إن الحديث عن معنى التميز في العلم والبحث العلمي والحاجة إليه ليس بالأمر السهل.. لدى الكثير منا شعور بديهي حول ماهية التميز في العلم، ولكن عندما نحاول تحليل المفهوم عن كثب، تصبح مشكلة فلسفية يصعب تفسيرها.
يمكن أن يتخذ التميز البحثي أشكالاً متعددة ومختلفة وبالتالي يكون تقييمه على مستويات متعددة أيضاً. وليس هناك تعريف موحد للتميز البحثي تعتمده جميع السياسات العلمية والبرامج البحثية والمؤسسات البحثية حول العالم حتى الآن..
لقد ارتبط تقييم جودة البحث وتميزه تقليدياً بالمعايير الكمية المتعلقة بالنشر في المجلات، ولكن يبدو أن هناك توجهاً متزايداً نحو اعتبار أن للتميز جوانب متعددة الأبعاد ومتكاملة غير تلك المتعلقة بالمنشورات. وقد ظهرت العديد من المبادرات والحوارات العلمية والبحثية على مستويات مختلفة في دول العالم لبحث هذا الموضوع، وإعادة النظر في تقييم البحوث، مثل إعلان سان فرانسيسكو لتقييم البحوث (DORA)، وغيره، بهدف تطوير فهم مشترك لقيم ومبادئ البحث والابتكار؛ كأساس موثوق به للتعاون الدولي والتقييم.
كيف يمكن الحكم على التميز في العمل العلمي؟
إذا نظرنا إلى تاريخ تطور تخصص علمي ما لمدة عشر سنوات، فغالبًا ما يكون من السهل نسبيًا تحديد الاختراقات والأفكار الأساسية والتجارب أو الملاحظات النقدية، والتي هي أمثلة على علم ممتاز. ولكن حتى من منظور تاريخي، لا بد أن نفوت بعضًا من أفضل الأعمال. ننسى الأفكار التي ثبت خطأها، وكل الأعمال العلمية الممتازة التي تكون ضرورية أحيانًا لإثبات أن الفكرة ليست مفيدة أو غير مدعومة بالأدلة، أو تلك الأعمال المهمة والممتازة التي أدّت إلى الوصول إلى تلك الأعمال التي تُعدّ من الاختراقات الأساسية. يجب أن نتذكر أن التميز الحقيقي مطلوب ليس فقط في اكتشاف أفكار جديدة ومثمرة، ولكن أيضًا في العثور على دليل على أن بعض الأساليب غير صالحة. أيضاً، هناك حالات أخرى تم فيها إنجاز عمل ممتاز، ولكن تم نسيانها لاحقًا، لأن الوقت لم يحن بعد للأفكار الأساسية فيها للحصول على القبول، أو لأنها لم تنتشر بشكل ملائم أو لأنها لم تجد من يبني عليها عملاً علمياً متميزاً (ظاهرة الجميلة النائمة)، وقد أشرنا إليها في مقال سابق، وهناك أمثلة كثيرة جدا في هذا الموضوع.
وإذا كان من الصعب تحديد جميع الأبحاث الممتازة التي أجريت في إطار تخصص علمي بأثر رجعي، فسيكون الأصعب هو تحديد التميز في العلوم المعاصرة أو عمل تنبؤات حول المستقبل. ولكن هذا ما نحاول القيام به عندما يُطلب منا تقييم المرشحين للوظائف البحثية أو التدريس في إحدى الجامعات أو عندما نحاول اختيار أفضل الأشخاص والمشاريع من بين عدد كبير من الطلبات للحصول على منحة بحثية أو الفوز بجائزة تميز. إن المشكلة الحقيقية هي أننا نحاول عمل تنبؤات حول التميز المستقبلي في العلوم.
في عملية التقييم، يميل الكثير من الباحثين ومعظم مسؤولي الجامعات ومجالس الأبحاث نحو اعتماد الأدوات الببليومترية. وذلك بسبب الرغبة في الحصول على أداة كمية بسيطة، والتي بمساعدة الكمبيوتر والإنترنت ستعطي مقياسًا “موضوعيًا” للتميز.
على سبيل المثال، من المؤشرات التي تستخدم في تقييم التميز العلمي لانتاج باحث ما أو مؤسسة بحثية، هو عدد الأوراق المنشورة في مجلة لها عامل تأثير مرتفع، ولكن معظمنا يعلم أن تميز البحث لا يرتبط ارتباطًا مباشرًا بعامل تأثير المجلة التي نُشر فيها العمل، ولا بعدد الاستشهادات، ولا بعدد الأوراق المنشورة للباحث، أو حتى بمؤشرات ببليومترية أخرى أكثر تطورًا. بالطبع، هناك بعض الارتباط، لكنه لا يكفي أبداً للاعتماد عليه عند التقييم. كما أن الاستخدام غير النقدي لهذه الأدوات يؤدي بسهولة إلى استنتاجات خاطئة. على سبيل المثال، يرتفع عامل التأثير للمجلة بشكل أساسي من خلال عدد الاستشهادات لأفضل الأوراق، وليس جميع الأوراق العادية التي تنشرها. ونحن نعلم جيدًا أنه حتى المجلات عالية التأثير مثل ساينس ونيتشر أو المجلات عالية التأثير في مجالات أكثر تخصصًا، تنشر عددًا أقل من الأوراق البحثية الممتازة من وقت لآخر، ربما هي السبب المباشر لارتفاع عامل التأثير لها، وهذا يعني أنه ليس أن كل الأوراق المنشورة فيها هي أوراق متميزة. والمجلات الأقدم والأشهر والتي تنشر أعداداً أكبر من المقالات، يزداد احتمال أن تحصل على استشهادات أكثر لمجموع الأوراق فيها، فيرتفع بذلك عامل التأثير لها، أكبر من المجلات الناشئة أو التي لا تنشر الكثير من المقالات، رغم أنه من المحتمل أن توجد في هذه المجلات مقالات وأعمال أكثر تميزاً مما نشر في مجلات ذات عامل تأثير أكبر.
مع الأسف، وبسبب اعتماد المؤسسات البحثية والجامعات، خاصة في بلداننا العربية، في تقييمها للباحثين والترقيات والحصول على التمويل وغيره، على تلك المؤشرات الببليومترية بشكل شبه كامل نتيجة “البيروقراطية” واستسهال التقييم،
كثيرًا ما نجد علماء وباحثين يرون أن الحصول على عوامل ببليومترية عالية هو الهدف الأساسي لعملهم. نجد الكثيرين منهم ليسوا ممتازين حقًا، لكنهم محظوظون أو يعملون في مجال يسهل فيه الحصول على العديد من الاستشهادات. بل على العكس من ذلك، فغالبًا ما يكون معدل النشر المرتفع والعدد الكبير من الاستشهادات لكل ورقة علامة على ما أسماه توماس كون “بالعلم العادي normal science“، وهو يعني الدراسة والبحث على أساس معرفة علمية سابقة، وهو على نقيض العلم الثوري، لا يحاول العلم العادي الوصول إلى معلومات جديدة، ولكن يعمل على تأكيد المعتقدات العلمية الحالية وصقلها وحل ألغازها وإكمال النقص فيها، وهو أمر ضروري بالطبع، ولكنه غالبًا ما يكون مملًا إلى حد ما. هذا فضلاً عن أن اعتماد المؤشرات الببليومترية فقط، أدّى إلى تشجيع الكم على الكيف في البحث والنشر، وإلى بعض الممارسات غير الأخلاقية في الوسط العلمي.
إذا كنت تعمل بأساليب راسخة في مجال شائع، يمكنك أن تكون متأكدًا تمامًا من نشر أوراقك البحثية، مثل النشر حول مرض منتشر في وقت ما في مجلة طبية، فالباحثون في مثل هذه المجالات سيكون لديهم الكثير من المنشورات والاستشهادات،
لكن أبحاثهم ليست بالضرورة ممتازة. لذلك يجب علينا أن نسعى بكل ما نستطيع لمنع الأحكام والتقييمات من أن تكون مبنية بشكل أساسي أو حصري على الأساليب الببليومترية، والتي أصبحت مرضًا في العصر الحديث. نعم تؤخذ هذه البيانات في الحسبان، لكن لا تُعامل على أنها حقيقة مطلقة، أو أنها المقياس الوحيد.
إذن ما هو البديل للطرق الببليومترية؟
إنه بالطبع استخدام نوع من عملية مراجعة الأقران. ولكن حتى مراجعة الأقران لها عيوبها. ولا تعمل بشكل جيد إلا إذا كان الأقران المختارون ليسوا علماء جيدين فحسب، بل لديهم أيضًا نهج واسع الأفق لما يشكل مساهمات علمية ممتازة في مجالهم.
فمن عيوب مراجعة الأقران، أن الكثير من العلماء الباحثين المتميزين يعتبر أحدهم أن الطريقة الصحيحة الوحيدة للقيام بالعلوم هي بالضبط الطريقة التي يتبعها بنفسه. وغالبًا ما يصبح هؤلاء العلماء حكامًا أو مستشارين أو حتى صانعي قرار على مختلف المستويات، وسينعكس هذا على تقييمهم لأعمال الآخرين، وبالتالي يمكن أن يكون لهذا الموقف من التميز عواقب وخيمة، حيث قد يضيع العلماء أو المشاريع الواعدة حقًا في عملية الاختيار. لذا، من الضروري تذكير لجنة من الأقران بالبديهية القائلة بأن المساهمات الممتازة في العلوم يمكن أن تتم بطرق مختلفة جدًا وعلى مستويات مختلفة جدًا.
في عملية البحث أين يمكن أن نجد علوم ممتازة؟
هناك العديد من الطرق للقيام بالعلوم الجيدة وحتى العلوم الممتازة. فقد يصوغ أحد العلماء فرضية جديدة بناءً على فشل واحدة أقدم. قد تكون هذه مساهمة مهمة، حتى لو لم يكن العالم المعني قادرًا على اختبار الفرضية بنفسه.
قد يطور علماء آخرون طرقًا أو أساليب أو معدات جديدة مهمة، أو يجمعون البيانات بشق الأنفس في المختبر أو في الميدان باستخدام الأساليب المعمول بها. إن مجرد جمع البيانات الضرورية أو إجراء التجارب الصحيحة لاختبار فرضية جديدة صاغها شخص آخر يمكن أن يشكل أيضًا علمًا ممتازًا وذا قيمة.
يمكن أن ينتج عن إعادة التحليل النقدي لأعمال الآخرين المنشورة أو غير المنشورة، مع الاعتراف الكامل بالمؤلف الأصلي، رؤية جديدة مهمة، وبالتالي يمثل عملاً ممتازًا في العلوم. هناك العديد من الأنشطة العلمية المختلفة التي يمكن أن تكون ممتازة إذا تم إجراؤها بالطريقة الصحيحة. بل أنه حتى صياغة فرضية ثبت لاحقًا أنها خاطئة يمكن أن تكون مساهمة ممتازة في العلم.
الخلاصة، أن التميز في البحث يحتاج إلى جهود متواصلة من أجل التطور والنمو، وإلا فإنه سرعان ما يذبل ويموت.
وأن الطريقة الوحيدة لتحقيق التميز والحفاظ عليه على المستوى المؤسسي المطلوب، هي خلق ثقافة تكون فيها جودة البحث هي القوة الدافعة الوحيدة.
البريد الإلكتروني: mmr@arsco.org
اقرأ أيضاً للكاتب
تعلموا العلم للقيام به وليس للتحدث عنه
نظرة إلى الماضي وتطلع إلى المستقبل
العلم التشاركي .. تواصل علمي مع المجتمع