مجلة أجسر – مجلة عربية محكمة في مجال العلوم – زورو موقعنا

اليوم العالمي للغة العربية

خوارزميات اللغة العربية

الكاتب

د/ أحمد بن حامد الغامدي

جامعة الملك سعود – الرياض- المملكة العربية السعودية

الوقت

08:58 مساءً

تاريخ النشر

18, ديسمبر 2024

.

قبل بداية العقد الأخير من القرن التاسع عشر وبالتحديد في عام 1888م أصدر الأديب والمؤرخ اللبناني المعروف جورجي زيدان كتابا اختار له عنوانا جذابا (اللغة العربية كائن حي) استعرض فيه بروح المؤرخ والمفكر واللغوي التطور المتدرج للغة العربية عبر الزمن وتعرضها للتجديد والتغيير والصعود والهبوط، وكيف تولد ألفاظ وتراكيب لغوية جديدة وكيف تندثر أخرى. عندما طرح جورجي زيدان أفكاره اللغوية الثورية المتعلقة بكون اللغة العربية كائن حي ينمو ويتولد، وفكرة أن اللغة هي كذلك كائن متنقل بمعنى أن معاني الألفاظ قد تتغير إلى معاني مغايرة بل ومضادة، ومن مجمل ذلك كله شجع جورجي زيدان فئات من الأدباء والمفكرين ممن سيأتي بعده لرفع لواء (تطوير اللغة العربية).

بحجة التطوير ومتابعة التقدم شطح البعضُ وأبعد النَّجعة عندما دعا إلى كتابة اللغة العربية بالأحرف اللاتينية بدلا من الأحرف العربية، وهذه الحماقة كانت مشروع السياسي المصري عبد العزيز فهمي باشا الذي تجرأ وقدم مقترحه السخيف هذا لمجمع اللغة العربية في القاهرة في عام 1944ميلادي. ومن لاتينية اللغة العربية إلى تمصير اللغة العربية وهو المشروع الذي طرحه في عام 1913م أبو الليبرالية المصرية الكاتب أحمد لطفي السيد، وفكرته الأساسية تنكيس اللغة العربية الخالدة واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، حيث طالب باستبدال اللغة العربية العامية (اللهجة المصرية تحديدا) بدل اللغة العربية الفصيحة. الجدير بالذكر أنه في نفس هذه الأجواء من اقتراحات التطوير المتعسف للغة العربية بدأ العديد من الكتاب والمفكرين بل وحتى الأدباء في تقبل فكرة المفهوم الجديد عن (اللغة العربية المعيارية الحديثة) وهي اللغة السائدة في وسائل الإعلام الرصينة اليوم. وطبعا ظهرت مطالبات متكررة بضرورة اختصار قواعد النحو العربي أو تسهيل إملاء وطريقة كتابة الكلمات والمفردات لدرجة أن الشاعر المصري علي الجارم المشهور باعتزازه باللغة العربية تقدم إلى مجمع اللغة العربية بمشروع يهدف لتسهيل الإملاء بحيث تكتب الكلمات حسب نطقها مع وضع زوائد متصلة بالحروف، وهي الفكرة التي سخر منها عباس العاقد ونعتها بالزعانف !!.

وفي النصف الثاني من القرن العشرين ومع موجة الدراسات اللغوية والعلوم اللسانية ودخول مفاهيم مباحث الفيلولوجيا (فقه اللغة) والمورفولوجيا اللغوية (علم بناء الجملة) نالت اللغة العربية نصيبها من هذه الدراسات اللغوية كحال اللغات العالمية الأخرى. أمّا منذ بداية القرن الواحد والعشرين فقد وصل دور اللغة العربية أخيرا لأن تحظى بنصيبها من التطور المتعلق بتوظيف تكنولوجيا اللغات والهندسة اللسانية. وبعد بدايات متعثرة وخجولة لتقنية اللسانيات الحاسوبية computational linguistics في خدمة اللغة العربية حصلت قفزة ملموسة في تقنيات برامج الكمبيوتر، لتصبح أكثر كفاءة في تحليل وتحويل النصوص العربية إلى معلومات وبيانات رقمية (النص الإلكتروني) وهذا ما أثمر قدرة مذهلة على الترجمة السليمة لمفردات وجمل اللغة العربية إلى اللغات الأخرى أو العكس.

قبل عشرين سنة كانت برامج ترجمة النصوص الإنجليزية إلى اللغة العربية تقرأ بشيء من السخرية بل والاستهجان بسبب الركاكة الشنيعة في ترجمة النصوص وإخراجها في شكل مفكك وغير مفهوم، ولكن في السنوات الأخيرة تطورت خوارزميات الترجمة بشكل مذهل لدرجة أنه مع الزمن سوف يفضل أغلب المهتمين الاعتماد على الترجمة الآلية الرقمية بدلا من الاجتهادات الشخصية في الترجمة.

ومن أمثلة الهندسة اللغوية وتسخير الآلة لخدمة اللغة العربية توظيف البرمجيات الرقمية وخوارزميات الذكاء الاصطناعي في تقنية التعرف البصري على حروف اللغة العربية، وبالتالي تحويل صور النصوص العربية إلى نصوص إلكترونية يمكن تخزينها ومعالجتها والبحث فيها وإعادة استرجاعها. وقريب من ذلك التقنية الرقمية الخاصة بالتعرف الصوتي واستخدام برامج الحاسوب الذكية لتحويل الأصوات المنطوقة باللغة العربية إلى نصوص مكتوبة أو نصوص رقمية، بالإضافة إلى تحويل النصوص المكتوبة إلى أصوات وألفاظ عربية فصيحة منطوقة بشكل سليم وذلك مرة أخرى باستخدام القدرات المذهلة للذكاء الاصطناعي. وبفضل التقدم المتسارع في تقنيات المعالجات اللغوية الرقمية language processing أصبح الحوار والدردشة باللغة العربية الفصحى مع جهاز الكمبيوتر أو أجهزة الجوال الذكية أمر شائع في حياتنا اليومية مع التلفزيون المنزلي أو مع السيارات في الطريق !!.

خدمة اللغة العربية في العصر الرقمي

ما سبق ذكره واستعراضه بشكل مختصر يعطي تصورا عاما عن الخدمة الرقمية الحاسوبية التي تُقدَّم للغة العربية في العصر الحديث، وبهذه المناسبة نترحم على رائد علم البرمجة العربية رائد الأعمال الكويتي محمد الشارخ الذي يعود له الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في إدخال اللغة العربية إلى البرمجيات الحاسوبية قبل حوالي أربعين سنة. وبما أننا في وارد سرد محطات وتاريخ خوارزميات اللغة العربية تجدر الإشارة إلى أن شركة (صخر) هي من أدخل لأول مرة تقنيات المعالجة الطبيعية للغة العربية NLP التي أاستُخدمت في تطوير النحو والصرف اللغوي والتشكيل الآلي للكلمات والجمل العربية، والمتمثل في برنامج (صححلي) المدقق اللغوي والإملائي المتطور.

وفيما يتعلق بما سبق وأن أشرنا له من برمجيات التعرف على الحروف العربية تجدر الإشارة إلى أن شركة صخر الرائدة هي من حصلت على براءات الاختراع في مجال التعرف البصري على الحروف العربية OCR وكذلك براءة الاختراع في مجال الترجمة الآلية من اللغة العربية إلى الإنجليزية وكذلك تقنية النطق العربي. من هذا وذاك حصل محمد الشارخ رحمة الله عليه على جائزة الملك فيصل العالمية في خدمة الإسلام لعام 2021 ولهذا بمشيئة الله سوف يخلده التاريخ لخدمته وعنايته باللغة العربية، كما خلد ذكر أبي الأسود الدؤلي مؤسس علم النحو العربي، ورفع ذكر الخليل الفراهيدي مؤلف أول معجم لغوي عربي وأبرز عبقرية عبد القاهر الجرجاني مؤسس علم البلاغة، واعترف بأسبقية ابن سلام الجمحي بأنه أول من كتب في النقد الأدبي وتغنى بروعة وإبداع خطوط ابن ملقة شيخ الخطاطين العرب.

في القديم والحديث قام الرواد والأوائل من العباقرة بتطوير وخدمة اللغة العربية بصور وأشكال متعددة في مختلف المجالات والعلوم، ومنذ ظهور التقنيات العلمية الحديثة انتقل شرف خدمة اللغة الخالدة بواسطة العقول البشرية إلى فضاءات جديدة تخدم فيها اللغة العربية العقول الإلكترونية والأدمغة الرقمية.  وهذا يقودنا للحديث عن الاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي في خدمة وتطوير اللغة العربية. ويأتي هذا المقال المتزامن مع اليوم العالمي للغة العربية ولهذه السنة (2024) أهمية خاصة يمكن من خلالها ربط اللغة العربية بالذكاء الاصطناعي. فقد تم الإعلان قبل عدة أشهر عن أربعة علماء في تخصصات مختلفة حازوا على جائزة نوبل لعام 2024 نظير تطويرهم لتقنية الذكاء الاصطناعي واستخداماته. وقبل ذلك بفترة قصيرة توفي إلى رحمة الله أبو الكمبيوتر العربي محمد الشارخ. ولذا سوف نختم الحديث عن (خوارزميات اللغة العربية) بالربط بين تقنية المعالجات اللغوية NPL المعربة التي طورتها شركة صخر وبين مجهودات هذه الشركة في توظيف تقنية الذكاء الاصطناعي لتقديم خدمات إضافية عميقة ومبتكرة للغة العربية. ولله الحمد في هذه السنة بالذات أي عام 2024 تم الإعلان كذلك من جهات وهيئات ومراكز بحثية متعددة عن إطلاق حزمة مشاريع وبرامج متطورة تهدف لمزيد من توظيف الذكاء الاصطناعي في تعزيز ريادة اللغة العربية. ومن ذلك التعاون البارز بين الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) وبين مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية والذي أثمر عن إطلاق مؤشر (بلسم) لتقييم وقياس نماذج اللغة العربية في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي. وكذلك قيام مختبرات المركز الوطني للذكاء الاصطناعي التابع لسدايا بتطوير برامج تقنية تركز على اللغة العربية مثل نموذج (علاّم) اللغوي المشابه لبرنامج شات جي بي تي لكن عبر منصة رقمية باللغة العربية. وفي ذات السياق يقوم معهد قطر لبحوث الحوسبة في جامعة حمد بن خليفة بتطوير برنامج ذكاء اصطناعي آخر مشابه لبرنامج جي بي تي يحمل اسم (فنار) يهدف إلى تعزيز نسبة تمثيل اللغة العربية في عالم الذكاء الاصطناعي. هدف تعزيز رقمنة اللغة العربية في فضاء الذكاء الاصطناعي هو كذلك محل اهتمام مختبر الأساليب الحاسوبية لنمذجة اللغة (مختبر كامل) التابع لجامعة نيويورك أبوظبي وكذلك أحد أبرز إسهامات جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي التي تنفذ أحد أكبر النماذج الرقمية اللغوية العربية (نموذج جيس).

مخرجات ومنتجات هذا التعاون المتعدد الجهات والهيئات الحكومية أو الشركات الخاصة لخدمة اللغة العربية من خلال خوارزميات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بمشيئة الله سوف تكون مخرجات مذهلة غير متوقعة. ولكن أنا شخصيا في المرحلة الحالية أكتفي بتوليد برمجيات رقمية على شكل برنامج (صححلي) من شركة صخر لعل اسمه يكون (أعرب لي) أو (سيبويه) بدلا من أن يقوم فقط بالتدقيق اللغوي يمكنه من خلال تفعيل خوارزميات التحليل الصرفي والنحوي والدلالي أن يقوم بتقديم خدمة إعطاء الإعراب النحوي الكامل لأي نصوص عربية حتى ولو كانت كتبا كاملة وليس فقط إعرابا نحويا لجمل قصيرة. وفي مجال الشعر العربي يمكن لبرمجيات الذكاء الاصطناعي تحديد نوع بحور الشعر لأي قصيدة معطاة أو قد يصل الأمر إلى تطور كبير في جودة البرمجة لدرجة أن تستطيع الخوارزميات الرقمية إنتاج قصائد شعرية سليمة من ناحية علم العروض وبحور الشعر. وبمناسبة الأحداث الأخيرة في سوريا العروبة أليس من الشيق أن يطلب أحدنا من برامج الذكاء الاصطناعي أن ينظم قصيدة (فرحة دمشق) في سيطرة الثوار على مدينة دمشق تكون على وزن قصيدة أحمد شوقي (نكبة دمشق). أو يطلب بعضنا من الذكاء الاصطناعي التوليدي أن يبدع قصيدة في بداية مسيرة الثوار بالدخول لمدينة حلب بحيث تكون القصيدة المولدة إلكترونيا معارضة لقصيدة أبي الطيب المتنبي التي يقول فيها (قلنا حلبٌ قصدنا وأنت السبيلُ).

تواصل مع الكاتب: ahalgamdy@gmail.com

الزوار الكرام: يسعدنا مشاركتكم وتواصلكم حول هذا المقال

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

license
0 التعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
guest

شبكاتنا الاجتماعية

  • facebok
  • twitter
  • Instagram
  • Telegram
  • Youtube
  • Sound Cloud

يسعدنا أن تشاركونا أرائكم وتعليقاتكم حول هذهِ المقالة عبر التعليقات المباشرة بالأسفل أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي الخاصة بالمنظمة

icons
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x