قبل حوالي قرن من الزمن وبالتحديد في 1917م أدخل أينشتاين مفهوم الثابت الكوني حتى تتوافق نظريته النسبية العامة التي توصل لها قبل ذلك بسنتين مع المفهوم الشائع حتى ذلك الزمن، أن الكون (ثابت) من حيث المكان والحجم وهو كذلك (سرمدي) من حيث الزمن بمعنى أن الكون ليس له رزنامة أو تقويم زمني يتم من خلاله تحديد لحظة بداية نشوء الكون (هذا طبعا قبل ظهور نظرية الانفجار العظيم Big Bang). ومن المشهور كذلك أن أينشتاين (خلخل) ثابتية الزمن، فحسب النظرية النسبية الخاصة التي اكتشفها عام 1905م يمكن للزمن أن يتغير لدرجة أن يتمدد ويتباطأ، فالزمن بكل بساطة (نسبي) وليس مطلقا.
لإثبات صحة النظرية النسبية لأينشتاين بأن الزمن يتباطأ كلما زادت سرعة الجسم المتحرك وهو المفهوم الذي يُعرف أحيانا بـ ( تمدد الزمن time dilation) ولذا تم إجراء تجربة علمية في عام 1971م عندما وضع علماء الفيزياء أربع ساعات ذرية على متن رحلات طيران متعددة تسافر لمسافات طويلة عبر القارات. وبعد وصول تلك الطائرات ومقارنة الزمن الفعلي على الأرض بالزمن المقاس على تلك الساعات الذرية الدقيقة جدا في قياس الزمن لجزء من البليون من الثانية استطاع العلماء رصد وجود تغير في الزمن بمقدار طفيف جدا وفق ما تنبأت به النظرية النسبية. إن فكرة وظاهرة أن الزمن نسبي وغير مطلق يمكن رصدها عن طريق (السفر) ولكن هذه المرة ليس عن طريق الطائرات النفاثة وبرفقة الساعات الذرية، ولكن يمكن بافتراض وجود (آلة الزمن) التي يمكن السفر بها إلى الماضي السحيق.
أثناء إقامة وتدريس أينشتاين في جامعة برينستون الأمريكية العريقة كان من أكثر أصدقائه المقربين عالم الرياضيات النمساوي غريب الأطوار كورت غودل، والذي بعد أن قام بالتحليل الرياضي لجزء من النظرية النسبية يتعلق بما يسمى معادلات المجال تبين له أنه يمكن من الناحية (الرياضية) البحتة السفر عبر الزمن إلى الماضي. تلك الفكرة العلمية الثورية التي ظهرت في عام 1949م أذهلت أينشتاين بشكل كبير وإن كانت أعطت تصورا أن النظرية النسبية نفسها غير مكتملة. في الواقع السفر للماضي يخالف (أسهم) الزمن التي تنطلق في اتجاه واحد ولهذا، لتحقيق الانتقال إلى الماضي لا يكفي فقط تصنيع (آلة الزمن) الخرافية، ولكن يجب جعل الكون (يدور) في الاتجاه المعاكس أو كما تختزله ذاكرة الطفولة من القصص المصوّرة لمغامرات سوبرمان أنه كان إذا أراد أن يرجع إلى الماضي يدور حول كوكب الأرض بسرعة الضوء، ولكن عكس دوران الأرض.
وبالبناء على أفكار الطفولة تلك ولو تخيلنا الفكرة الساذجة أنه يمكن تصنيع صاروخ يمكن أن يدور حول الأرض بسرعة الضوء وبعكس محور دوران الأرض وبهذا يمكن الرجوع في الزمن للوراء لملايين السنين للفترة التي يعشقها جميع الأطفال (عصر الديناصورات). المسافر عبر الزمن لمدة 70 مليون سنة في الماضي البعيد سوف يفاجأ بتغيرات كثيرة في العالم من حوله ليس أقلها إن حجم القمر في السماء أكبر من حجمه الحالي لأن القمر في ذلك الدهر السحيق كان أقرب إلى كوكب الأرض وبالتالي فإن تأثير جاذبية القمر على الأرض جعلت سرعة دوران الأرض حول نفسها (أسرع). ما أود الوصول إليه أن زمن أينشتاين يمكن أن يتمدد ويكون أبطئ وفي المقابل الزمن (اليومي) بالنسبة للديناصورات كان (أقصر) حيث كان 23.5 ساعة وليس 24 ساعة بل ولو رجعنا في الزمن أكثر من ألف مليون سنة لوجدنا مدة اليوم الأرضي 19 ساعة فقط حسب ما تشير الدراسات الجيولوجية والفلكية الحديثة.
وإذا علمنا بأن عدد الثواني في اليوم الأرضي الواحد (86400 ثانية) وأن العلماء قد رصدوا أن معدل سرعة دوران الأرض حول محورها يتباطأ كل سنة بمقدار 17ميكرو ثانية (الميكرو يعادل جزء من مليون جزء)، وهذا وإن كان زمنا بالغ القصر إلا أنه مع امتداد العصور الجيولوجية المتطاولة يصبح له تأثير كبير يصل لعدة ساعات، وكما أشرنا سابقا بأن اليوم الأرضي قديما كان 19 ساعة فقط. وعليه فإن هذا التزايد الطفيف في طول اليوم الناتج عن التباطئ المستمر في معدل سرعة دوران الأرض مع الوقت يؤثر على دقة قياس الزمن وصحة الرزنامة والتقويم السنوي. والجدير بالذكر أن علماء الفلك والاتحاد الدولي للاتصالات وضعوا توقيتا زمنيا عالميا دقيقا يسمى (التوقيت العالمي الموحد UTC) وفيه نجد أن عدد الثواني باليوم الواحد هي 86400 (1440 دقيقة)، لكن المشكلة في (آخر دقيقة) من اليوم فهي تتذبذب من سنة لأخرى فأحيانا قد تنقص وتصبح فقط 59 ثانية في حين أنها قد تزيد لتصل إلى 61 ثانية. ولكي يتم إلغاء هذا التذبذب في طول اليوم الأرضي أقترح علماء الفلك استخدام ما يسمى (الثانية الكبيسة leap second) بمعنى أنه يتم تعديل في التوقيت العالمي الموحد بمقدار ثانية واحدة بالزيادة (أو النقصان) ويحصل هذا التعديل بفترات زمنية مختلفة وليس مثل (السنة الكبيسة) التي تحصل كل أربع سنوات وتكون دائما (بزيادة) يوم في الرزنامة السنوية. الجدير بالذكر أن آخر ثانية كبيسة تمت إضافتها للتوقيت العالمي الموحد كانت بعد آخر ثانية من عام 2016م ومنذ ظهور مفهوم الثانية الكبيسة عام 1972م تم عبر السنوات المختلفة إضافة ما مجموعة 27 ثانية كبيسة.
كيف يمكن (مسح) 11 يوما من الرزنامة
كأني ببعض القراء الكرام قد يعجبون من حرص علماء الفلك ومهندسي أقمار الاتصالات على دقتهم المبالغة في تحديد التوقيت الزمني بمستوى إتقان يصل إلى جزء من المليون من الثانية وربما أدق من ذلك. ولكن السبب في ذلك أن نظام تحديد المواقع باستخدام الأقمار الفضائية المعروف باسم (نظام التموضع العالمي GPS) يشترط تحديد الزمن بدقة مذهلة جدا، ولهذا تجدر الإشارة إلى أنه في الوقت الحالي فإن شبكة الأقمار الفضائية الأمريكية لنظام تحديد المواقع GPS تشتمل على 24 قمرا صناعيا يحمل كل واحد منهم أربع ساعات ذرية بالغة الدقة. وبحكم أن تلك الأقمار الاصطناعية ترافق الأرض وقت دورانها حول محورها، لذا فإن ذلك التباطؤ السنوي في زمن دوران الأرض حول نفسها بمقدار (17 ميكروثانية) يجب تصحيحه باستخدام نظام (الثانية الكبيسة) سالفة الذكر وإلا سوف (يختل) عمل أجهزة الهواتف الذكية وأي أجهزة تقنية تحتاج تحديد الموقع بدقة كبيرة.
واختلال حياة الإنسان المعاصر في حال عدم استخدام نظام (الثانية الكبيسة) يقودنا للحديث عن اختلال حياة الإنسان القديم قبل تبني استخدام نظام (السنة الكبيسة) ودورها في ضبط الرزنامة السنوية للبشر في العصور الوسطى. نحن حاليا قريبي عهد بيوم السبت 14 من شهر سبتمبر ويوم الجمعة الذي يسبقه بكل سهولة نعلم أنه يوم 13 سبتمبر، ولكن هذه السلاسة والمنطقية في حساب الأيام ومعرفة التواقيت لم تكن على هذه الدرجة من السهولة في يوم 14 سبتمبر من عام 1752ميلادي. ربما أغلبنا قد مرّ عليه خبر الحدث التاريخي الطريف والغريب والمتعلق بتغيير التقويم السنوي في أوروبا من التقويم الجولياني الذي فرضه الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر في سنة 46 قبل الميلاد إلى التقويم المعدل والمحدث (التقويم الغريغوري) الذي فرضه البابا غريغوري الثالث عشر وأدخل فيه تصحيح (السنة الكبيسة Leap year). الطريف في تلك القصة أنه نظرا للخلل الكبير الذي أصاب التقويم الروماني القديم والذي كان يحسب رحلة دورة الأرض حول الشمس بأكثر من مدتها الحقيقة بمقدار 11 دقيقة، ولهذا عبر السنوات تراكم هذا الخطأ في أراضي الجزر البريطانية ليصبح حوالي 11 يوما كاملة.
المشكلة تكمن أنه حتى عام 1752 كانت السنة الميلادية الجديدة تبدأ كل عام من يوم 21 لشهر مارس وهو اليوم الذي يتوافق مع (عيد الفصح) المسيحي والذي يتوافق تقريبا مع موعد الاعتدال الربيعي. ولكن بسبب وجود ذلك الخلل في دقة حساب السنة الميلادية بسبب الخطأ في تلك الـ (11 دقيقة) الذي أفرز مع الزمن خطأ في التقويم بمقدار (11 يوما) ولهذا عيد الفصح وبداية السنة الميلادية الجديدة أصبح توقيته مع مرور الزمن بعيدا بشكل محرج عن توقيت الاعتدال الربيعي. وهذا ما أجبر البرلمان البريطاني بعد نقاش وجدال طويل استمر لعدة سنوات على أن يوافق على (اعتماد) التوقيت الغريغوري بديلا عن التوقيت الجولياني ولهذا تقرر أن يوم الأربعاء الموافق 2 من شهر سبتمبر لعام 1752م سوف يتلوه يوم الخميس ليس (3 من سبتمبر) ولكن يوم (14 من سبتمبر) بمعنى أنه تم إسقاط (11 يوما) من الرزنامة. لقد ظهرت العديد من القصص والطرائف بل وحتى الرسومات الفنية عن هذه الأيام الإحدى عشرة (الضائعة) لدرجة شيوع خبر غير دقيق فحواه أن البعض في الجزر البريطانية في ذلك الزمن قاموا بالمظاهرات والاحتجاجات الرافعة لشعار (أعيدوا لنا أيامنا الإحدى عشر).
ومثل هذه الاحتجاجات لو صحّ حدوثها وكذلك النقاش الطويل في البرلمان الإنجليزي قبل إقرار اعتماد التوقيت والرزنامة الغريغورية الجديدة والمحدّثة يعطى دلالة على أن ذلك الخلل بواقع 11 يوما في التقويم القديم كان له أثر كبير على عقائد الإنسان القديم، ولهذا تم التصحيح بإدخال مبدأ (السنة الكبيسة) كما تم في الزمن المعاصر تصحيح مشكلة تباطؤ دوران الأرض بإدخال مبدأ (الثانية الكبيسة). وبسبب البعد الديني والعقائد وتأثيره في قبول الرزنامة الجديدة تجدر الإشارة إلى أن فكرة (إسقاط) الأيام المختلة من الرزنامة قد حدثت أكثر من مرة، ولكن تباطؤ الإنجليز في تقبل هذه الفكرة يعود إلى أسباب (التعصب الديني). سبق أن أشرنا بأن (التوقيت الغريغوري) المنسوب إلى بابا الفاتيكان الكاثوليكي غريغوري الثالث عشر الذي بتأثير من بعض علماء الفلك في زمانه أصدر مرسوما بإسقاط عشرة أيام من الرزنامة وبهذا فإن يوم الخميس الرابع من أكتوبر لعام 1582م كان يتلوه مباشرة يوم الجمعة (15 من أكتوبر). ولكن بحكم أن الشعب البريطاني وأغلب شعوب أوروبا الغربية كانت على المذهب البروتستانتي فلهذا تأخروا لحوالي قرن ونصف قبل أن يتنازلوا أخيرا ويعتمدوا تلك البدعة البابوية المسماة من باب الاستخفاف (الرزنامة البابوية popish calendar). بسهولة نسبية استطاع بابا الفاتيكان غريغوري الثالث عشر أن ينتصر على الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر في حرب التقاويم تلك وأن يغير روزنامة التاريخ في أغلب الدول الأوروبية، ولكنه فشل في هزيمة الراهب الإصلاحي مارتن لوثر ومن ثمّ تعثر في غزو الجزر البريطانية وتوابعها لمدة 170 سنة ولهذا عندما حصل أخير قبول مبدأ التعديلات الفلكية أصبحت الأيام المحذوفة من الرزنامة 11 يوما بدلا من 10 أيام.
وفي الختام قد نتوقع أنه في واقع حضارتنا الإسلامية العريقة المبنية على استخدام (التقويم القمري) فإن العالم الإسلامي لم يواجه قديما مثل تلك المشاكل الناتجة من الخلل في رصد زمن دوران الأرض حول الشمس. ولكن في الحقيقة من الناحية التاريخية نجد أنه بالفعل بالإضافة لوجود (التوقيت الهجري) وجد قديما ما يسمى (التوقيت الجلالي)،
وهي رزنامة فلكية تنسب إلى السلطان السلجوقي جلال الدولة ملك شاه. قبل حوالي ألف سنة كان وما زال للثقافة الفارسية تأثير ملموس على الأقاليم الإسلامية في وسط آسيا ومن ذلك شيوع الاحتفال بعيد النيروز وما يتبع ذلك من ضبط مواسم الزراعة. بالمناسبة موعد عيد النيروز الفارسي هو يوم 21 مارس وهو بالضبط نفس موعد عير الفصح المسيحي ولأنهما يتوافقان مع توقيت الاعتدال الربيعي لذا أي خلل ولو طفيف في الرزنامة السنوية تحرف هذين العيدين عن موعدهما. ولهذا كما قام بعض علماء الفلك بإقناع البابا غريغوري الثالث عشر بتعديل الرزنامة السنوية استطاع عالم الفلك المسلم عمر الخيام ورفقائه من علماء الفلك في مرصد أصفهان من إقناع السلطان جلال الدين ملك شاه من تبني تقويم سنوي جديد ومعدل وبذا تحولت السنة الهجرية من السنة القمرية إلى السنة الشمسية وهو ما زال معمولا به حتى الآن في إيران وأفغانستان.
البريد الإلكتروني: ahalgamdy@gmail.com