قبل عقدين من الزمن اتهم الكيميائي الأمريكي روالد هوفمان (الحاصل على جائزة نوبل في عام 1981م) وسائل الإعلام بأنها تشن حملة ظالمة ضد الكيمياء بتصويرها بأنها خطرة وملوثة و(مملّة)، ولهذا أخذ على عاتقة تأليف كتاب عن الجوانب الشيقة للكيمياء. صحيح أنني قرأت كتاب روالد هوفمان (the same and not the same) وبالرغم من فائدته الكبيرة لي إلا أن أحد أجمل وأكثر الكتب الكيميائية التي قرأتها تشويقا كان كتابا يحمل عنون (أزرار نابليون: كيف غير 17 مركبا كيميائيا التاريخ)، وبالمناسبة على الغلاف الخارجي لهذا الكتاب يوجد إطراء من روالد هوفمان على الكتاب. فكرة عنوان ذلك الكتاب (أزرار نابليون) تشير لمفهوم شائع في التاريخ البشري أن بعض الأحداث السياسية والعسكرية يمكن أن تتغير بشكل جذري بسبب خلل بسيط، وخذ على ذلك مثال غزو نابليون الشهير لروسيا في فترة الشتاء وهزيمته المنكرة وكيف أنها ربما ما كانت لتحدث لو أن قادة الجيش الفرنسي اختاروا النوع الملائم من أزرار المعاطف المقاوم للبرد.
بشيء من المبالغة تفترض المؤلفة الكندية بيني لي كوتور أن الجيش الفرنسي الكبير عندما تزامن غزوه لروسيا مع شتاء عام 1812م تسبب البرد الروسي القارص في تفتت وتكسر أزرار المعاطف والسراويل المصنوعة من عنصر القصدير بدلا من الحديد أو النحاس أو حتى العظام. ونتيجة لتعرض الجنود الفرنسيين للبرد الشديد بسبب عدم كفاءة معاطفهم في تدفئتهم حصلت هزيمة نابليون المذلّة وتغير التاريخ بشكل كبير. ذلك الخلل التقني البسيط المتمثل في صناعة الأزرار من معدن غير مناسب للصقيع يلخص كيف أن التقنية الصناعية عندما تفشل حتى ولو في مستوياتها الدنيا، يمكن أن تتسبب في معاناة كبيرة للبشرية جمعاء.
وكلنا شاهدنا وعاصرنا هذا الأسبوع حالة الإرباك والفوضى والقلق التي انتشرت في مختلف بقاع الأرض بسبب الخلل التقني الذي نتج عن واقعة بسيطة مثل تحديث أحد برامج الحماية في مجال الأمن السيبراني مما نتج عنه تعطل عمل البرامج الحاسوبية في قطاعات حساسة مثل البنوك والمستشفيات وشركات الاتصالات بل وحتى القنوات الفضائية. ومع تلك التغطية الإعلامية والفضائية بل وحتى تغطية وسائل التواصل الاجتماعي لآثار هذا العطل التقني كانت تركز بشكل أساسي على صور ومظاهر تكدس الركاب والمسافرين في صالات المطارات بعد الخلل الفني الذي أصاب الشبكات الإلكترونية لشركات الطيران العالمية.
في الواقع قطاع الطيران والسياحة والسفر شديد الحساسية لأي مشاكل تقنية أو فنية لأن هذا القطاع بالذات قائم على نظام (الحجوزات المبكرة) ونظام العمل المتسلسل والمتوالي فأي لخبطة في أي مرحلة سرعان ما تتراكم المشاكل وتتداخل وهذا يلخص مأساة أنه (عندما تفشل التقنية فإن البشرية هي من تعاني).
في مطلع عام 1995م تم افتتاح مطار مدينة دينفر عاصمة ولاية كاليفورنيا الأمريكية والذي كان في ذلك الوقت أحد أكبر وأحدث المطارات في العالم وبعد سنوات من التأخر في تشغيل المطار وبالرغم من بلايين الدولارات التي صرفت عليه، كان حفل التدشين للمطار فضيحة عالمية كاملة. والسبب في ذلك حصول خلل واحد فقط في أحد أنظمة المطار المعقدة جدا والمتداخلة والذي سبب ربكة كاملة لعملية تشغيل المطار، وذلك لأن النظام الجديد لنقل حقائب الركاب لم يتم تصميم شبكته الإلكترونية بشكل سليم مما جعل حقائب السفر تتساقط من فوق السير المتحرك مما أدّى إلى بعثرة ملابس المسافرين أمام كاميرات الصحفيين ومراسلي القنوات الفضائية.
في الواقع قبل حوالي سنتين وبعد تشغيل الصالات الجديدة لمطار الملك عبدالعزيز بجدة حصل بعد موسم رمضان من عام 1444هـ ربكة كبيرة استمرت لمدة أسبوع، وفي حينها كتبت مقالا بعنوان (دراما السفر.. مطارات تتهاوى) حشدت فيه أمثلة متعددة عبر التاريخ والجغرافيا لمشاكل محرجة حصلت في أحدث وأشهر المطارات الدولية مثل مطار لندن ومطار برلين. وفي الغالب هذه المشاكل التقنية في تشغيل هذه المطارات الكبرى يجمعها قاسم مشترك واحد أنه (خلل فني في نظام الحواسيب).
وهذا يقودني لتذكر مقالة قرأتها أثناء سنوات البعثة في عام 1998م في الكتاب الرائع لعالم الفيزياء الأمريكي المعاصر جيمس تريفيل والذي كان عنوانه الرئيس (101 شيء لا تعرفه عن العلم) وعنوانه الفرعي (ولا يعرفه أحد أيضاً). وفكرة الكتاب طرح سؤال أو فكرة عن موضوع غريب في العلم والتقنية هو موضوع نقاش وبحث لم يحسم بعد، ومن ذلك تلك الفقرة رقم 98 من الكتاب والتي كان عنوانها (لماذا ما زلنا نواجه أزمات مستمرة مع البرمجيات؟).
وفي الواقع، افتتاحية هذه الفقرة تناقش مشكلة مطار دينفر سالفة الذكر مع الخلل التقني في نظام نقل حقائب السفر وما سبب ذلك من مشاكل للركاب وخسائر مالية. والمقصود أن المشاكل المرتبطة بالخلل في نظام الحواسيب والبرمجيات قديمة ومتكررة وكذلك مزعجة ومحرجة، لأن التقنية كانت وما زالت عندما تفشل تسبب خذلانا خطيرا يؤثر على البشر. بقي أن نقول إن الفقرة الأخيرة في ذلك الكتاب (101 شيء لا تعرفه عن العلم) المنشور عام 1996م كانت تحمل سؤالا (هل سينتهي العالم في اليوم الأول من شهر يناير لعام ؟2000). وهذا يشير إلى أن العلماء ومنذ سنوات عديدة قد تنبهوا لما كان يسمى (مشكلة عام 2000 أو Y2K bug)، ولهذا دار الجدل منذ البداية عن أي مدى يمكن أن تتسبب تلك المشكلة في تقنية برمجة الحاسب في ضرر كبير للبشرية مع الساعات الأولى من مطلع القرن الميلادي الجديد. صحيح أننا نعلم الآن الجواب على هذا السؤال وهو أنه ولله الحمد، لم يحصل أي ضرر ملموس من دودة عام ألفين Y2K bug باستثناء عشرات المليارات من الدولارات التي أنفقت لتفادي هذا (الخلل في نظام الحواسيب) وكذلك القلق النفسي من (خذلان التقنية للبشرية) مع بداية عام ألفين.
الخراب والهلاك في عالم (الديجتال)
بمناسبة الإشارة في الفقرة السابقة لسيناريو نهاية العالم يجدر التنويه أنه يوجد في الغرب العديد من مراكز الأبحاث المتخصصة في وضع التصورات والنظريات والحلول للأخطار الكبرى التي سوف تواجهها البشرية في المستقبل القريب والبعيد . ومن ذلك معهد مستقبل الإنسانية الموجود بجامعة أكسفورد البريطانية والذي يديره العالم والفيلسوف السويدي نيك بوستروم الذي وضع فرضية (العالم المعرض للخطر)، ويقصد بها أن الحضارة البشرية يمكن أن يحصل لها ضرر هائل بسبب أن تقنية ما قد تخرج عن السيطرة وتتسبب في تدمير العالم من حولنا. وقريبا من ذلك ما توصلت له دراسات وأبحاث مركز المخاطر الوجودية الذي تحتضنه جامعة كامبريدج البريطانية والذي بدوره هو الآخر توصل لنظرية مشابهة لها عنوان غريب هو (البطاقات التقنية الجامحة .. المخاطر الوجودية والإنسانية المتغيرة). وعلى كل حال، ما تطرحه نظريات علم المستقبل أن بعض الأحداث نادرة الوقوع يمكن أن يكون لها تأثير هائل وما استجد في السنوات الأخيرة أنه بعد ما كانت موجة التحذير عالية وصاخبة نحو خطورة الأسلحة النووية والمفاعلات الذرية أو انفلات السيطرة على الفيروسات المحوّرة وراثيا أو التداعيات الأخلاقية والقانونية لأبحاث الاستنساخ أو الجينوم أو حتى الأخطار المجلوبة من عالم الخيال العلمي مثل غزو الفضائيين أو سيطرة الروبوتات، بعد هذا كله أصبح القلق يتركز أكثر وأكثر على آثار خلل التقنية في مجال البرمجيات والخوارزميات وبالذات أخطار انفلات (الذكاء الاصطناعي).
في السابق كان الرهاب من التقنية (تيكنوفوبيا) بل وحتى القلق من التقنية أمر نادر وغير مبرر لدرجة أنه كان يعتبر (اضطراب نفسي) يحتاج للعلاج، ومع ذلك في الزمن الحديث تزايدت وتصاعدت (مسوغات) القلق من (فشل) التقنية وأنها بالفعل قد تسبب الضرر على البشر كأفراد ومجتمعات. ولهذا تحول مفهوم (القلق من التقنية الرقمية Digital Anxiety) من مجرد التوتر والانزعاج من الفشل من التعامل مع الأجهزة الحاسوبية أو شبكة الأنترنت إلى مفهوم أكثر تعقيدا وأشد خطورة وهو أن التقنية الرقمية يمكن أن ينجم عنها مخاطر جسدية ونفسية ومالية حادة.
في نهاية التسعينيات من القرن العشرين وعندما بدأ أفراد جيل الطييبين يتعرفون على الهواتف المتنقلة وعلى كيفية الاتصال بشبكة الانترنت كانت (قلاقل) التقنية محدودة نسبيا مقارنة بالسنوات الأخيرة عندما أصبح يتم تحذير ذلك الجيل أنه بسبب أميته الرقمية قد يقع في كارثة (الاحتيال الرقمي) الذي قد يسطو على رصيده المالي في البنك. في العام الماضي فقط أفصحت لجنة التجارة الفيدرالية أنه في الولايات المتحدة وحدها بلغت الخسائر والمسروقات المالية من جراء الاحتيال الرقمي عبر شبكة الأنترنت مبلغا مهولا يصل لحوالي عشرة بلايين دولار.
مخاطر ومخاوف ومآسي (عالم الديجتال) لا تقف عند سرقة المدخرات المالية للأفراد، بل قد يتعدى خطرها مراحل أخطر من ذلك بكثير وهذا يشمل ما يسمى (الهجوم السيبراني Cyperattack). وفي الواقع هذا الهجوم الإلكتروني في أخطر مستوياته يهدف إلى تدمير وتخريب شبكات وأنظمة المعلومات الرقمية للجهات الحكومية أو الشركات التجارية والمالية، ولهذا لا غرابة أن يطلق على هذا النوع من الجرائم العابرة للقارات مصطلح (الإرهاب الإلكتروني).
وفي يوم الجمعة الماضي 19 يوليو 2024 ، ومع الساعات الأولى من حادثة الخلل الفني للشبكات وأجهزة الكمبيوتر في العديد من الدول الغربية والذي وصف بأنه (أسوأ خلل تقني في التاريخ) اتجهت أصابع الاتهام مباشرة نحو دولة روسيا بأنها قامت بتنفيذ (حرب سيبرانية Cyperwarfare) ضد دول حلف الأطلسي كردة فعل للحرب الأوكرانية. وفي هذا السياق يجدر أن نشير إلى أنه في العام الماضي قامت مجموعة من الهاكر الروس بالتسلل إلى أنظمة شبكة الاتصالات الأوكرانية ومحاولة تعطيلها. وقبل عدة أشهر فقط نشر فريق بحثي من جامعة أكسفورد قائمة لأكثر الدول الخطرة التي تستخدم السلاح الرقمي في الهجوم السيبراني على الدول والشركات والأفراد ووفق (المؤشر الدولي للجرائم السيبرانية) فإن دولة روسيا الاتحادية هي على رأس القائمة في جرائم المعلوماتية وتليها أوكرانيا ثم الصين ثم أمريكا ثم نيجيريا والمفاجأة أن بريطانيا نفسها جاءت في المرتبة الثامنة من قائمة العار هذه !!.
وفي الختام صدق الله العظيم الذي قال في محكم التنزيل: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها و ازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصّل الآيات لقوم يتفكرون)، فسبحان الله بالفعل الحضارة البشرية هشّة وضعيفة ومعرضة للزوال في لحظات سريعة كما هي فرضية (العالم المعرض للخطر The vulnerable world hypothesis) سالفة الذكر.
في السابق كان عالم الهلاك والخراب (الديستوبيا) يفترض أنه قد ينتج بسبب الحروب النووية أو تدمير الحضارة البشرية بسبب الاصطدام بكويكب أو نيزك ضخم أو نتيجة تفشي أمراض قاتلة ومعدية. واليوم، تبين أنه حتى التقنية الناعمة (soft-tech) مثل التقنية الرقمية والبرمجيات والخوارزميات الإلكترونية قد تتسبب في حال أصابها العطل والخلل في حصول الخراب والهلاك الرقمي digital dystopia الذي يشل الحضارة البشرية بعد بتر الإشارات الإلكترونية عن عصب التقنية النابض.
البريد الإلكتروني للكاتب: ahalgamdy@gmail.com