عبر السنوات قرأت الكثير من الكتب باللغتين العربية والإنجليزية عن تاريخ الطب والمحطات التاريخية الأساسية في قصة الطب والأطباء، وقد كان لهذه الكتب أساليب متعددة لعرض محتواها المعرفي. فبعضها يركز على استعراض مسيرة مشاهير الأطباء (مثل كتاب الأوائل في الطب Medical Firsts) بينما البعض الآخر يحكي قصة الطب من خلال منظور الأدوية والعلاجات الصيدلانية (مثال كتاب الدواء: من فجر التاريخ إلى اليوم). لكن أكثر كتاب طبي استمتعت بالاطلاع عليه أيّما استمتاع كان كتاب (أمراض لها تاريخ .. قراءة مرضية في سفر التاريخ) للطبيب الفلسطيني حسن أبو غزالة، ومن الغريب أن مواضيع الأمراض والأوبئة والأسقام هي أمور في العادة غير محبب الخوض فيها ومع ذلك كان ذلك الكتاب شيقا بشكل استثنائي.
من الأمراض التي لها تاريخ إلى التاريخ الذي أمرضته الأسقام والأوبئة وغيرت مسار المجتمعات الإنسانية وأعادت تشكيل معالم سياسة الدول والحكومات، وهذا هو مدار كتاب آخر ثري بالمعلومات الطبية والتاريخية وحمل عنوان ( 12 مرضا التي غيرت عالمنا 12 diseases that changed our world) لعالم الأحياء الأمريكي إروين شيرمان.
الجدير بالذكر أن الغالبية العظمى من هذه الأمراض الخطيرة والمفجعة التي شكلت مسار التاريخ البشري والتي وردت في ذلك الكتاب وغيره، هي اليوم ولله الحمد من التاريخ الغابر حيث أوشك العديد منها على الزوال شبه الكامل. فعلى سبيل المثال من ضمن الأمراض الاثني عشر التي أختارها الدكتور إروين شيرمان على أن لها تأثيرا على التاريخ الإنساني لا نجد اليوم منها ذي أهمية وخطورة إلا مرض الملاريا والحمى الصفراء والإيدز. وعلى نفس النسق نجد أن الكتاب السالف الذكر (أمراض لها تاريخ) ناقش الأهمية التاريخية لحوالي 15 مرضا الغالبية العظمى منها خف بشكل ملحوظ تأثيرها في حياة الناس اليوم، وهي بهذا من التاريخ الماضي باستثناء هذه الأمراض المستعصية: الملاريا والحمى الصفراء والتهاب السحايا (التيفوس) ومرض السكر ومرض الجنون.
والجدير بالذكر أن أول مرض تم استعراضه في كتاب (أمراض لها تاريخ) كان مرض (الجدري) ومن الطريف أن عنوان الفصل الذي يتحدث عن ذلك المرض الخطير والمريع كان (الموت الذي مات). وبالمناسبة فإن من دواعي تسطير هذا المقال أن اليوم السبت (26 أكتوبر) يوافق مرور حوالي نصف قرن على التشخيص الطبي لآخر مريض في التاريخ البشري يصاب بمرض الجدري، وهو الشاب الصومالي والذي أصيب في عام 1977م بالجدري وتعافى منه. ومن ثم أصبحت كتب التاريخ والطب جميعها تعرف اسم ذلك الشاب (علي ماو معالين) وتخلد ذكره. وبعد ذلك بفترة قصيرة أعلنت منظمة الصحة العالمية في يوم الثامن من شهر مايو من عام 1980م بأن مرض الجدري تم (استئصاله eradicated) والقضاء عليه بشكل كامل وهو بهذا أول مرض بالغ الخطورة والانتشار في الماضي تم التخلص منه وإبادة الفيروس المسبب له وذلك بفضل الله سبحانه وتعالى وفضل التوسع في استخدام التطعيمات واللقاحات الطبية بالإضافة لاستخدام المضادات الحيوية.
لإدراك القفزة الهائلة التي أنجزتها البشرية بالتخلص من هذا المرض الوبائي القتال يكفي أن نشير إلى أن السبب الأساسي لهلاك عشرات الملايين ممن يسمون بالهنود الحمر في القارة الجديدة راجع للعدوى التي اجتاحتهم عندما نقل الأوروبيون مرض الجدري إليهم بعد أن أهدوهم البطاطين الملوثة ببثور الجدري حسب القصة المشهورة. ومن الهنود الحمر إلى الهنود السمر في القارة الهندية حيث كان مرض الجدري مصدر خوف كبير للسكان لدرجة أنه قادتهم عقولهم المريضة لعبادة إلهة هندوسية تسمى شيتلا زعموا أنها الحامية من مرض الجدري وتوجد في عقائد الشعوب البدائية آلهة أخرى مشابهة تمت عبادتها لنفس السبب مثل الآلهة الأفريقية سبونا الإلهة الخاصة بمرض الجدري.
لمئات السنين كان مرض الجدري أحد أكثر الأمراض المعدية فتكا بالبشر والأمر الصادم أنه خلال القرن العشرين فقط تشير التوقعات أن عدد الضحايا الذين توفوا بسبب مرض الجدري بلغ حوالي 300 مليون شخص، وأن ثلث حالات الإصابة بالعمى في العالم كانت ناتجة من الأضرار الجانبية لمرض الجدري. وفي الخمسينيات من القرن العشرين كانت تقديرات منظمة الصحة العالمية أنه كان يصاب سنويا بمرض الجدري رقم هائل جدا بلغ 50 مليون مريض. والآن أدرك لماذا ذاكرة الطفولة لديّ كانت تسجل العدد الملحوظ من الأشخاص المشوهة وجوههم وأيديهم بآثار حبوب وبثور الجدري ولماذا تعاطفنا ونحن صغار مع المسلسل البدوي (ساري العبدالله) الشاب المصاب بالجدري والذي ترحل عنه قبيلته وتتركه وحيدا حتى لا ينقل لها العدوى. هكذا ساد وانتشر مرض الجدري ثم بفضل الله نجحت الحملة العالمية للتخلص من هذا الوباء الشنيع. وبالرغم من أنه في عام 1967م كان الجدري ينتشر في 42 بلدا ويحصد سنويا حياة حوالي مليونين ونصف المليون ضحية، ولكن ما إن مرت عشر سنوات فقط وحلت سنة 1978م إلا وأصبح عدد الأشخاص المصابين بالجدري (صفر) بعد أن تم القضاء على هذا البلاء.
الأمراض البائدة .. منحصرة في الطب ورائجة في الأدب
لا شك أن مرض الجدري هو أفضل مثال على مقولة (أمراض سادت ثم بادت) ومع ذلك توجد تشكيلة من الأمراض والأسقام المهلكة الأخرى التي (سادت) لفترة من الزمن في الماضي ثم تلاشت بشكل كبير في عصرنا الحاضر وإن لم تكن (بادت) بنفس درجة الاستئصال التام لمرض الجدري. في القرون الوسطى كانت القارة الأوروبية تعاني من تفشي وباء الجدري الذي وصل عدد ضحاياه في بعض الفترات إلى حوالي ثلث السكان وهي نسبة هائلة من أعداد الضحايا لم يستطع تحقيقها قبل ذلك إلا وباء الطاعون والذي وصف بحق بأنه (الموت الأسود). وتذكر كتب التاريخ أن انتشار وباء الطاعون الأسود في القارة الأوروبية في منتصف القرن الرابع عشر تسبب في هلاك ثلث سكان تلك البقاع. لفترة من الزمن كان وباء الطاعون من الأمراض القاتلة التي سادت ثم بادت، فبعد أن تسبب هذا الوباء في حصد أرواح حوالي 50 مليون شخص قبل عدة قرون تناقصت ولله الحمد أعداد المصابين بهذا المرض لبضع مئات من الأشخاص في الزمن الحالي، وحسب منظمة الصحة العالمية فإن عدد الأشخاص الذين يتعرضون للإصابة بمرض الطاعون سنويا في حدود 200 شخص يتوفى منهم في المتوسط حوالي عشرة أشخاص فقط.
الجدير بالذكر أن آخر وباء خطير بالطاعون حصل في عام 1894م في هونغ كونغ وتسبب في مصرع حوالي ستة آلاف شخص وهو رقم منخفض نسبيا مقارنة بموجات وباء الطاعون في التاريخ القديم التي أهلكت الملايين. وفي ظل هذه المعلومة الإحصائية عن تلاشي مرض الطاعون منذ بداية القرن العشرين لعله من الملائم الإشارة إلى أن الأديب الفرنسي البارز ألبير كامو (الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1957م) كان يكتب من نسج الخيال أحداث روايته المشهورة التي أعطاها عنوانا مختصرا ومباشرا (الطاعون). صحيح أن ألبير كامو بعد وفاته دفن في بلدة صغيرة بالقرب من مرسيليا تلك المدينة الفرنسية التي شهدت في عام 1720م انتشار وباء الطاعون والذي حصد حياة أكثر من مائة ألف مريض وهو بهذا كان آخر وباء خطير من هذه الدرجة تشهده القارة الأوروبية. ومع ذلك عندما ألف ألبير كامو رواية الطاعون ربما لم يكن قد شاهد في حياته أي شخص أصيب بذلك المرض. من المعروف أن ألبير كامو ولد في الجزائر وقت الاحتلال الفرنسي لها ولهذا أحداث رواياته الكبرى تدور هنالك. فرواية (الغريب) تقع أحداثها في مدينة الجزائر العاصمة بينما رواية (الطاعون) تتخيل وقوع وباء الطاعون في مدينة وهران والتي في الواقع قد تعافت هي والمدن الجزائرية الأخرى من هذا الوباء منذ قرون طويلة.
والمعنى أن الأمراض الفتاكة والأوبئة المريعة فرضت سيادتها على التاريخ والجغرافيا في فترة ما ولكن عندما بدأت هذه الأمراض تتلاشى وتباد في الزمن المعاصر انتقلت تلك الأمراض من عالم الطب إلى دنيا الأدب، وتم توظيف رمزيتها القوية في الحبكات الدرامية الأدبية والفنية. وهذا يقودنا إلى رواية (الحب في زمن الكوليرا) للمبدع الكبير الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1982م والتي تدور أحداثها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. من الملائم الإشارة إلى أنه عندما نشر غابرييل ماركيز رواية (الحب في زمن الكوليرا) لأول مرة في عام 1985م كانت التقديرات تشير إلى أن عدد الوفيات على مستوى العالم بسبب مرض الكوليرا في تلك الفترة تقارب الثلاثة ملايين شخص سنويا ولهذا كان من المقبول أن يوظف غابرييل ذلك المرض القاتل في المشهد النهائي لتلك الرواية البديعة. ومع ذلك وباء الكوليرا ولله الحمد بعدما ساد فترة من الزمن بدأ بالانحسار بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة لدرجة أن عدد الوفيات السنوية انخفض من خانة الملايين إلى خانة عشرات الآلاف فقط ولله الحمد.
في واقعنا العربي خيمت قبل سنوات قليلة جائحة حزينة لوباء الكوليرا في أرض اليمن السعيد تسببت في شقاء شريحة من ذلك الشعب وحزن الملايين المتعاطفون مع هذه الكارثة الصحية الأليمة. ومع ذلك في العصر الحديث تبقى ديار المحروسة أرض مصر هي من تلقت آخر موجة خطيرة لتفشي وباء الكوليرا الذي انتشر في القاهرة وما حولها من مدن مصر وذلك في صيف عام 1947م وتسبب ذلك المرض في وقوع حوالي 20 ألف حالة وفاة. وبما أننا في قاهرة المعز وعاصمة مصر المحروسة ونحن في وارد الحديث عن توظيف الأمراض السائدة في الأعمال الأدبية ومع ذلك فلن نقف طويلا عند رواية (الحرافيش) لنجيب محفوظ التي تبدأ بانتشار وباء قاتل ربما يكون الكوليرا (كان يسمى في تلك الفترة: وباء الهيضة) والذي لم ينج منه أحد إلا بطل المرحلة الأولى للرواية: عاشور الناجي.
ولكننا سوف نعرج على مرض فتاك كان له انتشار واسع حتى العقود الأخيرة وهو مرض السُّل حيث تشير التقديرات الصحية أنه في القرن التاسع عشر كان مرض السل يتسبب فيما نسبته حوالي 25% من مجموع الوفيات في بريطانيا بل وحتى عام 1918م كان مرض السل يتسبب في وفاة واحد من بين كل 6 وفيات في فرنسا. وبعد أن كان مرض السل منتشرا بشكل مخيف في القارة الأوروبية نجد أن هذا المرض السائد بدأ في الانحسار في منتصف القرن العشرين وخصوصا عندما اكتشف العلماء المضاد الحيوي الستربتوميسين الفعال جدا في القضاء على جرثومة هذا المرض.
في منتصف القرن العشرين وفيما علماء الأحياء الدقيقة يكتشفون المضادات الحيوية لدواء السل نجد أنه في عام 1947م ينشر نجيب محفوظ روايته البديعة (خان الخليلي) وفيها نجد أن ذروة الدراما عندما يصاب الفتى الشاب رشدي بمرض السل ولهذا ينصحه الطبيب بأن يذهب للعلاج في مصحة للأمراض الصدرية في مدينة حلوان حيث الهواء الجاف للصحراء. بينما في رواية (الجبل السحري) للأديب الألماني توماس مان الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1929م نجد أن بطل تلك الرواية الشاب هانز يذهب إلى مصحة طبية تقع في أعلى جبال الألب السويسرية الباردة يتم فيها علاج المرضى المصابين بمرض السل.
والغريب أنه بالفعل يوجد ترابط بين مرحلة الشباب ومرض السل والأدب، فالعديد من مشاهير الأدب أُصيبوا في شبابهم بمرض السل مثل صاحبنا الفرنسي ألبير كامو سالف الذكر ورائد القصة القصيرة الروسي أنطون تشيخوف الذي قضى عليه مرض السل كما قضى على الكاتب التشيكي البارز فرانز كافكا وهو في أواخر مرحلة الشباب. وكذلك نجد أن شعراء الإنجليز البارزين لهم ارتباط بمرض السل مثل جون كيتس الذي توفي بالسل بينما معاصره اللورد بايرون الذي مات وهو شاب بالحمى بالرغم من أنه قال في يوم من الأيام (كم أتمنى أن أموت بالسل حتى تقول عني السيدات ما أجمل منظره عندما يموت).
في الختام لقد طال المقال وضاقت المساحة عن استعراض كيف انحسرت بعض الأمراض الأخرى التي كانت شائعة قديما وانتقل الاهتمام بها من كتب الطب إلى روايات الأدب مثل مرض الجذام وحمى التيفوئيد والحصبة والسفلس (الزهري) ومرض السعار (داء الكَلَب) وطبعا لن ننسى وباء العصر (فيروس الكوفيد ومرض الكورونا). أرجو أن أكون أثرت الفضول وحب الاستطلاع لدى القارئ الكريم ليكمل فكرة هذا المقال ويبحث بنفسه عن علاقة هذه الأمراض بالأدب بعدما سادت ثم بادت.
البريد الإلكتروني: ahalgamdy@gmail.com
___________________________
نُشر حديثاً للكاتب
هل الفوز بجائزة نوبل يضر بالصحة ؟!