.
اللَّهُمَّ بارِكْ لَنا، وامْنَعْ عنّا راحَةَ البال”، دعاءٌ ظلَّ يُلاحقني منذ أن مرّت الحافلة التي كانت تقلّني، مع علماءٍ عربٍ وأجانب، عبر بلدة “عنبتا” في ضواحي طولكرم. دعاءٌ مفارقٌ يُصوِّر كيف يصبح المريضُ نفسيًّا الجُرحَ والسِّكِّينَ في آنٍ معًا. وهل كفلسطينَ جُرحٌ وسِكِّين؟ ليس في نفوسِ الفلسطينيين والعرب وحدهم، بل في نفوسِ البشرِ جميعًا؟ يرِدُ هذا الدعاء في أحد مؤلَّفات عالِمِ النفس وطبيب الأعصاب علي كمال، الذي وُلِدَ في “عنبتا”، وأهداها أجملَ كُتُبه، النوم، قائلاً: “إلى عنبتا، مسقط رأسي ومبدأ نومي وأحلامي“.
ولا بدّ أن يكون عالِمُ النفسِ فلسطينيًّا ليجمعَ الحكمةَ والأدبَ والفنَّ والممارسةَ الطبية وروحَ الدعابة، في أربعة عشر مجلدًا، تتراوح عناوينها بين: “النفس… انفعالاتها وأمراضها وعلاجها”، و “فصام العقل”، و “الجنس والنفس” و”الصَرَع” و“الأحلام” و “العبث بالعقل” و “العلاج النفسي”. موسوعةٌ في آلاف الصفحات، تجوس مجاهيل النفس البشريّة، ذكراً وأنثى، في الصحّة والمرض، في الطفولة والمراهقة، وفي سنّ النضج والشيخوخة.
ومؤلَّفات كمال، رغم طابعها الأكاديمي، تُحدِّث الناسَ مباشرةً عن أنفسهم وعن الآخرين، في لحظات السعادة والعذاب، في الميلاد والموت. تطرح أسئلةً كبرى من قبيل: ما هو، ومَن هو الإنسان الطبيعي؟ ومَن السليم نفسيًّا؟ ومَن المريض عقليًّا؟ وما الحدود بين الجنون والعقل، وبين الجنون والعبقرية؟ وما دور العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في الحالة النفسية والعقلية للفرد؟ وما هي “الشخصية”؟ ولماذا تختلف الشخصيات البشرية؟ وما معنى أوصافٍ مثل: شخصيةٍ انطوائية، ومتقلِّبة، وشكاكة، وتسلطية، وهستيرية، ومتفجِّرة، وعاطفية، وخارقة؟ وكما في كل ما كتبه، يُضيء كمال دهاليز النفس البشرية بحكمةٍ ساطعة، فنُبصر أن: “لكل إنسان ثلاث شخصيات: تلك التي يعرفها، وتلك التي هو عليها، وتلك التي يظن أنّها له”.
ولا بدّ أن يكون عالِمُ النفس مغتربًا من قرية “عنبتا”، التي تتمدَّد على التلال بين أشجار الزيتون، والتين، واللوز، كي يُدرِك أن “الحزنَ الذي لا يجد له مَنفذًا في الدموع، يجعل أحشاءَ الجسد تبكي.” عشراتُ الحالات التي يبكي فيها جسدُ الإنسان، تعرضها دراساتٌ تكشف أن ثلاثين في المئة من المرضى الذين يشكون من علل جسدية، يعانون في الواقع من أمراضٍ “نَفْس-جَسَدية”، تُحدِث اضطراباتٍ في القلب، والدورة الدموية، والجهازين الهضمي والتنفسي، بل حتى العُقم، وأمراض الجلد، والسرطان.
ويعرض كمال تفاصيلَ المدارس العلمية المختلفة في فهم أسباب العِلَل النفسية وطرقِ علاجها: مدارسُ تُعنى بدور الوراثة والمحيط، وأخرى تستخدم التحليل النفسي والتأمل الذاتي والاستبطان، ونظرياتٌ سلوكية تحصر اهتمامها في الفعل وردّ الفعل، وأخرى تؤمن بالحتمية البيولوجية للمرض. ويقابل كمال المرض بالروح العلمية المتفائلة للطبيب العربي الرازي، الذي أدرك قبل أكثر من ألف عام أن“على الطبيب أن يوهم المريض أبداً بالصحة، ويُرَجّيه بها، وإن كان غير واثق بذلك، فمزاجُ الجسد تابعٌ لمزاجِ النفس.” كما يخوض في فلسفاتٍ وُجودية يائسة من الوضع الإنساني، تتساءل مع الروائي كافكا: “هل هناك أمل؟.. نعم، للخالق أمل عظيم، أمّا للإنسان فلا.” ويقابلها بفلسفاتٍ عملية تؤمن مع ويليام جيمس بأن العلاج النفسي ممكن، “لأنك إذا آمنتَ بقوة بالحياة، فإنك تستطيع أن تخلُق الخيرَ الذي آمنتَ به.”
وينبغي أن تكون فلسطينيًّا، ممن تواطأت الدول على تمزيق أرضه، كي تُردِّد مع كمال حُكمَ العالِم الفرنسي باسكال: “أيُّ غُولٍ هو الإنسان، وأيُّ طرافة، وأيُّ مخلوقٍ وحشي، وأيُّ فوضوي، وأيُّ فَلْتة! حَكَمٌ على كل شيء، دودةُ الأرض الضعيفة، مستودعُ الحقيقة، وبالوعةُ الشكِّ والخطأ، مجدُ الكونِ وعارُه.”
وحين تمرّ عبر حاجز “عنّاب” في عنبتا، أحد أشدّ حواجز المحتل الإسرائيلي قسوةً بين طولكرم ونابلس، تُدرك لماذا استهلّ كمال كتابه بعبارة الشاعر الإنجليزي إليوت: “ولكن، كيف أستطيع أن أفسِّر لكم؟ كيف أستطيع أن أفسِّر لكم؟ ستفهمون الأقلَّ بعد تفسيرها. وكلّ ما يمكن أن أرجو إفهامه لكم هو الحوادث فقط، وليس الذي حدث. والناس الذين لم يحدث لهم شيءٌ أبداً، لا يستطيعون فَهمَ عدمِ أهمية الحوادث.”
علي كمال مظلومٌ أربعَ مرّات:
مظلومٌ قبل كلّ شيء لأنه عربي،
ومظلومٌ أكثر لأنه عربيٌّ مسلم،
ومظلومٌ من الدرجة الممتازة لأنه فلسطيني،
ومظلومٌ فوق العادة لأنه عاش وعمل معظم سنوات عمره في العراق.
قلتُ له ذلك في آخر لقاءٍ جمعني به، قبيل وفاته بشهرين عام 1996،
ثم هتفتُ باسمه أخيرًا، في الساحة التي تحمل لافتةً كُتب عليها:
“بلدية عنبتا ترحّب بكم“.
سلامٌ على النفسِ المُطمئِنّةِ في فلسطين.
سلامٌ على علي كمال.
.
علي كمال (1918–1996)
طبيب أعصاب وعالم نفس فلسطيني، يُعدّ من أبرز روّاد الطب النفسي في العالم العربي. وُلد في بلدة عنبتا بفلسطين، وتخرّج من الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1944، ثم تخصّص في الطب النفسي والعصبي في لندن. أمضى معظم مسيرته في العراق حيث أسس قسم الطب النفسي بجامعة بغداد، وكتب موسوعة نفسية علمية أدبية من 14 مجلدًا، كان لها أثر بالغ في الحقل النفسي العربي.
محمد عارف
كاتب وصحفي علمي عراقي، ومستشار في العلوم والتكنولوجيا. عُرف بكتاباته الفكرية والعلمية في عدد من الصحف العربية الرصينة، أبرزها جريدة الاتحاد الإماراتية، التي سبق أن نشرت هذا المقال عام 2012. اشتُهر بأسلوبه الإنساني العميق، الذي يجمع بين البُعد العلمي والتأمل الفلسفي والطرح الأدبي. عُني في مقالاته بقضايا العلم في الوطن العربي، وعلاقتها بالهوية والمجتمع والسياسة، كما كتب عن شخصيات علمية بارزة بلغة نقدية مُحِبّة. تميّزت كتاباته بتناوله المبدع للموضوعات العلمية بطريقة سردية، تربط بين المعرفة والسياق الاجتماعي والثقافي، كما يظهر في مقاله “سلام على النفس المطمئنة في فلسطين” الذي يرثي فيه الدكتور علي كمال ويضيء أثره النفسي والإنساني.