.
لطالما عُرفت منطقة الشرق الأوسط باحتياطاتها الوفيرة من النفط والغاز، مما ساهم في لعب دور محوري في المشهد العالمي للطاقة، لكن التحول في مجال الطاقة نحو موارد أكثر استدامة يبدو أمرا حتميا لهذه المنطقة في ظل التحديات البيئية والاقتصادية والجيوسياسية. ويدعم هذا التحول عدد من العوامل، منها الضرورات البيئية العالمية والحاجة إلى أمن الطاقة والاستراتيجيات الرامية إلى التنويع الاقتصادي.
يزداد وعي دول الشرق الأوسط بالآثار البيئية السلبية المرتبطة باستهلاك الوقود الأحفوري، بما في ذلك تغير المناخ والتلوث. وإدراكا لهذه التحديات، تعمل العديد من دول المنطقة على التحول تدريجيا إلى مصادر متجددة للطاقة بهدف تجنب الآثار البيئية للوقود الأحفوري وضمان استمرار الازدهار الاقتصادي على المدى الطويل من خلال تقليل الاعتماد على صادرات الطاقة التقليدية. وتُهيئ منطقة الشرق الأوسط نفسها بذلك لتكون لاعبا رئيسيا في التحول العالمي نحو الطاقة المستدامة، مُوازنة في ذلك بين تاريخها العريق في مجال الوقود الأحفوري ونهج استشرافيٍ للطاقة المتجددة والمستدامة والبيئة.

منطقة الدراسة
تُقدم دراسة علمية جديدة قام بها فريق من الباحثين من جامعة التكنولوجيا ببغداد وجامعات كندية ونشرت في دورية (Energy Conversion and Management) العلمية، نظرة شاملة على جهود دول هذه المنطقة لإنجاح التحول الطاقي. ويكشف مؤلفوها عن مفارقة لافتة: فعلى الرغم من الإمكانات الهائلة للطاقة الشمسية وطاقة الرياح والهيدروجين، لا يزال التحول إلى الطاقات المتجددة في مراحله الأولى، حيث يعيق دعم الوقود الأحفوري والصراعات السياسية في بعض دول المنطقة ونقص الاستثمار، ظهور نموذج طاقة مستدام.
مفارقة الطاقة في الشرق الأوسط
بحسب الدراسة فإن دول الشرق الأوسط تقع في قلب مفارقة جوهرية في مجال الطاقة. فمن جهة، تُعدّ المنطقة الركيزة الأساسية لسوق الطاقة العالمية بامتلاكها حصة هائلة من موارد الطاقة الأحفورية في العالم. ففي عام 2020، كانت المنطقة موطنا لما يقرب من نصف احتياطيات النفط العالمية المؤكدة، ما يعادل 835.9 مليار برميل، وحوالي 40% من احتياطيات الغاز الطبيعي، ما يعادل 75.8 تريليون متر مكعب. وقد جعلت هذه الثروة الاستثنائية دولا مثل المملكة العربية السعودية والعراق وقطر والإمارات العربية المتحدة وإيران من أبرز المنتجين والمصدرين لهذه المواد الطاقية. وفي عام 2022، وفرت المنطقة وحدها 31.3% من إنتاج النفط العالمي.

احتياطيات النفط الخام العالمية المؤكدة حسب المنطقة في عام 2020
.

احتياطيات الغاز الطبيعي العالمية المؤكدة حسب المنطقة في عام 2020
ورغم هيمنة الموارد غير المتجددة على الطاقة في الشرق الأوسط، فإن إمكانات الطاقة النظيفة فيها لا تقل أهمية، وإن كانت غير مستغلة إلى حد كبير. تتمتع المنطقة بأشعة شمس استثنائية، حيث يتراوح الإشعاع الشمسي السنوي بين 2000 و3200 كيلوواط ساعة/متر مربع، وهو ما يمثل 22% إلى 26% من إجمالي الطاقة الشمسية في العالم. وقد بدأ استغلال هذه الإمكانات، حيث تم تركيب 8.4 جيغاواط من الطاقة الشمسية في عام 2021.
كما أن إمكانات طاقة الرياح كبيرة أيضا، لا سيما في مصر وإيران وتركيا، حيث تساعد سرعات الرياح على إنتاجها على نطاق واسع، كما تلعب الطاقة الكهرومائية بالفعل دورا مهما في بعض البلدان، حيث تقود تركيا الطريق بسعة تقارب 31.8 جيغاواط، تليها إيران بفارق كبير. وفي الآونة الأخيرة، أصبح الهيدروجين الأخضر محورا رئيسيا للتنمية، وتظهر مشاريع عالمية النطاق، مثل مشروع نيوم في المملكة العربية السعودية، الذي يهدف إلى إنتاج 1.2 مليون طن من الهيدروجين الأخضر سنويا بحلول عام 2030، والاستراتيجيات الوطنية لدولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان لتصبحا رائدتين عالميتين في إنتاج الهيدروجين وتصديره. على الرغم من هذه الثروة الهائلة من الموارد المتجددة، لا يزال نشرها في مراحله الأولى، إذ تُعيقها التكاليف الأولية المرتفعة مقارنة بالوقود الأحفوري المدعوم، ونقص البنية التحتية وأطر السياسات المخصصة.

نسبة استهلاك الطاقة المتجددة من إجمالي استهلاك الطاقة في بعض دول الشرق الأوسط
الاستهلاك والإدارة والتحديات البيئية
لاحظ الباحثون أن إدارة الطاقة في الشرق الأوسط تتميز باستهلاك مرتفع وغير فعال في كثير من الأحيان، بالإضافة إلى تحديات بيئية متزايدة. وأكدوا أن كثافة الطاقة في المنطقة- والتي تقيس كمية الطاقة المستهلكة لكل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي- ليست عالية فحسب، بل تسير في اتجاه تصاعدي في العديد من البلدان، مما يعاكس الاتجاه العالمي نحو تحسين الكفاءة. على سبيل المثال، ارتفعت كثافة الطاقة في الكويت من 0.149 كيلو مكافئ نفطي في عام 2014 إلى 0.264 في عام 2022. ويغذي هذا الاستهلاك المفرط عدة عوامل، بما في ذلك الدعم الهائل الذي يبقي أسعار الطاقة منخفضة بشكل مصطنع. في الكويت، تدعم الحكومة ما يصل إلى 95٪ من إجمالي تكاليف الطاقة، مما يوفر حافزا ضئيلا للاعتدال في الاستهلاك.
علاوة على ذلك، تتطلب الظروف الجوية القاسية استخداما مكثفا لتكييف الهواء، والذي يمكن أن يمثل ما يصل إلى ما بين 70 و80٪ من استهلاك الكهرباء في دول مثل قطر. كما أن تحلية مياه البحر، وهي ضرورة حيوية للعديد من دول الخليج، هي أيضا عملية كثيفة الاستهلاك للطاقة. ولأنماط الاستهلاك هذه عواقب بيئية تتمثل خاصة في زيادة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، مما جعل المنطقة مسؤولة عن 17.3% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية في عام 2022.
سوق الطاقة وكلفة التحول
وبحسب الدراسة فإن سوق الطاقة في الشرق الأوسط يشهد تغيرا سريعا، ممزقا بين تقلبات عائدات النفط والغاز التي تمثل المصدر الرئيسي لموارد ميزانيات هذه الدول، والانخفاض الحاد في تكلفة الطاقة المتجددة. فقد انخفضت التكلفة المستوية للطاقة (LCOE) للطاقة الشمسية الكهروضوئية (PV) عالميا بنسبة 88% بين عامي 2010 و2021، وانخفضت تكلفة طاقة الرياح على اليابسة بنسبة 68%. هذا الانخفاض يجعل مصادر الطاقة المتجددة أكثر تنافسية، حتى في منطقة تتوفر فيها الوقود الأحفوري بكثرة ورخيصة. وقد وصلت مشاريع الطاقة الشمسية في المنطقة إلى أسعار قياسية، مثل مشروع الظفرة في الإمارات العربية المتحدة، حيث بلغت تعريفة شراء الطاقة 1.35 سنتا فقط لكل كيلوواط/ساعة.

اتجاهات خفض الأسعار المرتبطة بإنتاج الطاقة الشمسية في العالم
في مواجهة هذا الواقع الاقتصادي الجديد وضغوط المناخ، وضعت معظم دول المنطقة سياسات وطنية واستراتيجيات طموحة. على سبيل المثال، تعمل المملكة العربية السعودية من خلال “رؤية 2030″، على تحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060، استنادا إلى إطار عمل اقتصاد الكربون الدائري (CCE) الذي يشمل الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة واحتجاز الكربون وتخزينه (CCS). وتسعى الإمارات العربية المتحدة إلى تحقيق مزيج طاقة نظيفة بنسبة 50% بحلول عام 2050، بينما حددت مصر هدفا يتمثل في توفير 42% من الطاقة التي ستحتاجها عام 2035 من مصادر متجددة. وتنعكس هذه السياسات في أهداف كمية محددة بموجب اتفاقية باريس، على الرغم من تباين الالتزامات، فبعض الدول، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، تتسم بروح المبادرة، بينما تشترط دول أخرى، مثل إيران، مشاركتها برفع العقوبات الدولية. غير أن تنفيذ هذه السياسات لا يزال يمثل تحديا كبيرا، وفق الدراسة، ويتطلب استثمارات ضخمة وإصلاحات تنظيمية وإرادة سياسية مستدامة لتحويل هذه الرؤى إلى واقع ملموس.
في مفترق الطرق
يرى المؤلفون أن منطقة الشرق الأوسط تقف عند مفترق طرق تاريخي سيحدد مستقبلها لعقود قادمة. يجب على المنطقة أن تُوازن بين دورها كقوة عظمى في قطاع الهيدروكربون، وهو دور سيظل حاسما للاقتصاد العالمي على المدى المتوسط، وبين الحاجة الملحة للانتقال إلى نموذج طاقة مستدام. وتتمثل دوافع هذا التغيير خاصة في ضمان الأمن والاستقرار الاقتصاديين على المدى الطويل في عالم يتجه تدريجيا نحو التخلي عن الوقود الأحفوري، والوفاء بالالتزامات المناخية الدولية للحفاظ على البيئة، مع تلبية الطلب المحلي المتزايد على الطاقة بشكل مستدام.
وبحسب الدراسة، تبدو التوقعات متباينة، فمن جهة، تعمل دول مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية على ترسيخ مكانتها كقائد لهذا التحول، باستثمار مليارات الدولارات في مشاريع الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، مما سيولد زخما من شأنه أن يُلهم المنطقة بأكملها. من جهة أخرى، لا تزال العقبات هائلة ومنهجية. ولا يزال عدم الاستقرار الجيوسياسي المستمر، والصراعات الداخلية في بعض دول المنطقة، والعقوبات الدولية، تُعيق التنمية في العديد من الدول الرئيسية. ويتطلب التحول الطاقي استثمارات ضخمة، ليس فقط في إنتاج الطاقة النظيفة، بل كذلك في تحديث شبكات الكهرباء، وتطوير حلول التخزين بالإضافة إلى تدريب رأس مال بشري ماهر لإدارة هذه التقنيات الجديدة.
وأكد المؤلفون أن نجاح تحول الطاقة في الشرق الأوسط سيعتمد على قدرة الدول على التغلب على هذه التحديات من خلال إرادة سياسية قوية وتعزيز التعاون الإقليمي وإنشاء أطر تنظيمية مستقرة وقائمة على الحوافز. ويعتمد مستقبل الطاقة في المنطقة على توازن دقيق بين إرثها النفطي ومتطلباتها البيئية والتحولات الجيوسياسية.
المراجع
.
تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com