتاريخ والفن.

ومصر، كما تؤكد هذه الدراسة، لم تكن يومًا معزولة، بل كانت وستظل ملتقى للحضارات والشعوب.

.

المرجع

Morez Jacobs, A., Irish, J.D., Cooke, A. et al. Whole-genome ancestry of an Old Kingdom Egyptian. Nature (2025).

.

البريد الإلكتروني للكاتب: k.z.ahmed@minia.edu.eg

دكتور قاسم زكي أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة، جامعة المنيا؛ ورئيس اللجنة الوطنية للعلوم الوراثية بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، والرئيس الأسبق للجمعية العلمية الأفريقية لعلوم المحاصيل، واحد مؤسسي المجلس العالمي للنبات (GPC)؛ عضو اتحاد كتاب مصر، وعضو اتحاد الأثريين المصريين.

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x