في العقود الأخيرة، تسبب التطور الاقتصادي العالمي في زيادة كبيرة في التحضر مما تطلب القضاء على المناطق المزروعة لإقامة مشاريع البناء والبنية التحتية للنقل والمرافق التجارية ومناطق تخزين النفايات أو معالجتها. وقد نتج عن هذا التمدد الحضري تأثيرات بيئية سلبية مثل تدمير التربة وتغيير خصائصها لا سيما في المناطق ذات المناخات الجافة مثل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حيث تتأثر التربة أيضا بعوامل أخرى كالملوحة والتآكل والتصحر. ومن المتوقع أن تتزايد هذه المشاكل بمرور الوقت خاصة مع التوقعات بانخفاض هطول الأمطار بنسبة 25٪ وزيادة درجة الحرارة بمقدار درجتين مئويتين بحلول عام 2050 في المنطقة.
أظهرت دراسات سابقة أن أحد العوامل لتدهور التربة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو التوسع الحضري، والذي تسارع في العقود الأخيرة. وقد أدى تلوث التربة وفقدان نفاذيتها، وتوليد النفايات، إلى زيادة معدلات الجريان السطحي وتقلص الغطاء النباتي في العديد من المدن مثل الإسكندرية والقاهرة والدار البيضاء والدوحة ومسقط والرياض.
دفعت هذه الوضعية العلماء إلى البحث عن حلول تعالج المكونات الثلاثة للاستدامة (الاقتصاد والبيئة والمساواة). وبرز اهتمام كبير باستخدام الحلول المستوحاة من الطبيعة أو باستخدام “البنى التحتية الخضراء” بوصفها شبكات متعددة الوظائف من المساحات الخضراء يتم انشاؤها بهدف معالجة مجموعة واسعة من قضايا الاستدامة البيئية نظرا لقدرتها على التأثير على المتغيرات المتعلقة بالتربة والمياه والمناخ والتنوع البيولوجي خاصة داخل المناطق الحضرية.
في الوقت الحالي، تُستخدم التربة المصنّعة المكونة خاصة من نفايات البناء والنفايات العضوية على نطاق واسع في إنشاء البنى التحتية الخضراء داخل المناطق الحضرية في الولايات المتحدة وأوروبا، إلا أن الحاجة إلى هذه الحلول قد تكون أوكد في مناطق مثل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
أهمية التربة المصنعة في التخلص من النفايات وبناء بيئة مستدامة
في دراسة مراجعة منشورة مؤخرا في دورية (Science of The Total Environment) العلمية، قام فريق دولي من الباحثين بقيادة الباحثة السورية مها الديب من جامعة العلوم التطبيقية والفنون في سويسرا باستكشاف إمكانية استخدام التربة المصنعة كحل للأراضي المتدهورة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال تحليل نتائج الدراسات السابقة التي تناولت موضوع استخدام التربة المصنعة لمنع وتخفيف تدهور الأراضي في المناخات الجافة سواء في المناطق الحضرية أو خارجها.
وشملت المراجعة مجموعة من البحوث التي تناولت مشاريع استخدام التربة المصنعة في عدد من المناطق الجافة في العالم مثل قطر والبحرين والإمارات العربية المتحدة والأردن وتونس.
يقول الباحثون إنه رغم اعتماد اقتصادات غالبية البلدان النامية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على الزراعة مع إنتاج مرتفع للنفايات العضوية (حوالي 67٪ من إجمالي نفاياتها)، فإن التوسع الحضري المتسارع في هذه البلدان، يؤدي بدوره إلى توليد كميات هائلة من نفايات البناء والهدم.
وبما أن إنشاء مكبات للنفايات يعتبر مكلفا ويتطلب مراقبة وإدارة طويلة الأمد، فإن إعادة استخدام النفايات العضوية وغير العضوية لإنشاء تربة مصنعة هو حل جذاب سواء بالنسبة للبلدان الغنية أو متوسطة الدخل. ويتمتع المحتوى العضوي العالي من النفايات الزراعية بأهمية خاصة في التربة المصنعة لما تتمتع به من خاصيات مفيدة مثل الاحتفاظ بالمياه في التربة والتقليل من الحاجة إلى الأسمدة. وبفضل هذه المواد العضوية يكون نمو النباتات أمرا ممكنا مما يساهم في خفض درجة الحرارة في المناطق الحضرية، ويحسن بالتالي المناخ المحلي ويحد من آثار الغازات المسببة للانحباس الحراري. كما أن استخدام النفايات العضوية وغير العضوية في إنشاء التربة المصنعة يغني عن الحاجة إلى نقل النفايات أو تشغيل مواقع معالجتها، ويقلل بالتالي من تلوث الهواء والتربة والمياه ومن المخاطر الصحية العامة حيث يمكن استخدام النفايات مباشرة لبناء التربة.
مراحل انشاء التربة المصنعة
بحسب الباحثين فإن عملية إنشاء التربة المصنعة تتطلب عدة خطوات:
الخطوة الأولى: تشخيص حالة التربة وتحديد عوامل التدهور فيها (الملوحة، التعرية، فقدان المواد العضوية، التلوث، الانسداد، الخ)، إلى جانب تحديد خصائص تضاريسها الذي يعد أمرا لازما خاصة في مشاريع تجميع المياه في مناطق محددة داخل المدن قصد الحد من السيول والفيضانات، واستعادتها لاحقا عند الحاجة. وتتمتع هذه المناطق بأهمية كبيرة في النظام البيئي الجديد خاصة في تعافي التربة أسفل المنحدر من خلال تراكم الماء والمواد الدقيقة (الطين أو الكربون أو المواد العضوية الطينية). ويسهّل هذا التراكم نمو النباتات مما يخلق مناخا محليا معدّلا (الظل، وخفض درجة الحرارة المنخفضة نسبيا، وما إلى ذلك). كما يمكن إنشاء المساحات الخضراء داخل المدن باستخدام التربة المصنعة حيث يمكن للمباني توفير المأوى من تآكل الرياح، والطلب على خدمات النظام البيئي مرتفع في المدن، وسيكون بناء المساحات الخضراء مفيدًا للغاية هناك.
الخطوة الثانية: البحث عن النفايات المتوفرة محليًا وتقييم خصائصها الزراعية والمائية. يمكن أن تتضمن هذه الخطوة تشجيع ممارسات التسميد على المدى الطويل مع تثبيط حرق مخلفات النباتات، فضلاً عن تطوير أسواق لإعادة بيع مخلفات النباتات. تشمل المعايير الرئيسية لاختيار النفايات أن تكون النفايات غير سامة، ولها قيمة زراعية، ومتاحة، مع ضرورة تجنب مواد النفايات التي تحتوي على نباتات غازية.
إنشاء ثلاث طبقات تحديد وظيفتها هي أحد مراحل تطبيق التربة المصنعة (المصدر : دراسة المراجعة)
الخطوة الثالثة: إنشاء ثلاث طبقات من التربة المصنعة وتحديد عمقها ووظيفتها.
الطبقة الأولى أو طبقة التغطية وتتمثل في تغطية سطح التربة أو تغليفه بالمواد العضوية (مثل بقايا الحيوانات والنباتات)، أو غير العضوية (مثل الرمل والحصى والخرسانة والبولي إيثيلين والبلاستيك)، أو المواد المختلطة. وتعد طبقة التغطية مهمة للحد من تبخر الماء وتراكم الملح والتآكل وفقدان المواد العضوية عن طريق الأكسدة. كما تعزز أيضا التنوع البيولوجي والخصوبة من خلال تقليل جريان المياه أو تأثيرات الفيضانات، وخاصة بعد فترة طويلة من الجفاف، وتحسين السيطرة على الإجهاد الملحي.
أما الطبقة الثانية فهي طبقة النمو النباتي، ويتم إنشاؤها عن طريق خلط أنواع مختلفة من النفايات العضوية مع النفايات المعدنية المتاحة أو التربة الأصلية في الموقع لتسهيل نمو النباتات بسرعة. في هذه الطبقة يمكن إضافة السماد بنسبة 10٪ من الحجم على عمق 30 سنتيمترا، وقد يتطلب الأمر زيادة المحتوى من السماد إلى 30٪ إذا كان الهدف هو إنتاج المحاصيل. ويمكن أن يختلف عمق هذه الطبقة حسب نوع النباتات، مثل الأشجار أو الشجيرات أو الأعشاب
الطبقة الثالثة والأخيرة هي طبقة نمو الشعيرات وهي ضرورية لأن النباتات تقوم في ظل الظروف الجافة، بسحب الماء من عمق الأرض نحو السطح عن طريق التدفق الشعري، وفي غياب هطول الأمطار أو الري، يؤدي ذلك إلى تراكم الأملاح وتثبيط نمو النباتات. ولمكافحة عملية التملح، يمكن إنشاء هذه الطبقة باستخدام الحصى الخشن أو المواد غير المنفذة التي تحتفظ بالمياه وبالتالي تمنع كليًا أو جزئيًا تمدد الشعيرات نحو الأسفل وتمنع تراكم الملح في التربة السطحية.
الخطوة الرابعة: اختيار النباتات المناسبة للتربة المصنّعة، وهو أمر بالغ الأهمية لضمان نموها في المناخ الجاف. ويتعين إعطاء النباتات المحلية أولوية مطلقة، حيث أكدت العديد من الدراسات على أهميتها في ظل الظروف المتدهورة للنظام البيئي. في المقابل، أظهرت دراسات أخرى أن النباتات الغريبة أو الغازية قد تتسبب في نقص المياه الجوفية في حين تحافظ أنواع الأشجار الأصلية عليها، وكان التنوع البيولوجي أعلى عند استخدام النباتات المحلية مقارنة بالنباتات الغريبة في الأراضي المتدهورة.
وقد أظهرت بعض التجارب التي أجريت في المناطق ذات المناخات الجافة، أن بعض الأنواع من النباتات مثل الشويعرة (Poaceae) والطلح أو الأكاسيا (Fabaceae) والمرار أو القنطريون (Asteraceae) تقلل من فقدان المياه وتحسن الظروف المحلية. لذلك، فمن الضروري اختيار الأنواع المناسبة بعناية ودمج هذه الاختيارات في تصميم هندسة التربة لزيادة نجاح مشاريع استصلاحها، كما يقول المؤلفون.
فوائد التربة المصنّعة في المناطق المتوسطية وشبه القاحلة والجافة
أظهرت عدة دراسات أجريت على مجموعة متنوعة من استخدامات الأراضي أن التربة المصنّعة تعمل على تعزيز تخزين المياه والتنوع البيولوجي الميكروبي، وزيادة إنتاج النباتات وبقائها، كما تعمل على تقليل كمية المياه اللازمة للري ومنع التآكل وزيادة الملوحة. وفي السياقات الحضرية، ثبت أن التربة المصنّعة تعمل على تقليل التكاليف، وتوفير حلول لإدارة النفايات، وتقليل الغازات المسببة للانحباس الحراري، وتحسين نوعية الحياة، مع التأكيد على أن تأثيرات المواد العضوية المضافة عند إنشاء التربة تنخفض تدريجيا بمرور الوقت.
لاحظ مؤلفو دراسة المراجعة أن الفكرة وراء التربة المصنّعة تتمثل في توفير بيئة مستدامة لنمو النباتات، غير أن الري الإضافي الذي يكون ضروريا في السنوات الأولى من الإنشاء لتجنب موت النباتات، قد يكون مكلفا، خاصة في النظم البيئية شبه القاحلة وهي مناطق ذات تدهور شديد مثل صحراء. ومع ذلك، فإن تحديد المناطق ذات الأولوية وتطبيق التربة المصنعة على بقع صغيرة باستخدام المواد المهدرة والنفايات، يمكن أن يقلل التكاليف.
يؤكد المؤلفون أن كلفة تدهور التربة تكون في نهاية المطاف أعلى من كلفة استعادة الأراضي. ويمكن أن يكون إنشاء التربة المصنعة حلا فعالا من حيث التكلفة ويتيح في نفس الوقت إعادة تدوير كمية كبيرة من النفايات، لذلك فإنه من الأهمية بمكان اعتبار التربة المصنّعة مكونا مهما للحلول القائمة على الطبيعة للحد من انبعاثات الغازات المسببة للانحباس الحراري والتخفيف من تغير المناخ.
المصادر
The urgency of building soils for Middle Eastern and North African countries: Economic, environmental, and health solutions
.
البريد الإلكتروني للكاتب: gharbis@gmail.com