.
يُعتبر لبنان من البلدان التي تمتلك موارد مائية وافرة مقارنة بالدول المجاورة لها في شرق حوض البحر الأبيض المتوسط وجنوبه. ومع ذلك، يواجه أمن المياه في لبنان العديد من التحديات نتيجة الأزمات متعددة الأبعاد التي عاشتها البلاد، والتأثيرات المتزايدة للتغير المناخي العالمي.
في دراسة مراجعة جديدة نشرت في دورية (Physics and Chemistry of the Earth) العلمية، قام فريق من الباحثين من لبنان وفرنسا، بإجراء تحليل شامل للموارد المائية في لبنان، استنادا إلى مراجعة الأدبيات الأكاديمية والتقارير الدولية بهدف تقييم المعرفة الموجودة حول القضايا المتعلقة بالمياه في لبنان وبيان الحالة المعقدة للموارد المائية في لبنان، مع تسليط الضوء على التقدم المحرز لمعالجة هذه التحديات والفجوات العديدة التي لا تزال قائمة.
اعتمدت الدراسة على مجموعة مكونة من 378 وثيقة تتضمن مقالات علمية منشورة وتقارير لمنظمات دولية مثل البنك الدولي ووكالات الأمم المتحدة. ولاحظ مؤلفو الدراسة تفاوتا كبيرا في تناول المواضيع المتعلقة بالمياه في لبنان، ففي الوقت الذي حظيت فيه مواضيع هطول الأمطار والمياه الجوفية باهتمام كبير في هذه الوثائق، مع زيادة كبيرة في الدراسات على مدى العقد الماضي، كان تناول موضوع المياه السطحية والتبخر والنتح أقل تواترا. كما لاحظوا زيادة كبيرة في عدد الدراسات على مدى العقد الماضي بصفة عامة وخاصة في مواضيع جودة المياه وإدارتها.
توزيع المواضيع المتناولة حسب عدد الدراسات والتقارير التي تمت مراجعتها (المصدر: دراسة المراجعة)
هطول الأمطار: بيانات في حاجة إلى تحديث
أظهرت الدراسة أن هناك نقصا فادحا في البيانات الحديثة حول هطول الأمطار في لبنان، حيث يعود تاريخ الخريطة الرئيسية لمتوسط هطول الأمطار السنوي إلى عام 1972، ولم يتم تحديثها منذ ذلك الحين. وبالمثل، ترجع آخر التحليلات المتعمقة لتقلب هطول الأمطار إلى السبعينيات. هذا على الرغم من أن شبكة محطات الأرصاد الجوية شهدت توسعا كبيرا في السنوات الأخيرة، حيث زادت من حوالي مائة محطة في السبعينيات إلى ما يقرب من 135 محطة اليوم. لكن التوزيع الجغرافي لهذه المحطات ظل متفاوتا، مع ارتفاع كثافتها في وسط البلاد فيما لا تزال المناطق الجبلية في الشرق غير مجهزة بهذه المحطات بشكل كاف.
ولاحظ مؤلفو دراسة المراجعة كذلك، أن الدراسات السابقة حول الغطاء الثلجي ودوره في التوازن المائي في لبنان مثيرة للجدل أيضا، حيث تختلف التقديرات بشكل كبير في نسبة مساهمة ذوبان الثلوج بين 31% و 58.5%. وتظهر القياسات الموقعية النادرة، والتي تتركز في جبل لبنان، انخفاضا في عدد الأيام الثلجية مقارنة بالبيانات التاريخية، لكن هذه الملاحظة لا تزال بحاجة إلى تأكيد على المستوى الوطني. ولذلك، من الضروري بذل جهد كبير لتحديث البيانات المتعلقة بهطول الأمطار، من أجل فهم أفضل لمدى توفر هذا المورد الحيوي.
توزيع هطول الأمطار في لبنان. البيانات تعود إلى 1972. (المصدر: دراسة المراجعة)
التبخر والمياه السطحية: اهتمام ضعيف
يظهر تحليل الوثائق أنه لم تتم دراسة التبخر والنتح اللذان يشكلان جزءًا مهمًا من الدورة الهيدرولوجية، إلا بطريقة مجزأة في لبنان. وتركز الدراسات القليلة المتاحة التي تناولت هذا الموضوع على وادي البقاع، وهو إحدى المناطق الزراعية الرئيسية في البلاد، وعلى محاصيل محددة. لذلك هناك حاجة إلى رؤية شاملة لهذه الظاهرة على المستوى الوطني، لا سيما وأن الاستخدام المتزايد للاستشعار عن بعد لتقدير التبخر والنتح يفتح آفاقا مثيرة للاهتمام لتحسين المعرفة في هذا المجال.
كما يظهر التحليل أيضا أن دراسات المياه السطحية في لبنان نادرة وتعاني من نقص البيانات ذات الدقة الزمنية العالية. حيث أن معظم قياسات التدفق متاحة على نطاق يومي فقط، مما يحد من التحليلات المتعمقة، خاصة فيما يتعلق بالفيضانات. بالإضافة إلى ذلك تأتي تقديرات ذروة تدفق المياه السطحية من بيانات ما قبل الحرب الأهلية، مما يجعل دقتها موضع شك. وعلى الرغم من ذلك، فقد سلطت الأعمال المتاحة الضوء على التباين الزمني والمكاني القوي للتدفقات، مع غلبة المساهمات الجوفية التي تغذي الأنهار بطريقة دائمة، وذلك بفضل الطبيعة الكارستية لطبقات المياه الجوفية (بنية ناتجة عن التآكل الكيميائي والهيدروغرافي للصخور الكربونية، وخاصة التكوينات الجيرية).
المياه الجوفية: مورد استراتيجي مستغل بشكل مفرط
تشكل المياه الجوفية المورد المائي الرئيسي في لبنان، حيث يوجد في البلاد، وفق بعض المصادر، 51 حوضا للمياه الجوفية وأكثر من 2000 ينبوعا، بعضها ذو تدفق عال. ومع ذلك، ظلت الدراسات الهيدروجيولوجية نادرة وغير مكتملة، مما يجعل التقدير الدقيق للاحتياطيات المياه تحت الأرض أمرا صعبا. وبالإضافة إلى ذلك، فإن علامات استغلالها المفرط أصبحت واضحة بشكل متزايد، مع انخفاض في مستويات القياس ومعدلات التدفق. إن الدور الرئيسي للمياه الجوفية، إلى جانب الجهل النسبي بها، يجعلها قضية ذات أولوية بالنسبة للأمن المائي في لبنان، كما يقول المؤلفون.
آثار تغير المناخ: اتجاهات غير واضحة
خلافاً للاعتقاد الشائع، لا تظهر الدراسات حول تأثيرات التغير المناخي في لبنان اتجاهات واضحة، ولم يتم اكتشاف أية تغيرات مهمة في الهطول السنوي للأمطار، غير تلك التي تخص التوزيع الموسمي لهطول الأمطار. وبالمثل، فإن الاتجاهات الملحوظة في الغطاء الثلجي متناقضة، حيث تظهر بعض الدراسات انخفاضا في عدد الأيام الثلجية، في القوت الذي أثبتت فيه دراسات أخرى نتائج عكسية. ولم تتم ملاحظة سوى اتجاه هبوطي في تدفقات الأنهار، لكن ارتباطه بالمناخ لا يزال بحاجة إلى مزيد من الاستكشاف، ولا يزال تغير المناخ على الموارد المائية في لبنان، بصفة عامة، غير مفهوم بشكل جيد، مما يتطلب دراسات جديدة.
تدهور نوعية المياه: تحدي كبير
إذا كانت كمية الموارد المائية لا تزال تثير العديد من الأسئلة حسب الدراسات والتقارير التي تم تحليلها، فإن الوثائق التي تناولت بالدرس نوعية المياه في لبنان تجمع أنها في حالة تدهور. على سبيل المثال، تعاني معظم أنهار البلاد من تلوث ميكروبيولوجي كبير، يتفاقم أكثر فأكثر بسبب التصريف المنزلي والصناعي، كما أن بحيرة القرعون، أكبر خزان للمياه العذبة في لبنان، أصبحت تعاني من تكاثر الطحالب السامة بشكل متكرر. هذا بالإضافة إلى تعرض المياه الجوفية الساحلية إلى التلوث بالنترات والمبيدات الحشرية المستخدمة في المناطق الزراعية.
هذه الأنواع المختلفة من التلوث، والتي يضاف إليها الآن الكشف عن الملوثات الناشئة، تشكل تحديا كبيرا للحفاظ على جودة المياه في لبنان. وهي تتطلب التنفيذ العاجل لبرامج المراقبة وإزالة التلوث، بالإضافة إلى الجهود المبذولة لتحسين إدارة الموارد.
إدارة المياه وحوكمتها: تطور نسبي وسط تعقيدات مؤسسية
يقول المؤلفون إن إدارة المياه في لبنان تطورت من نموذج يتمحور حول الدولة قبل الحرب الأهلية عندما كانت تنفذ كل المشاريع المتعلقة بالمياه، إلى مشاركة متزايدة المنظمات الدولية والقطاع الخاص في تنفيذ مشاريع البنية التحتية. وقد تم إحراز تقدم، مثل تحسين الوصول إلى الشبكة العامة لمياه الشرب، على الرغم من أن الإمداد غالبا ما يظل متقطعا، مما يؤدي إلى تدهور جودة المياه. كما تطورت شبكة الصرف الصحي، لكن القدرة على معالجة مياه الصرف الصحي لا تزال غير كافية إلى حد كبير، وفق المؤلفين.
على الرغم من هذا التقدم، لا تزال إدارة المياه في لبنان تواجه العديد من التحديات، بما في ذلك نقص البيانات، والمخاوف بشأن جودة المياه، والفوارق الإقليمية في الوصول إلى الخدمات. كما أن الأزمة الاقتصادية الحالية تزيد من إضعاف هذا القطاع الاستراتيجي.
شبكات إمداد المياه في لبنان (المصدر: دراسة المراجعة)
لاحظ مؤلفو الدراسة كذلك، أن الإطار القانوني والمؤسسي الذي يحكم قطاع المياه في لبنان ما زال يتسم بالتعقيد رغم العديد من الإصلاحات التي تهدف إلى تبسيط الإدارة، ولا سيما من خلال إنشاء مؤسسات إقليمية للمياه. لكن أدوار ومسؤوليات المؤسسات المختلفة لا تزال غير واضحة وغير منسقة بشكل كاف.
ويفسر هذا التعقيد أيضا بالثقل الكبير للشراكات الدولية في تمويل المشاريع المتعلقة بالمياه وتنفيذها. ومنذ نهاية الحرب الأهلية، لعب البنك الدولي والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي دورًا رائدًا من خلال تقديم التمويلات والدعم الفني. ومع ذلك، فإن هذا الاعتماد على المانحين الأجانب يثير تساؤلات حول استدامة الإجراءات المتخذة.
على الرغم من هذه الإصلاحات، لا تزال إدارة المياه تشكل تحديا كبيرا في لبنان، مع تداخل الأدوار وغياب التنسيق والصعوبات في تطبيق القوانين واللوائح. كما أن تعقيد السياق الجيوسياسي الإقليمي، الذي يتسم بالتوترات عبر الحدود في بعض الأحواض، يزيد من صعوبة المهمة.
المصادر
– The water resources of Lebanon – A review to support water security
تواصل مع الكاتب: gharbis@gmail.com
نُشر حديثاً للكاتب
إحياء الأنظمة التقليدية لحصاد مياه الأمطار
هل يعالج اللبان مرض الباركنسون؟